اسمي نعيمة، طالبة جامعية، هادئة الطباع، أعشق البيت الذي أعيش به بجنون؛ فهو قصري ومملكتي. يقولون عني إني غريبة الأطوار، ربما كنت كذلك. كم أبلغ من العمر؟ لا أعلم أو بالأحرى لا أتذكر؛ فذاكرتي لا تحمل في جوفها شيئا عن الأرقام والتواريخ. في حقيبتي أحمل معي دائما مذكرة تحتضن كل المعلومات عني: تاريخ ميلادي، اسمي، عنواني وأرقام الهواتف حسب الأهمية،وفي بيتنا أحفظ نسخة أخرى.
كنت في أسرتي دائما تلك الطفلة المدللة وبقيت كذلك حتى كبرت، وأصبح بعد ذلك أصدقائي وزملائي بالدراسة يلقبونني بنعيمة المدللة.
كنت أنا وزملائي نجتمع بالتناوب في بيت كل واحد منا. كانت اللقاءات تتمحور حول أحلامنا وآمالنا، حول مشاكلناوكانت اجتماعاتنا تسفر كل مرة عن اكتشاف موهبة كانت ترقد في مغارة مظلمة وكانت تحتجزها شباك العنكبوت. كنت أسعد بتواجدي بينهم، وفي كل ملتقى كنت أستمتع بسردهم الجميل. الكل كان يحكي عن أسفاره وتجاربه.
تجمع جميل كنت أمتطي فيه حصان الحكايات،ثم أرحل بعيدا بخيالي، وأسافر معهم إلى قصصهم، فأعطي للأماكن التي زاروها شكلا، وأتمنى بدواخلي أن ينجح خيالي في تصوير الحقيقة. لا أخفيكم الأمر، كنت أغبطهم لاكتسابهم “ثقافة السفر”.
-وأنت يا نعيمة، ألا تحكي لنا شيئا عن المكان الذي تقضي فيه عطلتك الأسبوعية أو الصيفية؟ أم أنك لا تودين مشاركتنا الحديث؟
فوجئت بفاطمة تطرح علي سؤالها الذي كان أقوى من الرعد، فزعزع متعتي.
-لا! على الإطلاق!فقط كنت منسجمة مع حكايتك.
-ما قالته فاطمة صحيح، لم يكن لدي ما أحكيه. لا أحب السفر! نعم لا أحب البقاء لساعات طويلة وأنا مثل السجينة داخل القطار أو السيارة. كنت دائما أشعر بالضيق والاختناق، ما إن أترك البيت حتى أشتاق إليه مجددا، حتى أني في صغري كنت أبكي كلما خرجنا إلى رحلة طويلة. كان أبي يسكتني ويهديني كعك اللوز، كان الكعك هو حيلته الوحيدة لأنه كان يعلم بحبي الشديد لهذه الحلوى ولأنه أيضا كان يتقن صنعها.
-نعم، لا أنكر. لم يكن لدي ما أحكيه. انتقلنا من قصة إلى قصة، طال بنا الحديث إلى أن أذن المغرب. افترقنا وضربنا موعدا للقائنا المقبل الذي حددنا مكانه وهو بيتي.
-دخلت بيتي تلك الليلة، كانت ليلة خريفية. تذكرت سؤال فاطمة وظل سؤالها يعيد نفسه بدواخلي. لم أجد له جوابا، تألمت كثيرا لأني لم أكتسب ثقافة السفر وليس لدي ما أحكيه لأني لا أسافر. ماذا سأروي لهم في المرة المقبلة؟ أحسست بنسيم الخريف وبدأت ريحه تسقط بتلات قلبي، حتى الطيور التي كنت أسمع زقزقتها هاجرت لتبحث عن الدفء.
-كنت وحدي تلك الليلة، لا أحد في البيت، فقد سافر أهلي إلى مدينة الصويرة. مازال سؤال فاطمة يزن على مسامعي وأنا وحيدة. الكل يعشق السفر، إلا أنا! الإنسان يسافر وأحيانا يهاجر ثم يرجع، والحيوان يهاجر ويرجع. إلا أنا!
-في تلك الليلة، أخذت شاي البابونج حتى أسترخي. غفت عيني، وجدتني مسافرة إلى دنيا مختلفة أبهرتني وأدهشتني. دنيا هادئة، جميلة ورقيقة. في مدخلها لافتة كبيرة، بها بعض العلامات تشبه علامات المرور، وكتب عليها على إحداها:
-تنبيه هام: “ممنوع الكلام بصوت مرتفع”.
استغربت هذه الكلمات في مثل هذا المكان،لم أمنع نفسي من اكتشاف هذا المقام. ستستغربون لو قلت لكم عن مكان سفري. لقد رحلت إلى قلب!نعم، لقد سافرت إلى قلب.
احترمت قانون المكان وتجولت بأركانه، رأيت شكل الحب والود، ورأيت به مياه التفاؤل تجري وتسقي كل زوايا القلب. رأيت الابتسامة والبهجة تبدو كأصداف بحرية ترقص بداخله.
-لقد بدا لي القلب كعمق هادئ، احتواني وحضنني بكل قوته وهمس لي في أذني وقال لي أحبك.
-لكن لمن يكون هذا القلب؟! كيف أسأل هذا القلب عن صاحبه؟!
-خجلت من طرح السؤال. كانت همسته مازالت تسقي جوارحي؛ فأحسست توتري يبتسم.
-استيقظت ووجدتني مبتسمة متفائلة وسعيدة لاستقبال يوم جديد. أخذت هاتفي، فتشت صندوق بريدي الإلكتروني ووجدت به رسالة، ما إن قرأت اسم صاحبها حتى زغردت فرحا.
إنها رسالة من يونس، الطفل والشاب والرجل الذي أحببته طوال عمري. الرجل الذي لم أبح به لأحد حتى لأقرب الناس إلي. إنها رسالة من الإنسان الذي أحببته في صمت دون أن يعلم بحبي له.
جاء في رسالة يونس:
-“أهلا آنسة نعيمة! أعتذر منك، سأكتب اسمك مباشرة.
-أهلا نعيمة. آن الأوان لحذف الألقاب. لا أجيد الحديث لكني سأكتب لك ما أخفيته بقلبي طوال عمري.
-هل تذكرين عندما كنا ندرس الموسيقى؟ عندما طلب منك الأستاذ ترديد (سي، لا، صول، فا، مي، ري، دو)، فرددتها لكن بطريقتك وغنيتها بكل إحساس. هل تتذكرين ذلك؟
-منذ ذاك الوقت وأنت تسكنين قلبي، بل تتربعين على عرشه. منذ صغري وأنا أراك في سماء مختلفة، كنت أجهل اسمها لكني اليوم أستطيع أن أميز تلك السماء. نعم لقد كنت تسافري بي دوما سماء اللازورد.
-نعيمة، أعتذر منك مرة أخرى على جرأتي. لكن الحب لا يعرف القيود، ما إن استطعت البوح بحبي حتى فعلت. يا رفيقة الخيال يا نعيمة، هل تقبلين الزواج مني؟ يا رفيقة الخيال، هل تقبلين أن تشاركيني حياتي وأحلامي وأفكاري؟
-أعلم جيدا أني أكتب إليك في فصل الهجرة، وأعلم جيدا أني أكتب إليك في فصل تسقط فيه أوراق الشجر، كما أعلم أني أعلن لك حبي في فصل تتغير فيه الألوان الجميلة. لكن ثقي بي يا نعيمة، أريد أن أشهد الخريف على ميلاد لون آخر، لون لن تؤثر فيه الفصول ولن تؤثر فيه قواطع الحياة. أريد أن أعرف الخريف على لون الحب الصادق، أريد أن يزور الخريف القلب العاشق.
-ما رأيك يا نعيمة؟
-أرجوك افتحي الملف المرافق لرسالتي.
-نعيمة، أحبك. أرجوك، اقبلي عرضي.”
-فتحت الملف، وجدت به إحدى الرسومات التي رسمناها معا في حصة التربية التشكيلية لما كنا في السنة الثالثة إعدادي. اندهشت، كان مازال يحتفظ بها على الآن. كان يونس دوما فنانا رائعا، يعشق الرسم والموسيقى.
-لا أستطيع رفض طلبه، فهو الرجل الذي حلمت به طوال حياتي، هو من كان يسكن أفكاري وأحلامي. يونس يشتغل حاليا بسويسرا ويسكن بها.
-بين كرهي للمسافات الطويلة وبين عرض يونس، لم يكن في وسعي التردد ولا التخوف. لأول مرة أتخذ قرارا سريعا. سمعت نداء العمق الهادئ، سمعت نداء القلب الذي نداني في أحلامي، سمعت نداء قلب يونس واستمعت لرغبة قلبي واستسلمت لها، فقررت الزواج به.
وافقت عائلتي على ارتباطي بيونس، بعدما حدثتهم عنه وعن عمله بسويسرا. أدركوا أنهم قريبا سيودعون الفتاة المدللة. بكت أمي، أما أبي صانع كعك اللوز أخفى قلقه وفرحته وقال لي اطمئني سأرسل لك الحلوى كلما أحسستك تحتاجينها.
جاء موعد لقائي بزملاء الدراسة، اجتمعنا في بيتنا. كانت فاطمة حاضرة بروايات جديدة، أسمعتنا آخر قصيدة لها، صفقنا لها. توجهت إلي بسؤالها. هذه المرة لم أنزعج، كنت أنتظر دوري بفارغ الصبر. أخذت الكلمة، وقلت لهم: من منكم يتذكر يونس؟
-هل تتحدثين عن يونس بلعربي؟ سألتني فاطمة.
-نعم يا فاطمة. ما شاء الله، ذاكرتك قوية.
-من منا ينسى يونس، ذلك التلميذ الرومانسي. ما به؟
-تقدم لخطبتي وأنتم مدعوون لحفل الخطوبة يوم الخميس المقبل.
-مبارك عليك صديقتي، لكن كيف حدث؟ هيا احك لنا.
هنئني كل الحضور، اتخذت لي مكانا وسطهم، وحكيت لهم حلمي بل حكيت لهم رؤياي تلك الليلة، وقلت لهم: أصدقائي، إن فصل الخريف مضطر لفتح مسامه حتى يتعرف على لون الحب، هذا اللون الذي لا يعرف المستحيل ولا يعرف اليأس، هذا اللون الذي يستمد طاقته ونوره من صدق المشاعر. متأكدة يا أصدقائي من أن الخريف سيعشق لون الحب ويضيفه إلى قاموسه. أصدقائي أنا ويونس سنحتفل بزواجنا بعد نيل شهادة التخرج هذه السنة.
5 غشت 2019