حسن لمين| المغرب
تتكون هذه الرواية من 190 صفحة، تتضمن واحدا وعشرين فصلا معنونا، أولهاب“انزياحات نحو الخيال” وآخرها ب “تحديد المسافة”، ويمكن اعتبارها من أحدث الإصدارات الأدبية التي تناولت القضية الفلسطينية من منظور إبداعي فريد.
إن أول عتبة يمكن الوقوف عندها قبل خوض غمار النص، والنبش في مكنوناته الابداعية والجمالية، هو العنوان الذي نجد أنه يعكس تعدد الأبعاد الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تتناولها القصة، والتي تتراوح بين الصراعات الوجودية والتاريخية والشخصية. يظهر في العنوان استخدام الحوار الصريح كأداة أساسية لاستكشاف هذه الأبعاد، حيث تتبادل الشخصيات آراءها وتوجهاتها بشكل مباشر، مما يعكس التعقيدات الفكرية والعاطفية التي تحيط بالقضايا المطروحة في الرواية.
بالإضافة إلى ذلك، يعكس العنوان التشابك الأدبي الذي يتجلى في تنوع الرؤى الوجودية والاجتماعية، والتي تندرج ضمن إطار حبكة أدبية معقدة. وبينما تتباين الرؤى والمواقف بين الشخصيات، يتكشف الصراع الداخلي والخارجي الذي يعتري العلاقات الإنسانية والسياسية في الرواية.
من خلال تعاملها مع القضايا التاريخية والسياسية، تبرز الرواية كمعالجة مميزة لمسألة ذات أهمية قومية وثقافية، وهي قضية تاريخية سياسية تمثل الأم الروحية للبلاد الإسلامية ألا وهي القضية الفلسطينية، ومن اللافت في الرواية هو مزجها بين شخصيات مختلفة، مثل المرأة الفلسطينية والإسرائيلية والمؤلفة الضمنية المغربية، والتي تعتبر رموزاً للثقافات والهويات المتنوعة في المنطقة. يتم تناول هذه الشخصيات بطريقة معقدة تمزج بين الماضي الأليم، والحاضر المستبد، والمستقبل المجهول، مما يضفي على الرواية عمقاً وتعقيداً فريداً.
تغوص بنا الرواية في نقاش محتدم واضح الهوية، حول قضية فلسطين من خلال حوارات متعددة الأصوات لشخصيات مختلفة. ويظهر النص الروائي التباين في وجهات النظر حول القضية الفلسطينية، بدءًا من أولئك الذين يرون أن الشعب الفلسطيني قد ضحى بأرضه وباع قضيته، إلى أولئك الذين يرون أن المقاومة هي الحل الوحيد، إلى أولئك الذين يدافعون عن الحوار والسلام كوسيلة لإنهاء الصراع.
في هذا السياق الجدلي الملحمي، ينطلق حديث إستير، تارة بأنغام لغة الحوار العميق وتارة بصورة ملموسة تفتح أبواب التصوير الروحي. تتحدث إستير عن الدولة التي تحلم بها، وعن تلك البقعة الأرضية التي يتجسّد فيها حلم المساواة بين الجنسين، حيث تستطيع النساء أن يلتقطن شموع المساواة ليضئن طريقهن إلى قمة الإنجاز. تترنم كلماتها بنغمات العدالة الإنسانية، تنادي بالمساواة بين البشر بغض النظر عن العرق أو الجنس، أو اللون. ومع هذا الترنيم الجميل، يظل الواقع القاسي حاضرًا بشدة، حيث ينشغل فادي وسليمان وأكرم ونور بمعركتهم اليومية ضد لهيب الاحتلال وجراح الاستيطان المتفاقمة. إنهم ينطقون بصوت واحد، يتلفظون بلغة واحدة، تلك التي تحمل في طياتها تحديات فلسطين والقدس العظيمة.
مع تصاعد حدة الجدال بين الشخصيتين اللتين تشتركان في قضية ملحة محملة بالجراح والتضحية، تختار الروائية أن يطلق طيف رأيها في ساحة الحوار، حيث تتخذ موقفاً لائما ثم تتدخل بذلك في المحاورة بين دلال وإستير هذه الأخيرة التي تتحمل مسؤولية اللجوء إلى العنف اللفظي والتلاعب بالحقائق، فقد تجاوزت حدود النقاش الهادئ لتتحول إلى جلادة ترتدي قناع الدفاع عن الإنسانية.
بتصريحاتها المعادية للسلام، أصبحت إستير كالقنبلة الموقوتة التي تنذر بالانفجار في أي لحظة، فتصبح صانعة للحرب تحت غطاء السلام. بشكل مفاجئ، تظهر هي نفسها كالكيان الصهيوني، بعد أن كانت تختبئ خلف أقنعة وهمية، وتمتلك ورقة الاعتراف بكونها جزءًا من واقع آخر. وبذلك، تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع الحقيقة، تكشف عن جانبها الظالم وشراستها، وتظهر قدرتها الفائقة على ممارسة الظلم دون تردد.
تُعدّ رواية “بيني وبين إستير” عملًا روائيًا هامًا يُقدّم رؤية إنسانية مُتوازنة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. كما تُؤكّد الرواية على أهمية الحوار والتواصل بين الطرفين كسبيل لتحقيق السلام. تُعدّ الرواية دعوةً للتفكير في قضايا الهوية والذاكرة، ودورها في تشكيل الصراعات الإنساني.
وختاما لهذا المقال المتواضع، الذي سلطنا فيه بعض الضوء على ثلاثة نماذج لمنجزات روائية لمبدعات مغربيات معاصرات، نقول: إن الرواية النسائية المغربية المعاصرة ظاهرة أدبية هامة تتميز بالجرأة في طرح الأفكار وتناول المواضيع، وكسر النمطية السردية، والتعبير عن الذات بكل انفتاح، وتجديد الخطاب الروائي، والدفاع عن حقوق المرأة في الوجود والإبداع، ولا غرابة في ذلك لأن كاتباتنا ارتقين في مدارج الثقافة، ونهلن من منابع الخلق والإبداع.
-بديعة الراضي بيني وبين إستير، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، 2023