«إنني أحبّ الإنسانية، غير أن هناك شيئا في نفسي يدهشني: كلما ازداد حبي للإنسانية جملة واحدة، نقص حبي للبشر أفرادا… إنه ليتفق لي كثيرا أثناء اندفاعي في الأحلام أن تستبدّ بي حماسة شديدة ورغبة عارمة جامحة في خدمة الإنسانية، حتى قد ارتضي أن أصلب في سبيله إذا بدا هذا ضروريا في لحظة من اللحظات. ومع ذلك لو أريد لي أن أعيش يومين متتاليين في غرفة واحدة مع إنسان، لما استطعت أن احتمل ذلك، إنني أعرف هذا بتجربة، فمتى وجدت نفسي على صلة وثيقة بإنسان آخر أحسست بأن شخصيته تصدم ذاتي وتجور على حريتي، إنني قادر في مدى أربع وعشرين ساعة أن أكره أحسن إنسان. فهذا في نظري يصبح إنسانا لا يطاق لأنه مسرف في البطء في تناوله الطعام على المائدة، وهذا يصبح في نظري إنسانا لا يطاق لأنه مصاب بالزكام، فهو لا ينفك يتمخط، إنني أصبح عدوا للبشر متى اقتربت منهم … ولكنني لاحظت في كل مرة أنني كلما ازددت كرها للبشر أفرادا، ازدادت حرارة حبي للإنسانية جملة». (من رواية الفقراء).
لعلّه من الإجحاف والجور بمكان، اختزال عالمية الأدب الروسي في شخص فيودور دوستويفسكي (1821ـ1881)، على الرغم من الأفضال التي يحوزها في هذا المجال، كون أعماله الروائية، تحديدا، علاوة عن كونه عاش قاصا وصحافيا وفيلسوفا، لاقت رواجا كبيرا وتجاوبا بديعا من لدن كثيرين وفئات عمرية مختلفة، داخل وخارج روسيا، وترجمت إلى ألسن عديدة، أزيد من170 لغة، حسب المصادر التاريخية والأدبية التي خاضت في سيرته ومنجزه، لكن يبقى التساؤل ملحا، ومستحوذا على أذهان عشاق هذا الكاتب الذي حيّر لغزه كلّ من عرفه أو سمع عنه، قراء ونقادا وأصدقاء وأعداء على حد سواء: ما هي المعطيات التي أهّلته لهذه الكاريزما؟ معطيات لم يتلقّفها دستويفسكي، هدايا من السماء، بقدر ما تضعنا إزاء وجه متعدد تدرّج في مراتب النضال الوجودي والكتابي المرير طويلا، قبل أن يتسنّى له من الشهرة والانتشار والعالمية.
تعدّ رواية «الفقراء» العمل الروائي الذي سوف يأخذ معه ملامح نبوغ دستويفسكي في التشكّل، ما جعله يضمن سريعا، مكانته وتميّزه داخل الوسط الأدبي في سانت بطرسبرغ.
ضريبة الانتماء السياسي
تعدّ رواية «الفقراء» العمل الروائي الذي سوف يأخذ معه ملامح نبوغ دستويفسكي في التشكّل، ما جعله يضمن سريعا، مكانته وتميّزه داخل الوسط الأدبي في سانت بطرسبرغ، ليشبّ بعدها عن الطوق، ويصبح عاري الميول الأيديولوجية، مكشوفه تماما، بحيث سينضم لرابطة «بيتراشيفسكي» التي تنشط بشكل سري، بوصفها مشتلا للأفكار الاشتراكية المستقاة من الكتب والمراجع الممنوعة والمتّهمة بمعارضة ومناهضة نظام القياصرة في الحكم ، المكرّس لشتى أشكال الطبقية والقمع السياسي والاضطهاد. جريرة عرّضته للسجن أربع سنوات نافذة مع الأعمال الشاقة، ذيلتها ستّ سنوات أخرى في التجنيد الإجباري خارج روسيا، بعد أن تمّ إلغاء قرار إدانته بالخيانة الوطنية، الموجب لحكم الإعدام، وهكذا أثرت كل تلك التجارب ما يمكن أن تستثيره سياط الجلد السياسي، جسديا ووجدانيا، وسكبت من حرارة صدقها وعمق فلسفتها، في روح أدبياته، إلى أن رست به ضمن أفلاك محاكية لعالم سحري، قد لا يصنعه سوى مخيال مبدع وجودي مثله، يقف في المنطقة الوسطى، ما بين العقليتين الملحدة والأرثوذكسية.
معادلات الأنثوي
مع عمالقة الأدب ورواده، وهم يبلورونه رسالة عالمية، عابرة للحدود، متجاوزة لفوارق الجغرافيا واللغة والدين، لا حديث عمّا يخلّدونه في كتبهم على تنوّع هويتها التعبيرية وأجناسيتها، في غياب الأنثى كطرف وازن لا تستقيم المعادلة الإنسانية إلاّ بتجلياته وبحضوره الرّاجح في ميزان النوعين. والأكيد أن الأنثى والجة في هذه الرؤية، في انتصارها لإنسانية الكائن، بدرجة أولى. نجده وقد جرّب عيّنات من النساء، مرارا ، سواء داخل الزواج كرباط مقدس، أو خارج حدوده، مثلما يروي أثره، وكيف أنّه لثلاث مرات ذاق كأس الحبّ، مع أرملة صديقه ماريا إيسايفا، التي عاشرها كحليلة سبع سنوات لتفرّق بينها يد الرّدى أخيرا، لكنها ستحضر وبكامل رمزيتها في مجمل فصول روايته الشهيرة «الجريمة والعقاب». وفي محطة فعلية ثانية، الشابة المزاجية أبوليناريا سوسلوفا التي رفضت عرض زواجه بها، مؤثرة خيار الارتباط بعشيقها الإسباني، كون أن قرارا مصيريا كهذا، لا يمكن أن يبنى على لحظة إعجاب وارتجال عاطفي هو إلى المبدع في رمزيته أقرب، منه إلى دستويفسكي كشخصية حقيقية وككائن بشحمه ولحمه يعشق ويتنفس وينطبق عليه ما يسري على باقي البشر. كي تترك هذه الأنثى الطائشة أثرا فردوسيا في نفسية هذا الكاتب العبقري، الذي سيستثمر تجربة فشله معها، تلك النافرة، في رواية «الأبله» مثلما هو معروف. فالمحطة النهائية مع زوجته الثانية غريغوريفنا سنيتيكينا ومن ثم تتمة القصة القائلة بإنجابه منها وإسعاده بجملة من مواقفها البطولية لصالحه ضد انقطاع العمر به وإلمام الضائقة المالية به وانتهاء المطاف به مقامرا ومدمنا، تماما كما تورد ذلك طقوس كثيرة من روايته «الجريمة والعقاب».
عقيدة الشكّ
إن سيرته ونضاله حياتيا وإبداعيا، نفسيا ودينيا وفلسفيا ووجوديا، مهما تغنّى بالمذهب المادي وتصالح معه في الكثير من الأحيان، لم يك ليخلو بالكامل من جانب روحي بمعنى من المعاني، ينحاز لصفّ ما هو إنساني صرف، مسوّق لثقافة التسامح والتعايش ونبذ الفساد والحروب ولغة الدم والخراب، وتبدو رواية «الإخوة كارامازوف» المفتية بأيقونة من الوصايا والتعاليم المذبذبة ما بين ضفتي الإيمان والارتياب الفلسفي، انفتاحا على فعل أو تجربة حرث المسافة البينية، كرّا وفرّا، جيئة وذهابا، كي تُستقطر، بالتالي، تلكم العصارة التي اسمها المنجز الروائي الخالد، لدستويفسكي، احتفاء بحقول إنسانية أولى وأعمق وأشمل، تمور في أدغالها وتتماوج الأسئلة الوجودية والنفسية والدينية الكثيرة.
بقلم أحمد الشيخاوي
تجدر الإشارة إلى أن هذه القراءة سابق نشرها في جريدة القدس العربي تحت عنوان مغاير
الصورة عن موقع أندبندنت عربية