حاوره أحمد الشيخاوي
مصطفى جراري أحد الوجوه المغربية، أنتج وأخرج العديد من الأفلام السينمائية القصيرة جدا، التي تقارب أوبئة عالمنا السفلي وتحفر عميقا فيها، استحسنها الجمهور ولاقت انتشارا واسعا عبر الميديا، وحاز البعض منها جوائز وطنية، نورد على سبيل المثال شريط «قف» المتوّج بجائزة أحسن سيناريو. وفي هذا الحوار نقترب أكثر من وعيه ورؤيته..
□ تجربتي في الفيلم القصير اختمرت بعد المرحلة الجامعية، حيث استهواني النص المسرحي قبل السيناريو وأنا أنتشي حينذاك بجائزة أفضل نص مسرحية في مهرجان مسرح الطفل في فاس بعنوان «الضجيج الهادئ» كانت تلك الجائزة محطة إقلاع حقيقية للكتابة والإبداع، منتقلا بذلك إلى المسرح في الثانوية وجائزة أخرى من وزارة الثقافة عن مسرحية بعنوان «أسطورة الحب والتضحية والوفاء» اقتباسا عن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، فلم يكن الفاصل بين الصورة الشعرية والمسرحية إلا ذلك الخيط الناظم الذي يحول الصور الشعرية لمشاهد مسرحية عبر حبكة درامية تؤثث الركح المسرحي.
■ وعن بداياتك مع الفيلم القصير، نصّا وإخراجا؟
□ بدايتي مع الفيلم القصير انطلقت من مدينة الدار البيضاء فبعد تخرجي التحقت بالمدينة للتدريس، تعرفت على مجموعة من الممثلين كان لهم الفضل الكبير في صقل تجربتي السينمائية، وهنا أذكر الفنان حسن الفذ وعمر السيد، جالستهما وتشربت من معين تجربتيهما فكان حسن الفذ يعرض كل شهر أشرطة قصيرة في المركب الثقافي عقبة بن نافع، ويطلعنا على تقنيات التصوير السينمائي، تعلمنا منه قراءة الصورة في مختلف جوانبها، فتشكلت لدينا بعد سلسلة من الدروس رؤية سينمائية مكنتنا إلى حد ما من وضع القطار على سكته.
■ إلى أي حدّ يعكسُ مشروعك أوجاع بلدتك «أوطاط الحاج» ويصطبغ ولو بحدّ أدنى من تفاصيل ذاكرتها ويوظف تراثها؟
□الفن هو مرآة تعكس الانكسار والألم من جهة، والأحلام والتطلعات من جهة أخرى. والفن هو فضح للمسكوت وتعرية للواقع بلغة سينمائية تحاكي إلى حد ما الواقع في قوالب هزلية أو بكائية. فبلدتي الحبيبة احتضنتني، فكانت أمكنتها وأزمنتها حاضرة في ذكراي عبر استحضاري لمعاناة التلاميذ وهم يقطعون الوادي، وحلمهم بتحقيق قنطرة تخلصهم من ذلك الألم الذي لازمهم لسنين، فكان فيلمي الأول «براءة تنزف في صمت» ترجمة لتلك المعاناة، تلاه بعد ذلك الفيلم القصير «قف» الذي رحل بي إلى سينما الهامش وتعرية واقع معاش من خلال معاناة ساكنة الخيام وعزلتهم، التي قذفت بهم في أوحال الجهل، من خلال جهل التربية الطرقية، التي تجسدت من خلال استعمالهم لعلامات تشوير كأدوات في خيامهم.
الفن هو مرآة تعكس الانكسار والألم من جهة، والأحلام والتطلعات من جهة أخرى. والفن هو فضح للمسكوت وتعرية للواقع بلغة سينمائية تحاكي إلى حد ما الواقع في قوالب هزلية أو بكائية.
■ وما منسوب اغترافك من ذاكرة الطفولة؟
□ الطفولة مهد الإبداع وصدى يتردد دائما في ذاكرتي، فعلى إيقاع الطفولة نحيا لأن طفلا صغيرا يعيش دوما في دواخلنا وما ينقش في الطفولة لن ينسى، فطفولتنا ليست مثل طفولة اليوم، أقف مصدوما اليوم من تلاميذ يعبرون الجسر واضعين سماعات الأذن، ممزقين لسراويلهم وقاصين لشعرهم بأشكال مختلفة، غير آبهين أن تلك القنطرة ناضل من أجلها أجيال قبلهم. هؤلاء لم يذوقوا ألم ومحنة قطع الوادي في الشتاء البارد، لم يعرفوا يوما أن عربة انقلبت بهم وسط الوادي فأعادوا كتابة كراساتهم لأيام. إننا عشنا الحاجة في طفولتنا وتلك الحاجة ليست عيبا، بل كانت قدرا حتم علينا العمل على استثمار مقدراتنا الداخلية لتوظيفها في العلم فتشكلت معها خريطة جيل قادر على تحمل المسؤولية.
■ نجد في أفلامك أن كوميديا الموقف تؤثث مجمل متونها، كيف لهذه الثيمة أن تنجح الأبعاد الرّسالية والإنسانية والأخلاقية الذي ترومه الصناعة السينمائية الحديثة؟
□ عمدت في مجمل كتاباتي إلى معانقة كوميديا الموقف لمجتمع متعطش للضحك، ويعيش مرارة داخلية، لأنني اعتبر أن كوميديا الموقف لا تقف عند حدود الوجنتين بل تتعداها إلى تفسير مواقفنا وسلوكياتنا، لهذا فإننا لا نضحك من أجل الضحك وإنما من أجل إيصال رسالة قوية عبر مواقف هزلية.
■ وماذا عن متلازمة الرواية والسينما وأثر غيابها على السينما المغربية؟
□ متلازمة الرواية والسينما، لو تمت مقاربتها بشكل معقول، عندنا، لحلّت الكثير من المعضلات والعقد التي تنغّص على ازدهار الجنسين معا وبالتوازي، كما في الغرب، وحتّى البعض من الدول العربية، كمصر، التي تسند كلاسيكياتها السينمائية على المنجز الروائي، نجيب محفوظ أنموذجا. وعليه فقد حان الزواج في مختلف الفصول بين الجنسين لميلاد جنس متكامل الصفات، فالإعاقة الحاصلة اليوم راجعة إلى افتقار السينما لصلبها الأدبي، لأن أفضل شريط سينمائي هو الذي يعتمد على سيناريو محبوك من خلال قصة أو رواية تؤثث الفضاءات، وتنسج العلاقات والأحداث مع الشخوص. شخصيا من خلال تجربتي فأنا مغرم بالنموذج العاملي لبول لاريفاي في الحبكة القصصية، إلى جانب كل من جيرار جنيت وغريماس، إن المتفحص لهذه العوامل والوظائف يدرك أن هناك تكاملا بين فقرات الجسم الروائي، وأي خلل في المشهد السينمائي راجع إلى عدم التوفيق بين هذين الجنسين.
السينما اليوم تقاوم وسط هذا الغزو التكنولوجي الذي جعل الإنسان يعيش عزلة بدل الذهاب في رفقة عائلية لمشاهدة فيلم في دور العرض السينمائي.
■ لعلّ التكنولوجيا والتقنية الحديثة بلورتا أفقا غرائبيا وأكثر إرباكية للطرح السينمائي، ما رأيك؟
□ السينما اليوم تقاوم وسط هذا الغزو التكنولوجي الذي جعل الإنسان يعيش عزلة بدل الذهاب في رفقة عائلية لمشاهدة فيلم في دور العرض السينمائي، فالتكنولوجيا جعلت اليوم العالم بين يديك لكنها لن تجعل العالم في قلبك ذلك القلب الذي يعيش اللحظة وهو يشاهد الفليم من بدايته حتى انتهاء الجنريك، فتعيده لزملائك وأنت شغوف بحكيه بطريقة وبأخرى لكن اليوم الإنسان مفتون بمجموعة من الأحداث لديه كل شيء، لكنه يعيش غربة حتى وسط أسرته، تجد الرفاق في المقهى ولا حوار بينهم، كل في عالمه الخاص فأين هي متعة الجلسة وكيف يمكن أن نتبادل أطراف الحديث التي سلبت منا قهرا.
■ تنافسية المشهدين الهوليووديوالبوليوودي المتّسمة بجودة العالمية، هل تؤثر فيك، كسيناريست ومخرج؟
□ هذا السؤال الذي ظل يؤرق النقاد والمهتمين بالحق السينمائي منذ زمن، لأننا بتنا هذه المدة نعمل كهواة وإن كان لدينا من الرؤى ما يمكننا من المنافسة، فالمشهد السينمائي المغربي يعاني من مجموعة من المثبطات، نذكر منها على سبيل الحصر، مشكل الدعم والترويج والتسويق، زد على هذا انقراض القاعات السينمائية هذا إن تكلمنا عن جودة الأفلام وطبيعة مواضيعها من حيث معادلة الكم والكيف وغياب معاهد لتكوين السيناريست، فيجب عدم التركيز على آليات الإخراج فقط. فالفيلم نواته سيناريو يبنى على قصة فالآن في الدول الأوروبية مراكز بيع الأفكار، فالمخرج في حاجة لناس من هذه الطينة ليبني عمله وفق رؤية بصرية تمكنه من رسم معالم الفيلم. فالسينما لغة عالمية يفهمها الجميع لأن الصورة أداة لتمرير الخطاب، وما أحوجنا اليوم إلى سينما هادفة قادرة على جعل المتلقي يتشبع برسائلها. واليوم الحمد لله بتنا في المؤسسات التعليمية نعرض أفلاما تربوية للتلاميذ، لاقت تفاعلا كبيرا من خلال انخراطهم في النوادي السينمائية وقدرتهم رفقة أساتذتهم على تحليل الخطاب السينمائي بدأ من القصة وحبكتها ومرورا بالسيناريو وتصوير وتركيب الصورة في إطار ورشات جعلتهم يعشقون السينما ويتطلعون كل يوم إلى سبورة الإعلانات لانتظار اسم الفيلم الذي سيعرض لمناقشته. إلى ذلك الحين اضرب لكم موعدا لتقديم قراءة فنية لفيلمي المقبل «أنا هنا» الذي سنعمل هذه السنة على تقديمه للجمهور.