شهد الأدب العربي موجة من التحديث ارتبطت برغبة في النهل من مشارب إبداعية متنوعة ، سعى من خلالها أصحابها إلى المروق عن المسار الكلاسيكي نحو إحداث جمالي من خلال المحاولة الجادة في تطوير الآليات الفنية و تجاوز قواعد الكتابة السائدة بأشكال مختلفة غايتها فتح آفاق التعبير عن مشاغل الإنسان. ولكن الطريف هو تجاوز هذه الأشكال للسنن المألوفة إلى إحداث نماذج قد يصعب الحسم في انتمائها، خاصة حين يلتبس النثر بالشعر والشعر بالنثر. فيخلق من الجنس أجناسا ومن الشكل أشكالا لتطرح قضية التجنيس فنتجاوز الحديث عن شكل أدبي أو جنس إلى الحديث عن نص له خصوصياته عند كل كاتب. النص بماهر نسيج الألفاظ والكلمات المضمومة في معانيها والمنسقة تنسيقا – كما جاء في العرف العام – وهو سلاح في وجه براعات القول ومكر الكلام .
بهذا فهو مدلول ثقافي ، إنه سلاح مسلول على الزمان والنسيان كما ذهب إلى ذلك رولان بارت . في هذا الإطار تستوقفنا نصوص الشاعر الأديب شينوار إبراهيم التي يقول عن مثلها البعض “قصص قصيرة” أو “أقصوصة” ، ويقول عنها البعض الآخر “القصة –القصيدة ” أو القصيدة –القصة” . وبين هذه التسمية وتلك رحلة تيه . لعلنا ندرك ملامحها في هذا النموذج وهو نص “دموع متاهة”.الذي يطالعنا تشكيلا ممتدا يسيطر على كامل الصفحة حيث يحتشد الكلام وتتابع السطور فتسرف إسرافا في تغطية مساحة البياض حتى يمتزج المنظوم بالمنثور فيزجنا في دوامة التساؤل هل هو شعر نثري أم نثر شعري أم مجرد مفارقة مخادعة بين ما يوحي وما يوهم به الظاهر النثري ؟
قد تطرح من هذا المنطلق مسألة الشعرية في هذا النص بهذا التقابل مع النثري الذي تتوفر مفرداته على درجة من الكثافة .فالشعرية في المقابل هي اللغة المكثفة أي المقاربة بشكل أو بآخر للدرجة القصوى من الكثافة . لنقف إزاء نص قصير مكتنز فيه ما يقربه إلى الشعر فما هي أوجه الشعر فيه ؟
وأول مظاهر الشعرية ما جاء في العنوان . وقد ورد مركبا إضافيا “دموع متاهة “ المضاف فيه اسم نكرة (دموع) ورد في صيغة الجمع ويعني ماء العين وهو التعبير الفيزيولوجي عن حالة التفجع والأسى وقد يختزل معنى البكاء وما يتصل به من شجن . أما المتاهة فهي ما يتاه ولا يهتدي فيها وقد تتجاوز المكان إلى معنى الحيرة فتوه بمعنى حير وطوح، ومن ثمة ففيها إشارة إلى حالة نفسية مأزومة مشحونة بالمعاناة ندركها في أعطاف النص. بذلك يختزل العنوان حالة شعورية مثلت مدار الخطاب فيه.أما المتن فهو جوهر هذه الكثافة فيطالعنا حشدا من الكلام يتحقق فيه قدرا من الشعرية لما فيه من تكثيف أسلفنا القول بأنه من سمات القصيدة هنا قد نتوه بين القص والشعر . قد ننطلق هنا من جملة من المقومات التي تدرج النص ضمن سياقه القصصي العام أولها أنها ترتبط بأحداث تدور في أزمنة (الماضي.. الحاضر.. المستقبل.. الربيع.. الخريف..الصيف.. الليل…) وأمكنة محددة (مسقط رأسي.. الوطن.. الشوارع ) كما تحضر الشخصية التي تتصل بهذا السياق السردي وغيره مما يولد الحدث ويصفه . ولكن في هذا المنجز النصي ما يجعلنا نجمع بين جنس القصة القصيرة القصيدة فقد قام على جملة من الخصائص التي تدرجه ضمن إطار قصصي و أول خصيصة تطالعنا ما يعرف بوحدة الانطباع حيث قام النص على التكثيف وشدة التركيز ويكاد يخلو من المسارات السردية التي من شأنها أن تطيل القصة من حيث الحجم حتى أن البعض أقام مشابهة بين القصة القصيرة والقصيدة من حيث القصر ووحدة الاتساق وهو رأي يعلنه صبري حافظ حين يقول أن الأقصوصة هي أكثر الأشكال الأدبية اقترابا من كثافة الشعر وتوهجه وتركيزه وهو ما نقف عنده في هذا النص الذي بدا بمثابة ومضة أو التماعة وهذا ما يجعلها كثيفة مركزة ، هي ومضة لا تخلو من قصة ولكنها غائمة نلتقطها التقاطا تتعلق بأشياء الروح والذهن في علاقة بالموضوع وهو الوطن يدرك عبر مساحات من الوصف كثيفة يمكن أن ندرجها ضمن تجارب التخوم . بمعنى أن ما حصل من تطور صورة الشخصية المتلفظة لم يحصل بمقتضى تحول للأحداث بقدر ما حصل من تكثيف لتصاوير لها متباينة موحية بالحركة والبحث الدؤوب عن بدائل للوجود في المنشود ، هذه البدائل التي ظهرت من خلال الارتداد إلى الماضي كشكل من أشكال الهروب وإن كان إطاره الذهن والنفس . وكأن هذا النص رحلة تيه في الزمان والمكان عبر عنها بشاعرية مثخنة .
هو تيه في الزمان. وأول حضور للزمن هو الليل وهي صورة مألوفة في الشعر العربي. هو ليل المناجاة والمعاناة … ليل العشاق والتبتل ولكن في النص يتمادى في إفكه ..يكتم الأنفاس بسواده ..بظلمه..بظلاله التي تميس بين الحاضر والماضي.. يراود الذات المتلفظة فتتلظى على وهج المشاعر والحنين ، حين يكتم الليل أنفاس الجسد تتصاعد أنفاس الأبجدية إلى أفقها العلوي ، لترفرف على أجنحة الأثير تلفظ معنى وتنشئ صورة ..تبوح وتتهجد على أنغام الذكريات الحزينة .. الليل يتنفس فتبوح العبرات بما تخفبه المآقي وتتنفس معه اللغة .لتعلن عن الذكريات فتطرح الذاكرة مخزونها في شكل ومضات ارتبطت بصورة العربات :
( ….) كل
زاوية في المنزل لا تتحمل عنفوان
اشتياقي إلى ماض يجرجرني بعربات
ذكرياته..بيوت بلون الشمس وشوارع
تحتضنني بدفء ،أسمع أحاديث الأمهات
أمام أبواب تبتسم للحياة، وهمسات جدتي
في ليالي الصيف تحت ضوء القمر وهي
تروي بشوق حكاية (شنكة وبنك) …
لعلها عربات النازحين، النازفين، التائهين توحي بمعنى الضياع والتشرد، عبر ومضات تتعلق بالطفولة بما هي صورة للبداية والانبعاث وقد تكون صورة الطفولة التائهة في المجهول وقد تكون الطفولة الواقع التي فقدت براءتها وقد تكون الفردوس الذي يفتقده الكاتب.. وتظهر في علاقة بالأم أولا لعلها صورة الأصل والانتماء.. الحب والحنان وقد تكون صورة الأرض والوطن…ثم في علاقتها بأحاديث الجدة التي يمكن أن تمثل الموروث الثقافي الجمعي والعادات والتقاليد التي يفتقدها صاحبنا ويحن إليها..فيعبر عن معنى الهوية المفقودة من خلال هذه الومضات وهو ما يعلن عن نزيف الذات فتضفي نوعا من التوتر الداخلي لرجل يواجه السفر ويبحث عن الانتماء ..كما ارتبطت هذه الصورة بحركة الفصول في تعاقبها وقد وظف معجما دالا على ذلك للتعبير عن صورة مخصوصة للزمن (الخريف .. الربيع..الصيف..) وترتبط بالذكريات مرة أخرى . فقد حضر الربيع ولكنه فقد ألقه، فلم يعد زمن الفرح الكوني واحتفال الوجود بمباهجه بل هو زمن نفسي التبس بصورة التيه كمثل الوطن، كلاهما تائه بين فجاج الزمن ينزف بالألم ويحترق بصهد الظلام.. صورة تائهة حزينة بسبب قحط الواقع وجدب المشاعر، خلافا لما ألفناه من معاني الخصوبة والتجدد ليرتبط معناه بالخريف الذي لا يرتحل..لعلهخريف العمر به تعلن بداية النهاية. إنه الذبول حين تتناثر المشاعر في مهب الزمن وتتساقط أوراق العمر وتذروها الرياح بعيدة عن أغصانها . فتختار نهاياتها من بداياتها ..حين تخرج من رحم أكمامها وتتوه في الآماد النائية ..تعانق أشعة الشمس لكن عطاءها يتراجع فتكون المأساة وتكون الغربة.. غير أنه سرعان ما يتوهم الدفء بألوان الذكريات المتوهجة والمشتعلة بالحنين. يتلحفه بليالي الشتاء الطويلة التي تنهمر مع إيقاع مطر الأحلام والآمال المخبأة وراء الغيوم .. لعله يختزل الحياة بهذه الذكريات المعتقة التي تنزف برعاف السنين .. لقد أسرج بنا صاحبنا في آماد نائية .. في اللانهاية في جو مشحون بالشجن ..بعذابات ذات حزنها مكتوم بالفجيعة الصامتة .. ولم يتملص المكان من دلالة التيه بل ثمة تراكم وتكثيف لهذا المعنى ( الوطن ضاع .. الربيعالتائه..الخيمة على متاهات واحة ..زاوية في المنزل لا تتحمل عنفوان اشتياقي..) جل هذه العناصر شاركت المتكلم في ضياعه وتشرده.. لتأتي صورة الواحة التي أحرقتها أصابع الظلام . والواحة فيها إيحاء وإشارة إلى صورة النخيل .. لعلها صورة الجذور التي فقدت أنبتاتها لتعلن مرة أخرى عن معنى التيه ..وهو معنى يتلبس بالشخصية التي مثلت في النص الراوي وموضوع الرواية ..ظهرت في الأحداث متأرجحة بين مأساة الزمان والمكان ووجع الوطن تواجه السفر والانتماء ليكون الزمن انقضاء والمكان انفصال.. هي ذات مثقلة بالهموم تتقاذفها نوائب الدهر لعلها صورة للإنسان في رحلة تيه في اللامعنى .. اللاوجود ماضيه ربيع باهت وبيادر صيف مكتظ بالأوجاع وطفولة يعصف بها الأنين . وحاضره نزيف مقيت يشتعل بالانكسار والحنين . بهذه الصورة للذات المتلفظة فالنص ضرب من التداعي الحر للأفكار تتزاحم فيه الانفعالات وتتصاعد التوترات من خلال تدرج البنية الأسلوبية التي تؤكد معني التحول من حالة السكون والثبات إلى حالة الانفعال والحركة هي حركة شعورية يولدها الحلم ويئدها الخوف :
( … ) فجأة في
داخلي ..ما عدت أعرف النوم بين
صفحات الليل ..أحلام تتراقص في
شوارع ربما لم أعد أجدها.. ماذا أفعل إلى
أين أمضي ؟ ربما أريد العودة مع الطيور
المهاجرة إلى دياري .. ولكن أخاف أن أكون
غريبا حتى في وطني ….
من هنا نلحظ خضوع النص إلى دينامية نفسية تتعامل مع المعطى الموجود تعاملا ملتبسا بدلالات نفسية ، تتأكد من خلال هذا التراكم للصور الشعرية الدالة عن هذه الحالة الشعورية ولعل الرمز الطبيعي خير سفير لمفاتيح الشعور المغلقة ولنا في ذلك صورة الرمل تذريها الرياح وتعاندها البحار ، وصورة الأمواج تستغيث للشواطئ وتستضيفها على أضغاث العدم ليلغي رحلة ريح غاضبة …إنها صور الغضب والثورة تعكس ثورة شعورية داخلية تعصف بالذات المحطمة بين الفيافي إنه البوح الباذخ بالإشارة والإنارة ..بالرغبة المكتومة والطلب الصامت وكأننا به يحاول أن يعيد ترتيب هذا التفاعل الكيميائي داخل اللاشعور وحبكه في طابع صوري سيكولوجي ولعلنا بكل هذه المعطيات نقف إزاء شعرية التخوم ..فنص “دموع متاهة” نزع إلى التكثيف ، محدد في الفضاء ، قصير وهذا يعني الربط العضوي بين إنشائية الأقصوصة وشعريتها وبما أن هم الأقصوصة ينصب على النهاية أو ما يسمى الذروة الدرامية وهي اللحظة الأكثر حدة وأكثر تخييبا فإن الكاتب ركز على جملة العناصر الخادمة لها . من أسلوب إنشائي يوحي بالانفعال بهذا التواتر للاستفهام الذي دل على معنى الاستنكار والحيرة وهنا يختزل صورة التيه مرة أخرى التي تجعل من النهاية تعبيرا على معنى الخوف في اللحظة التي بدت فيها بوادر الانفراج لينغلق النص بالتيه والحيرة :
شوارع ربما لم أعد أجدها ..ماذا أفعل إلى
أين أمضي ؟ ربما أريد العودة مع الطيور
المهاجرة إلى دياري .. ولكن أخاف أن أكون غريبا
حتى في وطني ….
هنا تكمن الشعرية في هذا الخطاب الجمالي الإيحائي الذي انشد إلى وظيفة تأثيرية تضافرت فيها جملة من الظواهر لتدعم شعريتها . وهذا ما يتوهنا في الوقوف عند حقيقة انتماء هذا النص ، خاصة إذا ما نظرنا إلى التشكيل الخطي أو ما يمكن الاصطلاح عليه بالتمظهر البصري على فضاء الصفحة إذ تتشكل هذه الأقصوصة خطيا كما تتشكل قصيدة التفعيلة وهو ما يقترن بالعدول على المستوى التركيبي . فمن المألوف أن يكتب النثر كتابة تختلف عن كتابة القصيدة بأنواعها لكن النص يقوم على إيقاع بصري مخصوص تتوزع فيه الجملة على أكثر من سطر :
……لا
يدعني أتنفس.. أشم رائحة مسقط
رأسي …بين طيات رمل تنام على سواحل
تعاند البحار وأمواج دون شاطئ
يستضيفها ويلغي رحلة ريح
غاضبة……..
وبهذه الأمثلة يفصل بين الأداة والفعل أو المضاف والمضاف إليه أو بين المنعوت والنعت وهو ما يولد إيقاعا سمعيا يتوه بنا مرة أخرى في رحاب الشعرية .. بهذا فقد خرج هذا النص عن أصول الجنس الواحد والشكل المتفرد ولعل ذلك دليل على أن هذا النص يحتكم إلى سلطة الشعور فهو وحده من يبتدع الشكل الفني ويتخيره ليقتحم دياجيره ويكون قبسا يضيء أعماقه المظلمة ..بهذا نقف إزاء متاهة جديدة في إطار مغامرة إبداعية غايتها تجريب أشكال فنية قادرة على استيعاب الواقع الذاتي والموضوعي والتعبير عنهما . أو لعلها الرغبة في المصالحة بين الشعر والنثر وتقليص الحدود بينهما والسبيل في ذلك محاولة الخلق والإبداع لتطوير النص في إطار هذه المصالحة.