كان كعادته كل ليلة لا يبرح مكتبه حتى يعبث بمفاتنى ، وأصبح ضميرى ساكن ، لم أعد أشعر بوخذه من ضمير مثلما كان يحدث من قبل ، أحيانآ أتذكر شهاب ، وأتسأل فى نفسي هل يغضبه ما يحدث بينى وبين الحاج حلمى ؟ لا أعرف ولكن شهاب يرى الأمور من زاوية مختلفة ، يراها من الزاوية التى أراها ، يراها من زاوية أنه مع الفقر تتعطل كل الأفكار والشرائع والحدود ، مع الفقر لا فرق بين العُهر والعفة ، ولا بين الخمر والحليب ، أنا لا أعنى للحاج حلمى أكثر من صنف موضوع على مائدته ، قد لا يعنى وجوده شىء ولكن غيابه غير مستحب فمائدة الكبار لا يجب أن ينقصها شىء وإن كان لحم الفقراء أنفسهم ، أنا بالنسبة له حزمة جرجير ، شاخت وتلطخت بالبقع من سوء التخزين ، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
أنجزت أعمالى بالدأب المعهود ونزلت إلى قهوة إيزافيتش ، وجدت شهاب جالسآ متأزرآ بسترته السوداء يدخن ، وأمامه ثلاث فناجين من القهوة وكومة من الأوراق ، تبادلنا التحية بالنظرات ، وجلست صامته ، كان يسعل كل دقيقة سعال مكتوم ، وكان وجهه شاحب ، شهاب لا يشتكى أبدآ رغم معاناته ،جاءنى عونى النادل فطلبت منه كوبآ من القهوة المغلية ، وتوسلت إليه أن يضع فيها بعض البن هذه المرة ، فنظر إلى بإندهاش وهو يضحك ويقول:
- الُبُن غالى يا أستاذه نور !
- خلاص يا عونى حط زفت ، فأسرع وهو يصرخ فى زميله الذى يقف على النصبة، واحد زفت للأستاذه نور وكتر الزفت يا ابنى !
كان شهاب يحدق فى السماء ثم يتابع الكتابة حتى ترك القلم مؤخرآ وإستدار ناحيتى ، أمسكت سترته بعنف كعادتى ، فإيتسم وهو يهمس تقريبآ.
- قديم لا يغادر وجديد لا يولد ، من باع غدآ للناس أخطر بكثير ممن باع لهم الأمس ، ومن باع لهم الحياة أخطر ممآ باع لهم الموت ، الأمل يا نور خطير وقاتل وخبيث مثل ورم سرطانى ، أنا متعب كثيرآ والموت بالنسبة لى مجرد إعلان وفاة ، أنا ميت منذ سنوات كثيرة فائته ويبدوا لى أننى لم أولد من البداية وصورتى التى تتجلي أمامك مجرد هلوسة بصرية ، الحقيقة مثل الموت يا نور كثيرة
- لن تجدى حقيقة واحدة ولا كذبة واحدة !
أخذت الأوراق من أعلى الطاولة دون إستئذان ، كانت قصة قصيرة بعنوان حارة العاهرات.
تحكى عن عركة دائرة بين إثنتين من العاهرات كلاهن تشتم الأخري وتصفها بالشرمطة وتنعتها بأقذع الألفاظ وتتهمها بما يدل على عدم النظافة الشخصية وعلى الرغم أن الحارة كلها من العاهرات أو من الذين يخدمون على المهنة من القوادين والسكاسك والحفافين إلا أنهم يتابعون العراك الدائر بذهول ، حتى تنتهى العركة بأن يقوم كلآ من القوادين المسئولين عن الحارة بضرب العاهرة التى تخصه وينفض العراك ، هذا ما آل إليه حال حارتنا.
تركت القصة داخلى شجن وعبئتنى بحزن وكآبة مثل كل القصص القصيرة التى يكتبها شهاب ، تركت الأوراق وعينى مغرورقة بالدموع ، وهو يشعر ناحيتى بآسى ..
أمسك بالأوراق ومزقها كأنه بذلك يخفف عنى الوجع ، شهاب كتلة من الأحاسيس ، ينقل المعاناة من الواقع إلى الخيال ببراعة ، لا ينقصه غير من يقدر أعماله ، سحب كفى بحنو وطبع قبلة عليها وهو يقول بصوت واهن الأسباب التى تدعو لتسلق جبل إفرست أنه موجود ، سأذهب وأتسلقه ، وهب واقفآ وما هى إلا بضع خطوات حتى سقط على الأرض ، شعرت وقتها أنه لن يقوم مرة أخرى ، ركعت على ركبتاى وأنا أصرخ فيه وأحتضنه.
- لا تغب وتتركنى هنا وحدى ، لقد تواعدنا على البقاء ، أنا لا أثق فى شىء ، لا تتركنى أموت وتحيا أنت من غيرى ، شهاب ، إنطق بكلمة واحدة ، أنت لم تخبرنى بالرحيل ، كنا نجلس مذ لحظات ، لماذا أخفيت عنى موعدك ، الموت جبان ، لا يأتى إلا متخفيآ.
- إنهض يا شهاب ، لا تمت هذه المرة أيضآ ، أنا أعرف أنك مِت أكثر من مرة قبل الأن ، أنا أعرف أنك عشت ميتآ ، أنهض فأنت أخر من تبقي لى فى الحياة.
كانت عيناه مفتوحتان وشبكة من الأوردة فى عينيه حمراء دامية ، وكل شىء فى جسده رافض للبقاء ، كل شىء إنتفض فجأة ثم سكن إشتعل فجأة ثم خمد سترته المهترئة ولحيته المملؤة بحبات السمسم ، ونظارته الضبابية ، وقلمه المقصوف فى أعلى جيب سترته وبعض قطرات القهوة العائدة من حلقه إلى فمه ، وجبينه البارد ، وإبتسامة رضا تهتف بقديم لا يغادر وجديد لا يولد.
*قاص من مصر