عمّان-
يسعى الباحث والأكاديمي الجزائري الدكتور الهواري غزالي في “موسوعة الشعر الخيميائي” إلى نفض الغبار عن جزء مهم من التّراث العربي الذي طاله النّسيان وهو الخيمياء. وهو جزءٌ “ستكتمل به المكتبة العربيَّة، نظرًا للنُّقص الذي تبديه إزاء هذا العلم المهمَل” وفقًا لتعبير غزالي.
يضمُّ الجزء الأول من الموسوعة التي تقع في أكثر من 800 صفحة وتشمل تحقيقَ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة بيت شعري، ديوان “شذور الذَّهب” لابن أرفع رأس الجيَّاني الأندلسيِّ (المتوفَّى سنة 593هـ)، وفي جزئها الثَّاني ديوان “قراضة العسجد” لمحيي الدِّين بن عربي (المتوفَّى سنة 638هـ)، وفي جزئها الثالث ديوان “سلاسل النُّضار” لصلاح الدِّين الكوراني (المتوفَّى سنة 1049هـ).
ويعدّ ابن أرفع رأس الجيَّاني المسمَّى “الرئيس” من أهم الشُّعراء الخيميائيّين، وهو الشَّاعر الذي قيل فيه: “ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب (شذور الذهب) لكفاهم دليلًا على البلاغة (…) فلم يَنْظِم أَحَدٌ في الكيمياء مثل نظمه بلاغةَ معاني، وفصاحةَ ألفاظ، وعذوبةَ تراكيب، حتى قيل فيه: إن لم يُعَلِّمْك صنعة الذَّهب علَّمك صنعة الأدب”.
وقام الدكتور الهواري غزالي، إضافةً إلى تحقيق “قراضة العسجد” في الجزء الثَّاني، بضمِّ قصيدة ابن عربي المسمَّاة “كشفُ الأستار لخواصِّ الأسرار”، ورسالة أخرى بعنوان “شرح قصيدة (كشف الأستار لخواصِّ الأسرار)” لعبد الرَّحمن السُّويدي، ورسالة “كتابُ ما أتى به الوارد”. وتعدُّ هذه الرِّسالة من بين أهمِّ الفصول والرَّسائل التي ألَّفها -لغرض تبيان طريقة السُّلوك- بناءً على معرفته العميقة بالكيمياء القديمة، وذلك إلى جانب كتابه المشهور “الفتوحات المكيَّة”.
وتناول المحقق بالبحث موضوعين أساسيَّين؛ أوَّلهما التَّحقق من نسبة ديوان “قراضة العسجد” لمحيي الدين بن عربي، وذلك نظرًا لافتقاده المعلومات التي من شأنها إثبات نسبة الدّيوان إلى صاحبه، وثانيهما؛ البحث في معرض ذلك في موضوع الكيمياء الرُّوحيَّة التي أثارها ابن عربي في كتابه “الفتوحات المكيَّة” في فصل بعنوان “كيمياء السَّعادة” وفي رسالته “كتاب ما أتى به الوارد”. والهدف من هذا البحث هو إيجاد نقاط تقاطع بين ديوان “قراضة العسجد” ومؤلَّفات ابن عربي النَّثرية خصوصًا.
أمَّا “سلاسل النَّضار” المنظوم بداية القرن السابع عشر للميلاد بحلب، فيُعَدُّ صاحبه من أكثر شعراء حلب نظمًا وأوسعهم نظرًا في العلوم. وهو قاضٍ من الكتَّاب المترسِّلين الذين عاشوا بالفترة العثمانيَّة. ويعدُّ هذا الدِّيوان في مرحلته المتأخِّرة زمنيًّا مقارنة بالدَّواوين الأولى دعمًا لفرضيَّة وجود غرض الصَّنعويَّات الذي جعل منه الدُّكتور الهواري غزالي تساؤلًا مستمرًّا في أبحاثه وعمل من خلاله على إيجادٍ مكانة له بين الأغراض الشِّعريَّة الأخرى.
وتعمل هذه الموسوعة الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن، على تأسيس غرضٍ شعريٍّ جديد، يُضافُ إلى قائمة الأغراض الشِّعريَّة التي عرفها العرب، كالغزليَّات، والطَّرديَّات، والمرثيَّات وغيرها. وهو غرضٌ اصطلح عليه الدُّكتور الهواري غزالي بالصَّنعويَّات نسبةً إلى مصطلح الصَّنعة الذي يعود إليه الخيميائيُّون للإشارة إلى مهنة الخيميائي الذي يسعى إلى صناعة الذَّهب.
وجاء في الكتاب أنَّ هذا الغرض الأدبي يسمح بمساءلة واقع الشِّعرية إذا ما تعلَّق بنشاط الكيميائي الأديب. كما أنها تسمح أيضًا بتحديد العلاقة بين الأدب العربي والعلوم القائمة على التَّجربة، في إشارة إلى “الشَّعر والكيمياء” من ناحية، وتحديد الأشكال الشعرية التي أنتجتها الفكرة الكيميائية مقارنة بالأنواع الكلاسيكية (قصيد، أرجوزة، تخميس…) من ناحية أخرى.
ومن الغريب، بحسب الدُّكتور الهواري غزالي، أن يَعُدّ النُّقاد شعرَ الخيمياء جزءًا من الشِّعر التَّعليمي، بحيث يعبِّر الشَّاعر عن تجاربه الكيميائية بنظمه للشِّعر لغايةٍ تعليميَّة. ويضيف: “بالمقارنة مع الشِّعر التعليمي في النَّحو مثلًا، فإنَّ الشِّعر الكيميائي يبدو غامضًا، ولغير المطَّلعين يبدو مستغلقًا تمامًا. لذا، تُعتبر دراسته من عدَّة جوانب، صعبة المنال. فرغبَة الكيميائيين في عدم إفشاء أسرارهم، وخاصة فيما يتعلَّق بطبيعة حجر الفلاسفة وسرِّه، دفعتهم إلى إنتاج مؤلَّفات غامضة ومغلقة بشكل محكم، وقد أسهم هذا في غياب دراسة نقدية حقيقية لهذا الإرث الثَّقافي العربي العظيم”.
يُذكر أن الخيمياء ألهمت جمهورًا من الأدباء والمفكرين، مثل ذي النُّون المصري (توفي عام 248ه،)، وابن أميّل التميمي (توفي عام 348هـ)، الطُّغرائي (توفي عام 513هـ) أو حتى ابن رشد الشَّهير (توفي عام 594ه،)، لا سيما بعد الانتقال من مرحلة التَّجريب البسيط خلال المرحلة الأولى من التَّرجمات عن اليونانيَّة إلى التَّنظير ثمَّ التَّعبير عن ذلك أدبيًّا.
ويوضح الدكتور الهواري غزالي أن ابن خلدون يعرّف الخيمياء بأنَّها علم ينظر في المادة التي يتم بها تكوين الذَّهب والفضَّة بالصِّناعة. وتسمَّى هذه الصِّناعة بعلم الكيمياء أو الخيمياء أو علم الصَّنعة. وتعتمد الكيمياء على خليط من الممارسات القديمة (ذات الجذور البابلية، الفرعونية والإغريقية) وعلى معارف كثيرة من بينها الفيزياء، والفلك، وعلم الرموز، وعلم المعادن والأحجار، والطّب. ويُنسب إلى خالد بن يزيد بن معاوية (توفي عام 85هـ،) أوَّل تأليف في هذ النَّوع من الشِّعر التَّعليمي المعروف بديوانه “فردوس الحكمة” والذي يحتوي على أكثر من 2900 بيت. ويُعبِّرُ هذا الدِّيوان عن انتقال العلوم اليونانيَّة لأوَّل مرَّة إلى الثَّقافة العربيَّة عن طريق الشِّعر وليس عن طريق النَّثر. وتتابع المسلمون على هذا؛ كجابر بن حيان وأبي بكر الرَّازي، حيث اجتمع التَّجريب العلمي بالتَّحليل الفلسفي مبتعدين عمَّا ورثوه من تصور ميتافيزيقي هو أقرب إلى الخرافة منه إلى الواقع.
يشار إلى أن الدُّكتور الهواري غزالي شاعر ومترجم وأستاذ محاضر في قسم الدراسات العربية بجامعة باريس، وباحث بمركز الدراسات الأدبية العالمية في العاصمة الفرنسية. أصدر في الشعر دواوين من بينها: “أناشيد النبوءات المتوحشة”، و”قلب لا يحسن التصديق”، و”للبحر صوت آخر على جسر ريالتو”، و”كتاب الغبطة المتصلة”، و”نزيلا قاسيون”. كما ترجم إلى العربية ديوان “هذا الحظ وهذه النار” للشاعر الفرنسي جون بول ميشال، و”كتاب الحماسة” عن هيردريلين. وصدر له عام 2019 كتاب “دونيز ماسون” عن المستشرقة الفرنسية دونيز ماسون، التي ترجمت القرآن الكريم إلى الفرنسية عام 1976. وإلى جانب كونه مهتمًا بالدراسات النقدية الشعرية، فهو باحث يشتغل على تحقيق الدواوين والمخطوطات العربية الإسلامية القديمة.