سعيدة نخوي|
–فن “الحلقة” نموذجا
يعتبر المسرح من الأشكال الأدبية القديمة التي ليس من السهل تحديد بدايتها، ولا مختلف مراحلها المتداخلة أو نهايتها، إلا أن ذلك لا يمنعنا من تتبع المسار الابستيمي للمسرح المغربي مع أحد أبرز أعمدة إن لم نقل هرم من أهرامات المسرح المغربي والعربي، الأستاذ حسن المنيعي رحمه الله، وإننا لا نسعى إلى الوقوف على كل المراحل والإشكالات التي عالجها أو عرج عليها، بقدر ما سنقف على الأشكال الأولى أو البدايات المؤسسة لهذا النوع الأدبي بالمغرب. وذلك من خلال المفاهيم التالية: الأشكال ما قبل المسرحية، الحلقة، البداية الممكنة، البداية الفعلية.
1-تأصيل المسرح المغربي عند حسن المنيعي:
واكب أستاذ الأجيال الدكتور حسن المنيعي أبرز منعطفات المسرح المغربي، منذ بدايات القرن الماضي، إلى حين وفاته رحمه الله، مكرسا حياته للبحث والكتابة في ميادين مختلفة تراوحت بين الرواية والتشكيل، الترجمة، النقد، والمسرح. ويعد هذا الأخير أحد أهم محاور اهتماماته الأدبية، إذ عمل على تتبع مختلف مراحله، كما عمل على ربطها بمختلف إشكالاته الجوهرية، ولعل أهمها إشكالية تأصيل المسرح المغربي ممارسة وتنظيرا “؛ إذ طرح مشروع التأصيل ومسرحة الأشكال ما قبل المسرحية لأول مرة في تاريخ النقد المسرحي المغربي.”1هذا التأصيل الذي لن يتأتى إلا بالرجوع إلى التراث الذي ” لا ينحصر في الماضي فقط، بل يعتبر جزءا من الحاضر أيضا؛ وليس للتراث أية قيمة إلا إذا ساعدنا على تفسير الواقع وتغييره، لأنه موجه للسلوك، وليس مركزا للإعجاب والافتخار.”2
من هذا المنطلق لعب الدكتور حسن المنيعي دورا مهما في بلورة النقاش حول مسألة العودة إلى التراث؛ بحيث: “يمكن أن نستشف تنظيره المتواصل من خلال طرح قضايا القالب المسرحي، والبحث عن الهوية، وعرض الآراء التي أثيرت حول هذا الموضوع، سواء في المشرق أو في المغرب”. … كما لم يتوقف الناقد عند هذا الحد، بل ” نراه في كثير من آرائه النقدية يتخذ موقفا من تعامل الكتاب والمخرجين مع التراث.”3
فهذا التراث المغربي الخالص” كان قد ساعد على إعداد جمهور فتي، ربما كان بعيدا عن إدراك الفن الدرامي و أشكاله الأساسية، و لكنه قابل لاحتضانه ورعايته، بحكم تعوده المبكر على كثير من الفرجات.”4 من هذا المنطلق نجد الدكتور حسن المنيعي قد أولى اهتماما كبيرا لقضية الأشكال الفرجوية التراثية المتأصلة في الثقافة المغربية, وخصص فصولا ومحاور في عدد من كتبه لأهم هذه الفرجات، كالحلقة والبساط وسيدي الكتفي وسلطان الطلبة. كما درس مكوناتها الدرامية وكيفية تشخيصها وعرضها، معتبرا إياها مسرحا تقليديا هيّأ التربة الثقافية الفنية المغربية لاستقبال الفن المسرحي بمفهومه الإيطالي الذي حملته رياح المثاقفة، على إثر قيام أعضاء فرقة مسرحية محترفة مكونة من مسرحيين تونسيين ومصريين بجولات فنية بعدد من مدن المغرب في عشرينيات القرن الماضي، بالنظر إلى ما تنطوي عليه من خصائص درامية.
في السياق ذاته أي بدايات المسرح المغربي نجد أستاذنا المرحوم حسن المنيعي يذهب إلى القول أنه: “بالإمكان رصد البداية الحقيقية (رغم طابعها الضمني) في مسرح تلقائي متجذر في الحضارة المغربية، لم يخضع لأية وساطة أجنبية، وأعني بذلك المسرح الطقوسي الذي يستمد تقاليده، وإيقاعاته من الجسد المغربي، عبر احتفالاته الدينية والشعبية، والذي تجسدت معالمه في تظاهرات فرجوية تقوم على الحكي، والسرد واللعب، الموسيقى،…”5
هذه الأشكال الفرجوية تندرج حسب الدكتور المنيعي “ضمن ما يمكن تسميته ب”الماقبل/المسرح” (Pré-théâtre) أي حسب تعريف انطوان ارطو: “المسرح الذي يتجلى كفرجة شاملة يشارك فيها الفرد عن طواعية بجسمه وروحه دون أن ينسى أنه يشاهد واقعا “ممثلا” ينعكس عبر الصور والرموز”.6
2-الحلقة كمدخل لتأصيل المسرح المغربي:
لم يكتف أستاذنا بالنبش في التراث المغربي والتعريف بمختلف الأنواع الفرجوية التقليدية، بل تتبع كذلك الحركة المسرحية المغربية وكذا العربية، التي كانت نتيجة انفتاح المسرحيين العرب عموما والمغاربة على الخصوص على هذا الشكل الفرجوي للحلقة وباقي الأشكال التراثية الأخرى، مما أفرز كتابة ركحية ذات خصائص متميزة. موضحا هذه المحاولات عند كل من توفيق الحكيم الذي تبنى ظاهرة “المقلداتي،” وعند يوسف إدريس الذي تبنى ظاهرة “السامر” وعند علي الراعي الذي اقترح ظاهرة “الارتجال”، وعند سعد الله ونوس الذي نادى “بالتسييس”، وعند الطيب الصديقي الذي اقترح “الفرجة الشعبية”، وعند عز الدين المدني الذي “عصرن التراث” وعند عبد الكريم برشيد الذي تبنى “الاحتفال.””7
وتبقى “الحلقة” من بين أهم الأشكال الما-قبل مسرحية التي حظيت بعناية كبيرة من طرف الدكتور حسن المنيعي، “باعتبارها الفرجة المغربية الأكثر حضورا والأقوى تجدرا وتأثيرا في الوجدان الشعبي المغربي. “8 فهي بمثابة مسرح شعبي يسهر على تقديم فرجاتها رواة متمرسين في فن الحكاية والإيماءة وكذا الألعاب البهلوانية. هذا ” الممثل – الذي قد يكون “مداحاً” أو “بقشيشا” أو شخصية مسلية – يعرض إبداعاته في الأسواق، وفي ساحات المدن الكبرى . ” 9 إنها فرجة تقوم على راوية الحكايات والأساطير النابعة من الريبيرتوار التقليدي العربي.
هذه الفرجة الشعبية لها أسسها ومقوماتها الفنية والجمالية التي تقوم عليها، يبقى أهمها تلك العلاقة العفوية والانفعالية، وذلك الاتصال المباشر بين الراوي، أو “الحلايقي”والجمهور.
فالأول، يقدم ” فرجة كاملة يلتقي فيها الضحك، والهزل، والدراما، والشعر، والغناء، والرقص، والحكاية. ” معتمدا فن الإيماءة الذي بدوره كان له الفضل في تقبل المسرح في العالم العربي باعتباره تجسيدا لواقع الحكايات التي كانت السبب في إدخال الفرحة إلى قلوب الشعوب قديما، و ” والذي يجسده “الحلايقي” … فالعيون تخرج من الرؤوس، والخدود تنتفخ، والأيدي ترتفع إلى الأصداغ وترسم أقواسا في الهواء… وهذه الكلمات تتدحرج أو تتلكأ، وتأخذ في كل مرة معنا مختلفا.”10
أما بخصوص الجمهور، فهو يختلف عن الجمهور في المسرح الإيطالي، فهو كثيرا ما ” يشارك في الحدث المعروض، كأن يستدعي صاحب الحلقة أحد الحاضرين ليمسك له أكسيسوارا يصلح للعرض، أو ليكون بصفة نهائية وسيطا أو أداة في المشهد المقمص.” 11
3-البداية الفعلية قصيرة أمام إغراء التراث:
لا يسلم الدكتور حسن المنيعي بحداثة الفن المسرحي في المغرب كل الحداثة، ومن ثمة، نجده قد تحدث بخصوص بداية المسرح المغربي، عن نوعين من البداية: “البداية الممكنة” و”البداية الفعلية”. تتمثل الأولى في الفرجات التراثية القديمة، إذ “يمكن الحديث عن بداية المسرح المغربي انطلاقا من المراسيم الاحتفالية الجماعية لدى البرابرة، مرورا بفنون سرد أو رواية الأساطير والسير ثم فنون التهريج واللعب التلقائي (الحلقة)، وصولا إلى الاهتمام بالمقدس الذي يتجلى في ممارسة بعض الشعائر ذات الطابع الديني (سيدي الكتفي – ظواهر الصرع عند حمادشة وكناوة –مسرح الندبة أو النواح الهادي بن عيسى – مراسيم تغنجة- موكب الشموع بسلا… ألعاب وأغاني الأطفال في رمضان والأعياد الدينية) الخ.”12… بينما تتمثل الثانية أي -البداية الفعلية- ” انطلاقا من دخول المسرح بمفهومه الإيطالي إلى سوق الفرجة، أي عن طريق زيارة فرق مشرقية للمغرب.”13
هذه البداية الممكنة للمسرح المغربي اعتبرت كل تظاهرة شعبية ” تكتسي شكلا مسرحيا نظرا لما تروم إليه من توسيع للفضاء وتوظيف لمجموعة من اللغات السمعية والبصرية… فإن طقوس الرقص، والغناء، والمواكب، والأعياد، والمواسم، والألعاب الفلكلورية، وقصص الدعابة، والحكايات السردية، وغير ذلك من الفنون الشعبية تعدّ أشكالا مسرحية “مجهوضة”، رافقت الإنسان منذ أن درج على الأرض، لأنها تنبني على الحوار والشخوص والديكور والملابس والموسيقى والزمان والمكان، لأنها تفترض وجود معدين ومؤطرين.” 14
أمام إغراء تراثنا المغربي المتنوع والحافل بهذه الأشكال الما-قبل مسرحية ،ركب مجموعة من المسرحيين المغاربة غمار إدخال هذا التراث في المسرح المغربي، كخطوة لمحاولة تأصيله.
ومن بين رجال المسرح الرواد الذين كانوا وراء هذه الحركة التأصيلية في المسرح المغربي، واللذين حظوا باهتمام كبير من طرف الدكتور حسن المنيعي نذكر، محاولة الطيب الصديقي ، الذي يعتبر من أهم رجال المسرح المغربي، الذين أحيوا فن الحلقة، إذ يعد اهتمامه ” بالتراث المغربي، ومحاولته الغوص في أعماقه لمسرحته واكتشاف صيغة مسرحية عربية،”15 من العلامات البارزة لبدايات المسرح المغربي على الصعيد الفني والجمالي. كما يؤكد الدكتور حسن المنيعي على أن ” لجوء الصديقي إلى منابعه قد تم عن وعي مسبق، لذلك اتخذ “الحلقة” كفضاء سحري يخول له تقديم عرض شامل يوظف العديد من الوسائل التقنية التي تجمع بين المألوف والغريب، بين الشاعري والمبتذل، بين السمعي والبصري، بين الإنساني والشيئي.”16
وتشكل التجربة الرائدة للطيب الصديقي، الذي كانت بداياته الأولى بمركز الفنون المسرحية بالمعمورة “الذي كان ورشة لاكتشاف الطاقات التعبيرية الكامنة في الأدب الشعبي المغربي والفنون التعبيرية والصناعات المحلية من حكي ولغة وغناء ورقص ومعمار وأثاث وأزياء واحتفالات وغيرها… “17 والتي أعارها الدكتور المنيعي اهتماما خاصا، حين تعرض بالدراسة والتحليل لبعض أعماله التي أنجزها في هذا الإطار، أبرز نموذج على هذه المرحلة المهمة، والتي شكلت تحولا فريدا في مسيرة المسرح المغربي.
فبعد مرحلة الاقتباس التي طبعت البداية الفعلية للمسرح المغربي، سعى الطيب الصديقي إلى توظيف التراث، قصد الخروج من التبعية الغربية، بعد اقتباسه لعدد مهم من الأعمال الأجنبية، من خلال تأليف مسرحيات تستمد مواضيعها من التراث المغربي الأصيل. هذا الأخير الذي يعتبر عنصرا هاما في تكوين الأمة ثقافيا ونفسيا وفكريا. بهذا، وانطلاقا من سنة 1967 ” ابتعد الصديقي عن مسرح العبث، وعن الريبرتوار الدولي ليجرب نوعا آخر من المسرح البلدي، ففي ربيع 1965 دشن نشاط فرقته الجديدة بمسرحيته “سلطان الطلبة” … هذا النتاج، يعد بداية مسرح مغربي سوف يتبلور جيدا في مسرحية “المجذوب، وفي غيرها، عبر استغلال الفلكلور ومناهج تقليدية كالبساط والحلقة.”18 وتعتبر مسرحية “ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب” من أكثر مسرحياته نجاحا وشعبية، استطاع من خلالها الطيب الصديقي العودة إلى فنون الحلقة، وإلى مسرح الراوي لخلق مسرح مغربي متفرد. فقد تجلى فيها بحث سيرة حياة هذا الشاعر الشعبي وأشعاره في (الحلقات) المنتشرة في الساحات العمومية عبر التراب المغاربي.”19
تدور أحداث هذه المسرحية حول “حياة شاعر شعبي عاش في القرن السادس عشر، ويتعلق الأمر بالشيخ عبد الرحمان المجذوب (1569-1503) الذي تجاوزت شهرته حدود المغرب العربي، عبر رباعياته التي ينتقد فيها عصره الذي تميز بالصراعات السياسية وانهيار أخلاق الناس.”20
قبل صياغته نص المسرحية، كان الطيب الصديقي قد اطلع على كتاب لسيل ميلي وبخاري خليفة، الذي صدر بفرنسا، والذي “جمع فيه مؤلفاه أخبار ورباعيات الزجال المغربي والحكيم الشعبي عبد الرحمن المجذوب (ق16م)”.21 إضافة إلى المادة التي وفرها هذا الكتاب عاد كذلك إلى ” مشاهداته الحية وما اطلع عليه من دراسات انطروبولوجية تتعلق بطقوس الاحتفال وأنماط الفرجة المحلية.”22
ومن أجل ايصال مسرحيته إلى جمهوره العريض، ونظرا لاعتماده شكلا من الأشكال الفرجوية الما-قبل مسرحية المتمثل في فن (الحلقة)، اختار الطيب الصديقي “ساحة جامع الفنا” بمدينة مراكش باعتبارها أشهر ساحات الحلقة التي ما تزال تقاوم زحف الحداثة والتغريب إلى اليوم، وجعلها فضاء لمسرحيته؛ ” وبذلك ربط الماضي بالحاضر، كما ربط الفن والشعر والتاريخ والأسطورة بالواقع، فكان (ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب) محصلة للتراث المتنوع الذي تمثله كل من مدينة مراكش و(ساحة جامع الفنا) ومهنة (الحلقة) بطقوسها المرعية، بالإضافة إلى شخصية (المجذوب) وزجله العذب الذي ألف الجمهور المغاربي سماعه على ألسنة رواة الحلقة منذ أربعة قرون.”23
لم يكتف الطيب الصديقي بالمادة الشعرية والإخبارية عن حياة المجذوب، ولكنه جمع كذلك “كل ما يمكن أن يكيف (فن الحلقة) العتيق مع خصوصيات الخشبة المسرحية الحديثة، كما يجعل هذه الأخيرة تتكيف معه وتستجيب لشروطه.”24
فيما يخص الصياغة الدرامية للمسرحية ” تمت صياغة هذه المادة الأدبية والأخبار والأوصاف والحوادث داخل نص مرتب يخضع لقواعد الفرجة العربية التقليدية التي تتوخى التسلسل الحر المنساب. هذه الصياغة ذات خصوصيات من حيث البناء والتحليل الدراماتورجي؛ إذ نجد الطيب الصديقي من خلال الموقف التمهيدي في مسرحية “المجذوب” لا يقدم للجمهور ما يساعده على فمتابعة الحدث، ” لكنه يقدم معلومات تساعد على فهم الإطار الذي تقدم فيه الفرجة المسرحية؛ فهو يتطرق إلى تقديم شروح وتوضیحات عن (فن الحلقة) التي جعلها الصديقی إطارا مرجعيا لتجديده التأصيلي؛ مما يحول الموقف التمهيدي إلى نوع من اللغة الواصفة للإطار الجمالي الذي اختاره الفنان، أي (الحلقة) والساحة العمومية داخل المدينة العربية. “25
أما فيما يخص حدث المسرحية، نجد الطيب الصديقي ابتعد عن الشكل الكلاسيكي للحدث المسرحي، الذي يتمثل في وجود بداية تتطور إلى عقدة، أو وضعية تأزم ثم حل لهذه العقدة، بحيث أصبح من أهم مقومات المسرح التأصيلي: التمثيل المتجانس مع مهمة الراوي في الحلقة إلى جانب السرد والإنشاد والإلقاء، بدل تمثيل الأفعال، ليختار ” طريقة البناء المفتوح الذي يجعل فنية المسرحية، وتأثيرها الأساسي نابعين من براعة الراوي في إنجاح أربع مهمات أساسية هي سرد الحوادث والأخبار، وإلقاء النصوص وإنشاد الأشعار، وتشخيص المشاهد التمثيلية، ثم تحقيق الانسجام مع الجمهور.”26
فيما عادت خاتمة المسرحية للحديث عن القالب الفرجوي للحلقة ” للتنويه به من طرف الشاب القادم من ق20، والذي هو تجسيد رمزي للجمهور الحاضر ولضمير الحقبة التاريخية التي واكبت المسرحية. 27
هذا الخروج عن أعراف الكتابة الكلاسيكية أفرز ” كتابة جدولية “Tabulaire” تراعي علاقة النص بالعرض، وتقوم في الغالب على التوليف بين نصوص سردية، ومشاهد حكائية، وقطع شعرية، ومتواليات غنائية/حركية، وتركيبات خيال/ظلية خولت للنص/العرض الدخول في مجال الرمز والعجائبي والحكم والمبالغات الكاريكاتورية وتناسل الأحداث المتعارضة التي تساغ بأصوات متعددة ودلالات فنية مختلفة تجمع بين المأساوي والكوميدي والواقع السحري والكروتيسكي “Le grotesque”. 28
أما بالنسبة للمادة المروية، فيجسدها المجذوب، هذا الأخير ” الذي يعطي للحلقة مبرر وجودها، كما أن الحلقة هي التي تعطي للمجذوب وجودا ماديا ورمزيا (فرجة) يتحدى الفناء، ويتخطى القرون المتلاحقة. في المسرحية عدد من اللوحات الخاصة بالحديث عن الحلقة ومكانتها في المدينة العربية وأشكال الحلقات وكيفية تدبيرها؛ وهناك لوحات أخرى تروي أخبار المجذوب وتنشد أشعاره، ثم هناك لوحات ثالثة يتراوح فيها الحديث عن الحلقة مع الحديث عن المجذوب.” 29
وتعد الرواية الشفوية من مقومات الحلقة البارزة أيضا في المسرحية باعتبار الراوي يشكل محور المسرحية، إذ نجد في ” مسرحية (المجذوب) راویان يتناوبان على هذه المهمة، كما يشخصان و يتقمصان الأدوار وينشدان الأشعار ويغنيان أحيانا، ولكن الرواية هي نشاطهما الغالب… لذلك تعطي الرواية للبناء اللغوي للنص المسرحي باعتبار هذا الأخير كما يورد الدكتور حسن المنيعي: ” ليس مسرحية، وإنما هو مشروع مسرحية، أو مسرحيات متعددة،”30 طابعه المميز القائم على الوصف والسرد والإلقاء المفخم، أو المتلون بالانفعالات المناسبة للسياق أكثر من اعتماده على الحوار الدرامي المنطلق، أو المتأزم بين الشخصيات المتعددة. “31
من بين المقومات الرئيسية للحلقة كما أبرزتها المسرحية هو مظهرها الاحتفالي، أي تلك الصلة التلقائية، وذلك التواصل الحي المتجدد، والمباشر بين الممثل والجمهور، والساحة والمدينة واندماجها كلها الواحد في الآخر أثناء العرض المسرحي. باعتبار الاحتفالية كانت أول نظرية في المغرب حاولت الاستجابة لضرورة تأصيل الظاهرة المسرحية … كثورة ضد المألوف والعادي تؤدي إلى “الإدهاش”، أي إلى إدراك المعرفي الذي يؤدي بدوره إلى التجاوز، تجاوز التناقضات القائمة في المجتمع والعمل إلى تغييرها.”32
كما يقوم دور الممثل من خلال هذه الاحتفالية على مبدأ “الاندماج المنفصل”، أي “تحقيق الوحدة مع الدور والشخصية والجمهور…لكنه عوض أن يندمج الممثل (وهو إنسان حي ينتمي إلى الحاضر) في الشخصية الدرامية (وهي شخصية أدبية تنتمي إلى الماضي)، عوضا عن هذا، ترى الاحتفالية أنه من الضروري أن يقع العكس؛ أي أن تندمج الشخصية في الممثل المسرحي وفي واقعه الآني الراهن حتى تكسب صفة المعاصرة والحياة. بعبارة أخرى، … من هنا فإن الاندماج الذي تؤمن به هو اندماج المعنوي في الحسي، واندماج الماضي في الحاضر، واندماج الوهم في الحقيقة، والحلم في الواقع. إضافة إلى أن الممثل يظل مبدعا يتدخل ببديهيته وارتجاله الذكي الذي يبعد الفعل المسرحي عن الآلية والميكانيكية.”33
وهذا ما ترمي إليه الاحتفالية التي ترى ” أن التمثيل هو واقع وإن كان وهما.”34 لهذا نجد الطيب الصديقي أولى عناية خاصة بالشكل البصري باعتباره عنصرا سينوغرافيا حين اعتنى بطريقة توزيع الممثلين فوق خشبة مسرحه على شكل يشبه الدائرة التي يتوسطها الراوي في أغلب الأحيان. وتجلس مجموعة الممثلين خلفه حتى يضفي نوعا من الواقعية على فضاء المسرحية.
ومما زاد من الإيهام بواقعية المسرحية، “تشخيص بعض الحوادث اليومية والنزاعات الطارئة التي تحدث بین منشطي الحلقات، ويفضها ممثل السلطة المحلية المكلف بالساحة؛ مما يعطي الإحساس بواقعية الحلقة. لقد جمع الصديقي كل ما يمكن أن يكيف الحلقة العتيقة مع خصوصيات الخشبة المسرحية الحديثة، كما يجعل هذه الأخيرة تتكيف معه وتستجيب لشروطه.”35
وبما أن الجمهور في الحلقة ليس فقط متلقيا سلبيا كما تحدث عن ذلك الدكتور حسن المنيعي، فنجد كذلك الطيب الصديقي يعطي للجمهور أدوارا متعددة فهو: “يلعب أولا دورا ماديا وسينوغرافيا أساسيا في خلق الإيهام بوجود الحلقة … كما يلعب هذا الأخير دورا اجتماعيا من خلال التصفيق و تقديم بعض القطع النقدية للراوي، أو من خلال التعبير عن رأيه أو موقفه من بعض الآراء التي يقدمها، أو يتبناها الراوي (في نهاية اللوحة 14تقوم نساء من الجمهور الافتراضي للرد على مواقف المجذوب السلبية من النساء وحملته عليهن).”36 إضافة إلى المشاركة في الحفل التمثيلي من خلال أداء أدوار ثانوية، و القيام بدور تشكيلي يتمثل في إنجاز لوحات كوريغرافية خلال وصلات الرقص الجماعي.
وبذلك يكون الطيب الصديقي جعل من الحلقة (بكل مقوماتها البنيوية أعلاه) وظواهرها المعبرة عن الاتجاهات الحديثة للمسرح المغربي، رمزا للفرجة الشعبية المغربية التي استثمرها وجسدها في تجربته التأصيلية.
ويبقى الهدف من دراسة مثل هذه الأعمال التأصيلية للمسرح المغربي من طرف الدكتور حسن المنيعي، هو الوقوف على أهم المراحل التي شكلت الأسس المعرفية أو الإبستيمية للأدب المغربي بصفة عامة، والمسرح خصوصا، وكذا الوقوف على دور التراث كخزان ثقافي في انبعاث الأشكال المسرحية ذات الهوية المغربية الأصيلة، بعيدا عن أشكال التهجين والتغريب والتبعية. ولا يعني ذلك أن المسرح المغربي منغلق على ذاته ومتقوقع حولها، بل هو نسق منفتح على آلية الاختلاف منذ نشأته، ولا يقبل التعالي أو التجانس.
الهوامش
1- أمين (خالد)، حسن المنيعي عميد النقد المسرحي المغربي، مجلة آفاق، العدد 63-64، يناير 2000، ص ص:291-292.
2- الذهبي (إدريس)، الكتابة التأصيبية عند عز الدين المدني، منشورات جمعية المبادرة الثقافية للتواصل والتنمية، الطبعة الأولى، 2013، ص:12.
3 – الكغاط (محمد)، “حسن المنيعي والنقد الشامل: قراءة في كتاب ‘المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة’”، ضمن المصنف الجماعي “الكتابة النقدية عند حسن المنيعي، فاس، اتحاد كتاب المغرب، ص ص 12-13.
4 – المنيعي (حسن)، أبحاث في المسرح المغربي، منشورات الزمن، الطبعة الثانية مصححة ومنقحة، يناير 2001، ص:37.
5- المنيعي (حسن)، قراءة في مسارات المسرح المغربي، ط1، مطبعة سندي، مكناس المغرب، 2003، ص:7.
6- المنيعي (حسن)، أبحاث في المسرح المغربي، مرجع سابق، ص:30. عن انطوان ارطو، المسرح وضعفه، ص:168.
7 – لوليدي (يونس)، مسارات القراءة في الأدب المغربي المعاصر، الطبعة الثانية -مزيدة ومنقحة- 2020، إديسوفت للنشر-الدار البيضاء، ص:19.
8- بن ابراهيم (عبد الرحمن)، حسن المنيعي وتنظير “صناعة الفرجة” في المسرح المغربي، العلم الثقافي 8 الخميس 10من رمضان 1440 الموافق 16 ماي 2019.
9- المنيعي (حسن) ، أبحاث في المسرح المغربي، مرجع سابق، ص: 20.
10- المرجع نفسه، ص ص: 8-9 نقلا عن لاندو جاكوب دراسات في المسرح و السينما العربيين، نشر ميزون نوف، باريس، 1965، ص: 15-52.
11 – المرجع نفسه، ص21.
12- المنيعي (حسن)، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، الطبعة الأولى نونبر 1994، ص:6.
13- المرجع نفسه، ص:7
14- المنيعي (حسن)، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، مرجع سابق، ص ص:30-31.
15- المرجع نفسه، ص: 12.
16- المرجع نفسه، ص: 12.
17- بناني (رشيد)، مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي، إصدارات أمنية للإبداع والتواصل، الطبعة الأول 2015، دار النشر سوماكرام، ص:52.
18- المنيعي (حسن) ، أبحاث في المسرح المغربي، مرجع سابق، ص ص:132-133.
19- المرجع نفسه، ص:140.
20- المرجع نفسه، ص: 137.
21- بناني (رشيد)، مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي، مرجع سابق، ص:305.
22- المرجع نفسه، ص: 306.
23 – المرجع نفسه ص: 306.
24- المرجع نفسه، ص:309.
25 – المرجع نفسه، ص ص: 311-312.
26- المرجع نفسه، ص: 313.
27- المرجع نفسه، ص: 314.
28- المنيعي (حسن) ، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، مرجع سابق، ص. 23.
29 – بناني (رشيد)، مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي، مرجع سابق، ص:314-315.
30- المنيعي (حسن)، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، ص:52.
31 – بناني (رشيد)، مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي، مرجع سابق، ص:316.
32- المنيعي (حسن)، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، مرجع سابق، ص:51.
33- المرجع نفسه، ص ص:45-46.
34 – المرجع نفسه، ص:46.
35- بناني (رشيد)، مغامرة التأصيل في مسرح الطيب الصديقي، مرجع سابق، ص:309.
36- المرجع نفسه، ص ص:317-318.