أي شيء قد يكتب عنه المرء، فوق ما تكدّس في اللاوعي، وراكمه اللاشعور، كي يتنفّس الصعداء، وتُحصِّلُ منه الذات بلسمها، فتكون هذه الكتابة، إمّا جعجعة لا طائل منها، ونفاقا يُجمّل قبح الواقع، ويُسوِّقه بعد أشواط من الديباجة والتزييف، أو منتقدا واقعيا لا يخشى في تشخيص العلل بجرأة ومصداقية، لومة لائم، ولا سوط جلاد.
حتّى لا نقول مصلحا، أي هذا المبدع، كون هذا المفهوم ألصق بالدين، والوظيفة الإبداعية إجمالا، حري بها ان تنأى عن هذا، ولا تتورط بتقمّص رؤاه.
في ظرفيتنا الراهنة، لا يمكن لأي سبب من الأسباب، التغاضي عمّا يسرق الحلم الإنساني. الحلم في كون الأرض للجميع، تتسع للكل بدون استثناء، وبشكل عابر للحدود والقارات، ومتجاوز لفوارق اللغات والأعراق والأديان.
فلم إذن هذه الأنانيات؟ ولم تناسل لوبيات وعصابات، يظل استعباد وقمع واضطهاد الإنسان، شغلها الشاغل.؟
تعتبر الثقافة آلية من بين آليات رعاية وتغذية هذا الحلم الإنساني الكبير، والذود عنه بشراسة ضد كل ما يهب ضدا عليه، وما يربك الصيرورة الإنسانية من منعطفات، ينتجها التطرف السياسي القادر على جعل الثقافة مجرد ملهاة، فارغة من أي محتوى، لا تقدم الرسائل القوية والعميقة التي تربي مثل هذا الحلم.
فالذي حصل، مثلا، مع جائحة كورونا، في طوفان التهويل والتضخيم الإعلامي، يُبرز أوجه الانحراف والثغرات في سياق ” التقدم” البشري، مقابل ما بصمه الأدب والثقافة عموما، حول الظاهرة، والحقيقة أن هذا المشهد الإبداعي الذي قارب أعوام الجائحة وخاض في حيثياتها وحاول استفزاز تفاصيلها، من زوايا متعددة، إنما جاء من قبيل المواكبة لا أكثر، كرد فعل، وعلى سبيل المثل القائل بأن الحاجة أم الاختراع، عوض أن يكون استشرافيا واستباقيا يحذر من مستقبل داج، تعبث به الأيادي السياسية وتمسخه وتهجنه، ستدفع فيه الشعوب الثمن باهضا.
الآن تغطي الحرب الروسية / الأوكرانية على الفصل الجنائزي الذي عاشته البشرية طوال سنين تلكم الجريمة البيولوجية التي لم تأت من فراغ بالطبع، بل هي إحدى الثمار المرة للجشع الاقتصادي، والتدخل البشري في الطبيعة.
يحصل ما يحصل من دمار، الآن، وتكتل للقوى العظمى ومن ورائها الدول التابعة ضمن حدود تقاطع المصالح أو توازيها، على نحو هيستيري متسارع ومحموم، ينذر بقيامة وشيكة، في شبه غياب لدور الثقافة والأدب في تقويم الاعوجاج السياسي وتخليق آفاقه.
في غمرة هذه العولمة المسمومة، وكيف أنها تتعمد إفقار الشعوب وتغريب الأرواح واللعب بالعقول، ولعمري هذا هو الأخطر في المؤامرة برمتها، تحضرني سيرة الملك الذهبي مانسا موسى (1280/1337) كأغنى رجل في تاريخ البشرية، بشخصيته ” الطائية” نسبة إلى حاتم الطائي، وضرب المثل به، في الكرم والجود و البذل والإنفاق، حسب المراجع التاريخية الموثوقة، المتطرقة للعديد من مناحي حياته، خصوصا رحلة حجه الطويلة، ذهابا وإيابا في قافلة من ذهب، يقودها جيش من العبيد، مؤثلا بأضرب البذخ والترف، مرورا بمناطق الفاقة والتصدق الارتجالي على قاطنيها، حدّ خفض سعر الذهب لعشر سنوات، كما حدث في القاهرة ، ما اضطر مانسا لشراء ما تصدق به ثانية، كي يعود لسوق الذهب استقرارها ورمزيتها، فعودة هذا الأسطوري العظيم إلى معقل حكمه، مالي، الدولة الإفريقية الافقر، حاليا، والتي تحدها الجزائر جنوبا وموريتانيا شرقا، كحاكم مسلم نهل من ينابيع الدين الخاتم في كونية رسالته التي تجعل من الاقتصاد عصبا حيويا، ولبنة أساس في بناء الإنسان والعالم.
إن ما جلبته العولمة، واورثته حماقات الساسة، هو ثقافة الملهاة، فأفلحت في تجويع الشعوب وإضرام فتيل الحروب ونشر الطائفية وتقديس المادة على حساب إنسانية الكائن.
إنما أتيت على هذه السيرة، لأثبت الغاية من الأدب الحقيقي والذي تمثل النبوءة مركزيته، ففضلا عن تعرية عيوب العولمة في أقصى صور وحشيتها، يفترض نفض الغبار عن ذاكرة الرموز والعظماء الذين تصدُّوا فعليا ل”عولمات” فارطة، بالتأثير الإيجابي، فأفضى ذلك بالتالي إلى خلق توأمة حقيقة ما بين الثقافي والسياسي انتعش له الحلم الإنساني المقموع، خلافا للعولمة المفروضة اليوم، وإمعان سدنتها في خنق هذا الحلم واضطهاد أجياله.