يستأنف الشاعر الجزائري بادر سيف ، إبحاره في عوالم إدانة انتماء النقصان ، ما يجنيه على الكائن الحر من مكابدات وعذابات تعجز حتى القصيدة أن تحتويها ، وبذلك يكون نزيف الشاعر المبدع فوق إكراهات الحياة ، كضرب من تجديف ضد التيار القادرة الكتابة وحدها على رصد ملامحه.
إنها المتاهة بكل ما يحمله المفهوم من دلالات ، تتقاذف الكائن البريء، حدّ مسخه وتأجيج هواجس انكساره وشغله بهزائمه.
من خلال هذه المجموعة القيمة ، نستشف جملة من المعاني التي تساير طرحنا ، ويتبدى لنا ضمن حدودها ارتباط الذات بالمكان ،المكان على جوهريته ومركزيته التي لا تقل طوباوية وقداسة عن إنسانية الكائن.
تصبغ هذه الشعرية تلاوين ترديد تجارب الضياع ، تلوك أسئلتها ذات تحارب شتى أشكال اليأس ، وصنوف تزوير الحياة وتعتيمها.
يقول شاعرنا في أحد مواضع طقوس ” الجدبة” :
{ خطوة
خطوتان
هي العيون تبذر كحل الظمأ
يبكي البحارة من سجع في قحف الرضا
على طمي الخريف
كما تعي الذبيحة مسافات الدهشة
تدخل من سم الورى
إلى تيجان النخيل
— هو البحر مؤلف من شؤون الرذاذ
و الرمال سيوف تبني بلادا}.
إن متلازمة الزمان والمكان ، في منجز المبدع الجزائري بادر سيف ، لا تحتل السياق زجافا ، ولا تعشش في أوردته اعتباطا ، بقدر ماهي مقصودة تنم عن اختمار كبير في التجربة ، وترويض محطات الحياة.
زمكانية مفخخة بأسئلة الضياع ، على نحو ملهم ، وواش بزخم الجرح الإنساني العميق.
قد تكون القصائد أكبر من مبدعها ، بيد أن نزيف المطعون في انتمائه ، بيننا ، يترجم تعمْلق الذات المجترحة لخسارات الزمان والمكان ، ويبدي جبروتها في خفيض ثوراته ، وأعقل صعلكته وتمرداته.
يقول أيضا:
{ عن نمش في السوق
ظبية بداخلي و نوق
لن نلتقي
بل نلتقي ذات مساء تهالكت الغيوم
على شفاهه
قرب غابة المعاني
أبجدية العناد
نطعم الأطياف و الليالي ما تبقى من نواح
على معارج العرفان
نقطف برهة العزف من غصن
مهاجر إلى مشارق الألحان}.
تعودنا من الشاعر الجزائري المبدع ، مناطحة واقع الانتماء الناقص والمشوه ، بمعجم متدفق ، ومطولات يتجاور فيها الإدهاش بلعنة النفس الثوري الخفيض ، وأسلوبية تفجير أسئلة الضياع ، بل قل معلقات الصعلكة النبيلة في مجابهة شروخ الهوية العربية واهتزازاتها المسترسلة.
قلما نشهد له ، ومضة تنسينا في النزيف ، وتجود بقطوف الفني المغالب لوطأة زمكانية عربية طاحنة، تسرقنا من ذواتنا مُفوّتة علينا جرأة التشخيصات الصحيحة والسليمة لهوية أفسدتها التطبيعات والتبعيات والتقليد.
في أحد فصول هذا الترويح من تعاطي المعلقات ،ومغازلة آفاقها ، في شعرية سيف ، نطالع التالي:
{ وعدتني كما تفعل الام برضيع
يخلط الثدي بالقافية
اما انجلاء الرياح فليس سهلا
على سالكي دروب جبلية وعرة
ربما تدريب على اجتياز الرشاقة
و الخفة….}.
شاهد أيضاً
قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي
د.حسن بوعجب| المغرب لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …