” زَرقاء بني نُمير: امرأة كانت باليمامة تُبصر الشَعَرةَ البيضاء” في اللبن، وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تُنذر قومها الجُيوش إِذا غَزَتهم، فلا يَأتيهم جَيْشٌ إلا وقد استعدُّوا له، حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم، فأمر أصحابَه فقطعوا شجراً وأمْسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم؛ قالوا لها: قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك، فكذَّبوها، وَصبِّحتهم الخيلُ، وأغارت عليهم، وقُتلت الزَّرقاء. قال: فَقوَّرُوا عَينيها فوجدوا عُروق عينيها قد غرِقت في الإثمد من كثرة ما كانت تَكْتحل به”،عن كتاب ( العقد الفريد) لمؤلفه ابن عبد ربه الأندلسي ،329هـــ.
في جميع الأحوال لم تكن الزرقاء مجرد عين عادية لقبيلتها اليمامة،تحرسها من زحف العدو والهجومات المباغتة،فتنبّه أهلها وعشيرتها إلى كلّ خطر محدق، وإن شككت في شخصيتها الأسطورية ،وقدرتها على الإبصار مسافة تعادل سير ثلاثة أيام بلياليها، التنظيرات العلمية بالخصوص، إذ حدّدت وفق معايير وقياسات رياضية بحثة، مسافة مجال الرؤية بالعين المجردة، في خمسة كيلومترات على الأكثر، ضمن مسار مستقيم، غير منحدر ولا ملتو أو محدودب.
بل كانت رغما عن السياق التاريخي، مهما حذف من تفاصيله أو أضيف إليها، تبعا لمنسوب الوعي لدى الأجيال في تعاقبها، قلت أنها كانت عروس نبوءة وبصيرة وحدس ثاقب.
هذا يضعنا في صلب الحديث عمّا هو خرافي وخارق ،في مقدور العقل البشري إتيانه، واليد الآدمية صناعته، بحيث ،غالبا ما تهيؤ أسباب استثارة أو دقّ ناموس الخطر الخارجي، على نحو خاص، وإتاحة فرص تلافيه ،وتفادي عواقبه الوخيمة، بيد أن الدوغمائية في هيمنتها على العقل السياسي المدبر، قد تحول دون واقع الإنصات إلى هؤلاء الذين يراقبون المشهد ببصائرهم ، ويذودون عن أوطانهم بمثل هذه الكرامات والمنح الربانية.
قريب من معاني هذه الحكاية العربية في بعدها الغرائبي، قصة أكثر غرابة وإن ارتبطت بالحجج والبراهين العقلية الدامغة، فوق أيّ شيء آخر، تلكم هي قصة حصان طروادة، لكنها بمعاني مختلفة جملة وتفصيلا، لما تورده قصة زرقاء بني نمير اليمامية،كونها تحيل إلى خطورة استنبات العداوة من الداخل، وكيف أن حصان طروادة الخشبي العملاق ،الذي يزن ثلاثة أطنان ويبلغ طوله108أمتار،حسب مؤرخي الأدب العالمي، واقتباسا عن الأوديسية وإلياذة هوميروس.
هذا ويعتبر بناء الإنسان والاستثمار في الرأس مال البشري ،إجمالا، بدل الاحتماء بالأبراج العاتية والجدر العظيمة والحصون المنيعة، أبرز وأهمّ الرسائل حوتها مراجع عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة، على أساس يتلقّن معه المواطن دروس المواطنة القحّة ،ويتشرّب بالتالي، ثقافة الانتماء التي تقيه مطبّات الانحراف ،والانجراف إلى إغراءات التطرّف والجاسوسية والعمالة ،وشتى ما يكون وبالا عليه وعلى وطنه سيان.
في إشارات قوية إلى أنّ العدو الداخلي،وسائر ما يندرج في حروب الخيانات،هو الأخطر على الأمم مما عداه ،وهو جوهر ما تؤكّده جل المصادر التاريخية عبر الأزمان وتزكيه.
نسوق ههنا نموذجا آخر، لعله من مشتقات حديثنا عن الأساطير الحربية التي أبادت أجيالا وقوّضت عروشا، تماما كما هو الحاصل في القصة التي نحن بصدد معالجتها،ولو أن هناك بعض المهتمّين ، يستبعدون أن تكون تلك الحرب الطاحنة نشبت بسبب اختطاف ملكة إسبرطة ” هيلين” من طرف “بارس” شقيق “هيكتور” أمير طروادة وقتها،مع أن كل الاحتمالات والأسباب واردة، مادمت خيوط هذه السيرة في غزلها لا تقل غرابة عن تفاصيل حرب البسوس التي أوقدت فتيلها ناقة،فما بالك بأميرة كما هو الشأو مع هيلين.؟
هناك في زمن سحيق،قبل الميلاد ب538عام ،وليمة بلشاسار،بما تحويه من صنوف المحرّمات والإغراق في العربدة وألوان المتع واللذة تصنعها كواليس مسامرة الخليلات والمحظيات،في عصارة ما يمكن استنباطه من تلكم السيرة، من عبر ودروس دينية وأخلاقية،يرفد معظمها في جوانب إدانة غطرسة وجبروت الملوك وحيادهم عن جادة الصواب والحق.
كان أن انقسم ملك بابل ما بين فارس و “ميديا “المتحالفتين،تبعا لخطة وإستراتيجية حربية محكمة،تجسّدت في تغيير مجرى النهر، ومن ثمّ التمكّن من فتح أبواب بابل من الداخل،واحتلالها بالكامل بعد قتل بلشاسار حاكمها الوثني الماجن المتطاول على الذات الإلهية.
يحدث ذلك لأسباب جمّة، إننا لنجد، حتّى آراء وأصوات المنجّمين، لا يلقى لها بالا،وتضرب عرض الحائط، أو يستخفّ بها في الغالب، كما هو الحال مع عرّافة طروادة،الأميرة كاساندرا.
بالعودة إلى ما تقدّم ،نلفي اللغز يكمن ،بدرجة أولى في تجاوز الإنسان ، بغية الاستثمار فيما سواه،عوضا عن تكوينه وإعداده الإعداد الايجابي الكامل،تفاديا للغزو والاعتداء الخارجي، وفي تغافل تامّ،وعمى كليّ عن حقيقة مرّة ،يكرّرها التاريخ،ويستفاد معها كيف أنّه وعلى نحو جنائزي درامي،قدر ما تغّيب إنسانية الكائن مختزلة في حريته وعدالته وكرامته وتوعيته وتغذية شخصيته بما يمنحها التوازن، ويربي فيها روح الانفتاح والتسامح، ويسلحها بمنظومة قيمية،تؤهلها للأدائية الوسطية ما بين الحقّ والواجب، حيثما غضّ الطرف عن بعض أو كلّ هذا، ينبت ورم خبيث اسمه الخيانة والتي تنطلق من الذات فتدمّرها قبل أن تجرف معها الآخر والوطن إلى دهاليز اليباب والانقراض . إنها، وبمختصر العبارة، أساطير الحروب مثلما يخلّدها تاريخ الأدب العالمي، ما بين الخيانة والحكمة التي زلزلت عروشا.