زارني الأرق مرات متعددة ومتوالية خلال هذا الأسبوع ، وبشكل لا يخلو من عنف أحيانا .. جعل حضوره المتكرر يمنع عني التلذذ بالنوم والتمتع بالراحة ..لما استيقظت من النوم في الليلة الأولى التي زارني فيها ، بعد ما تناهى إلى مسامعي صوت مزعج ، كان ذريعة مدبرة من الأرق ليوقظني ، لم أستحمل حضوره في هذا الوقت بالذات . فلم يكن الليل قد اكتمل انتصافه بعد ، ولم يكن قد مر على دخولي في فترة النوم الأولى إلا ساعة على الأكثر .. حتى فتحت عيناي وبدأت أحملق في فضاء الغرفة الدامس ..هدأت قليلا عساني أعود للنوم .. رددت في نفسي تلك الدعوات التي يؤكد عليها فقهاء القنوات الفضائية الأنيقة ، فخمة التجهيز ، وهم يقسمون بأغلظ الأيمان أن من هجره النوم أو استفاق من نومه ، ورددها منتظمة بالصيغة التي يؤكدون عليها ، سينام على الفور ، وقد يغنم بالموازاة مع نومه ، امتيازات روحية إضافية .رددت هذه الدعوات إذن كما أحفظها ، وأنا أطمع فقط في الرجوع إلى النوم لا غير .. لكن دون جدوى .. حتى أنني لم أستطع إغلاق عيناي لشدة وقع الأرق عليهما .. لقد جعلهما هذا الزائر اللعين تتمردان علي وتنصاعان لأوامره الصارمة .. فزادت معاناتي مع النوم ، بالرغم من استمراري في استجدائه وطلبه … توالت زيارته لي في كل ليلة ، وفي نفس التوقيت تقريبا ، حتى أصبحت عادة تؤثث برنامج ليلي .. رغم أنني لم أطق هذا الإلتزام الذي خصني به في مثل هذا الوقت بالذات .. لقد ضجرت من حضوره المستمر، وكيف بدل حالي من التمتع بالنوم والراحة ، إلى حالة الصحو والسهاد ، وبت أرقب رجوع النوم إلى جفوني الذي هجرهما ، وأنا أحاول طرد هذا الضيف الثقيل من وجودي .. لكن عبثا فعلت … ثم استدركت الأمر وقلت في نفسي : لماذا لا أستفيد من لحظات السكون والهدوء الذي يخيم على كل الأماكن من حولي خلال هذه الأوقات التي يزورني فيها الأرق علني أجد ضالتي فيها ؟ أو أستفيد من عسر النوم هذا في سبر أغوار السكون الليلي ، وأستغفل ضيفي المزعج ، فأستفيد من حصة الوقت التي يوفرها لي ، والتي أرغمت على قضائها مستيقظا … أليس بعد كل عسر يسر ؟ لا أخفي حقيقة فائدة الأرق علي بالرغم من نفوري منه ورفضي حضوره الدائم عندي وفي هذا المقطع الليلي بالذات .. فقد كان له فضل كبير على حاسة سمعي .. التي بدأت تتدرب على ارهاف السمع وحسن الإصغاء إلى عالم الصمت الليلي .. بدوام زياراته المتواترة لي …فباتت أذناي تعتادان التربص بالأصوات واقتناصها في سكون الليل ، بل تمرنتا بشكل كبير على ضبطها وتصنيفها وترتيب دبدباتها . فكنت أصيخ السمع قليلا، ألتقط بعضا من هذه الأصوات ، وأحاول فك رموزها والإستئناس بها ، وقراءة وتأويل أنغامها والمغامرة في فهمها .. فصرت أميز بين كل نوع منها يتناهى إلى مسامعي .. وأحدد مصادره وطبيعته …فهناك هدير مياه البحر …وأصوات أمواجه وهي ترتطم بعنف بصخور الساحل المسننة ، محدثة دوي وفرقعات تملأ سكون الليل .. ترتفع أصوات هذه الفرقعات أو تنخفض حسب قوة الإرتطام والإندفاع الذي تكون عليها الأمواج .. فتحدث معزوفة ليلية فريدة من نوعها ، تؤنس الأماكن والأجواء والكائنات ..يخيل إلي كما لو أن هذه الأمواج تعيش صراعا أبديا مع صخور الساحل المتراصة ، وفي محاولة يائسة منها ، ولو أنه تحدي سرمدي ، لتكسر قيودها وتتحرر من الحواجز الصخرية الصامدة في وجهها ، والتي تحد من عنفوانها وتهزم جسارتها ، وتعوق حركتها وتشلها . لتنطلق بعد ذلك في انسياب هاديء وسلس ، تستكشف الأماكن والفضاءات المجاورة للساحل وتتعرف عليها …ثم هناك سكون الليل ..هدوء الليل يكتسي قيمة روحية فياضة .. لا تنتهك إلا بمرور سيارة جانحة مارقة ، تترك ضجيجا مزعجا بصوت محركها ، وعجلاتها المطاطية وهي ترتطم بالنتوءات التي تنمو فوق القارعة .. كما لو أنها تمزق رداء السكون الليلي بقوتها وسرعتها وضجيجها .. محدثة خللا في كنهه وبنيته .. ثم ما يلبث أن يرتق من جديد .. ومن تلقاء نفسه .. فيعود إلى سكونه وحالته الطبيعية الأزلية التي وجد من أجلها .. لتنعم الكائنات الليلية بالراحة والهدوء ..ما أجمل الأرق ..يؤثث لنا جلسات حميمية مع ذواتنا ومخيلتنا أحيانا . فيعرض علينا ما تذكرناه وما نسيناه من ذكريات .. وما اجترحناه في يومنا ، وما عملناه وما كان علينا عمله ولم نتمكن من فعله . ويضيف إلى سمرنا لوحات من مشاهد لا تهمنا ولا تربطنا بها إلا علاقات سطحية أحيانا .. أو من وحي خياله وافتراءاته علينا..يؤمن لنا الأرق فسحة زمنية إضافية ، نتمكن فيها من إعادة ترتيب بعض أوراقنا التي تتضمن عددا من المشاريع ، كنا خططنا لها ، أو أنجزناها ، أو في طريق الإنجاز .. ومنها من لا يزال في غرفة التخمين والدراسة .. فنعود إليها نتصفحها ونقومها ونهيؤها لتصبح ذات فعالية وواقعية .. يساعدنا الأرق على تنظيم أمورنا العامة التي لم نتمكن من ضبطها بشكل عادي في الزمن المخصص لها ، أو لضيق الوقت خلال النهار لتعدد التزامتنا وانشغالاتنا فيه . فيتيح لنا الأرق فرصة زمنية إستثنائية وهادئة ، فنراجعها أونعيد النظر فيها ، وقد نعززها ببنود وأبواب وإضافات … لتصبح قابلة للتنفيد .قد يدخلنا الأرق في متاهات الماضي القريب والبعيد، فنغوص فيها ونتيه في مسالكها المتشابكة ، فتأسر عقلنا وتسيطر على تفكيرنا وتجعله يندمج فيها ويردخ لها ، ولا يبتعد عنها قيد أنملة . فلا نفطن لوجودنا ولا نسترجع وعينا ، لشدة هذا الاندماج والتماهي مع ما يلزمنا به الأرق من قضايا ، إلا مع دخول أولى خيوط الأشعة الشمسية الدافئة إلى غرف نومنا ..أو نستفيق على نغمات المنبه للإستعداد لصلاة الفجر. وأحيانا يوقظنا الأذان المنبعث من مكبرات الصوت المزعجة …فيكون الأرق قد فعل فينا ما أراد وما اشتهى ..
شاهد أيضاً
قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي
د.حسن بوعجب| المغرب لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …