الجزء الأول من الدراسة: الشعر والآلام الذاتية في القصائد الأولى من الديوان.
* قراءة في ديوان لا اوبخ احدا للشاعر المصطفى ملح
قراءة نقدية للحسن أيت بها.
في لغة ذات منهج علمي محكم، يرصد الشاعر خلجات ذاته، يقلب فكره فيه، يرمم حطامه اليومي، القصيدة ذات متشظية، قلقة، خائفة، تصبح جثة، يعرضها على طبيب جراح، يشرحها، فيخرج منها الذر، واللؤلؤ، ويبرز في أحشائها الفضة والذهب والماس، لن تصبح القصيدة أذن مجرد بوح، بل سترتقي بواسطة مشاعره، ولغته إلى مصاف الشعر الذي يبهجك، ويحقق لك نشوتك الشعرية، ويعطيك مفاتيح أسراره، بعد أن حيَّرك، وباغتك، وفاجئك.
لم تكن قراءتي للديوان متقطعة، فقد سهرت ليلتي، وأن أقرأ، فاكتشفت أن كل قصيدة مترابطة بالقصيدة التي تلحقها، ورأيت أنني محتاج إلى أكثر من قراءة، حتى أستفيق من هول صدمة القارئ الأول والثاني، فأتقبل العمل بمزيد من الموضوعية، ولا أتقوقع في ذاتيته.
إنه سِفر، أو مزمور، ينقل لنا اخفاقاتنا وآمالنا، وأحلامنا، وانتظاراتنا، على هيئة موسيقية، ولغة تنفذ إلى القلب، فتحرك شغافه، و تسمو به سموا إلى مدارك المحبة، تعبر عن الحزن منتهى قلبك.، وتعبر عن الفرح منتهى عقلك…
يحول الشاعر تجربته الشعرية، – غير مؤنب ولا موبخ، لا الرصاصة ولا القناص- إلى أغنية جمعية، تتآلف فيها التجربة الذاتية بالتجربة الشعرية، فتخلق عوالمها الخاصة، بشروط تتجاوز الزمان والمكان وتتعالى عليه، وتخلق نبرته الخاصة، لتحيل تقاطيع أسطره الشعرية، إلى أنشودة كأنها إلياذة، وبطولة كأنها لرولان، فيصارع طواحن الهواء، بكلمته، كأنه دون كيشوت..
ويعزف بكلماتك جوا أدبيا ثقافيا، وسفرا وطقوسا خاصة، تُسائل الذات، وتُسَائل الكون والعالم، منفتحة ومنغلقة في خط الذات في آن واحد .
استهل الشاعر المغربي المصطفى ملح قصيدته، بديباجة توحي، بأنه يمارس هواية كتابته للشعر، بتمرينات، بالغة في الاختزال، من اجل فهم ذاته، واظهار خفاياها المضمرة، ففي القصيدة الأولى التي تتكون من اربع مقاطع، يبدأ بفعل: أسامح، من يقصد الشاعر؟
من سَامح؟ ومن سيُسامح؟
يطالعنا بالمقطع الأول فيقول:
“اسامح النجار،
ذلك الذي سيصنع التابوت خاصتي
ويلقي زهرتي داخله،”[1]
ثم تتكرر الكلمة لتوحي بدلالات قد تعبر عن عنوان مجموعته الشعرية، لا أوبخ أحدا التي حازت على جائزة المغرب للشعر،
الشاعر لا يوبخ أحدا إذا
يسامح كثيرا، ويؤنب ذاته كثيرا،
فالشاعر إذا رَجل مسامح او مِسمَاح كثير السماح، حتى على حساب نفسه، سهل، لين، يسامح ويغفر، ويتجاوز…
سامح يدا لم تبقه في رحم البرزخ تسعا
وسامح البنت، وسامح الرصاصة معلنا سريانها في بدنه:
” اسامح الرصاصة التي مشت في بدني
وحين غادرت قبيل مصرعي لم تغادر”[2]
يعبر الشاعر بأسلوب وصفي قريب من الواقع اليومي، ولغة سهلة متداولة، عن حالته، وبوحه الشعري، وطبيعة نفسه في علاقته بالمجتمع وأفراده، يصبح الشاعر هنا محللا نفسيا، لذاته، يسبر أغوارها، يفكك رغباتها، يسرد آلامها، بربطها بالكون، ويترك السجال والتحدي في محاكمتها، فيقرر المسامحة، ويجهر بذلك، عالمنا الذي نعيشه يفرض ان نسايره، ونعيشه بأدق تفاصيله، ربما استسلام الشاعر من أول وهلة للقدر، سيجعله يذهب هذا المذهب في سائر مجموعته الشعرية، وفي كل قصائده،.
ها هو يبوح ويعترف بأن النجار سيصنع تابوته، ويلقي زهرته، اي يعطي الانطلاقة ببداية موته، فيقرر مسامحته…
يسير الشاعر بلا جسد، يتساهل، ويترك كل شيء فيصبح مجرد فكرة في الشاعر، يعير يده، وفمه وقدمه، يخف جسده فيصبح فكرة تمشي في الناس..
يقول الشاعر في قصيدته من الصفحة رقم 9:
“أسير وليس لي جسد
مجرد فكرة تتعلم المشي البطيء بشارع المعنى
أعرت يدي لفرخ خائف
ليصد اسراب النسور بها…
…………… …………..
اعرت فمي لنهر
كي يحاور ضفتيه به..
أعرت لكرمة قدمي……
…………. ……………….
أعرت لأمتي جسدي لأصبح فكرة…
فيخف وزني خارج الأقفاص..[3] “
هكذا يخلص الشاعر نفسه، بالإعارة فيجعل جسده كما يفعل الصوفية، مجرد فكرة، إذ يتفاضل الناس في العقل، فيحاول أن يزن نفسه بالعقل، والفكر…
يدَوِّن تمرينه ضد الحياة، تخطئ الرصاصة المرمى، فيرد الشاعر: أصابتني.. أنا..
يحول الشاعر الحياة إلى قناص، يصيبه وأهله، فيكون ضحيته، وها هو يتمرن ليكون العشبة في المرعى..
فكلنا إذن ضحايا الحياة وقنصها، تصيبنا فنضمد هزائمنا، ونشد انكساراتنا…
في آخر قصيدة من الفصل الأول: تمارين لا بد منها: نجد قصيدة مكتملة من حيث المعنى والرؤيا والايقاع:
أتمرن على الموت:
“في الباحة خلف البيت
غُسِلتُ وجيء بمن يتلو ” يسين”
وفي الجهة الأخرى قصت قطع من ثوب أبيض
بعد دقائق مسرعة صرت كفنا.
وحُملت على خشب ومضيت إلى وطني
****
في الأسفل كان العالم ديمقراطيا
لا ميت يزعم أن له نسبا لسماء ثامنة.. “
احفاء بطعم الموت انتصار الموت في الأخير، تمرينات على الموت، موت الذات، هكذا يحتفي الشاعر وحيدا، إذ يصور ذاته، يمضي بكفنه إلى وطنه، هكذا يطوع اللغة لتعبر عن ما تخيله بعد الموت، أو ما سيجري بعده..
“لا يوجد عراف أو داعية او قطب او ملك
هي ارض ثالثة
ارض يحيا فيها العدم المنسوج بخيط وجود”[4]:
المرجع:
- لا أوبخ أحدا، المصطفى ملح، الطبعة الأولى، مقاربات للنشر ، فاس 2018.
لا أوبخ أحدا، المصطفى ملح،الطبعة الأولى، مقاربات للنشر ، فاس 2018. الصفحة9.- [1]