يستمد هذا المقال راهنيته مما كشف عنه الربيع العربي في معظم الدول العربية عامة والمغرب خاصة،والذي كشف عنه تسارع وتيرة انسحاب المثقف العربي من انخراط ومواكبة للحراك الشعبي. بعد أن أضاع التأسيس والتوقع والبناء في الإشكالات التي بادر إلى الإعلان عنها الأستاذ عبدالله العروي في مشروعه التاريخي” الإيديولوجية العربية المعاصرة ” .
يقول إدوارد سعيد ” دور المثقف إزعاج السلطة”، وهذا ما لم يحدث في المغرب إلا في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، لكن انتهى المطاف بهؤلاء المثقفين المغاربة إما في السجن أو التعذيب والنفي خارج البلاد من طرف المخزن، ومنذ تلك الفترة العصيبة التي مر منها المغرب وما يسمى بسنوات الرصاص والجمر اختفى المثقف المغربي من تأثيث المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأصبح لبعضهم دور في ترويض الشعب وإخضاعه لطاعة المخزن ورغبته، وبعضهم وصل إلى السلطة بمساعدة المخزن نفسه، والبعض المتبقي اغتنى مالا وخرج مطأطأ الرأس وابتعد كليا عن المشهد السياسي.
نسارع القول أن جزءا من هذا المشروع الكبير تؤكده الأحداث التي تعيشها معظم الدول العربية اليوم من المحيط إلى الخليج، مادام أحد المسوغات الوجودية للمثقف هي أن يكون روح المواطن المقهور ويدا إلهية، لدا فإننا نميز في تجربة هذا المثقف بين حضوره المتعدد الألسن هنا وهناك في الصحف وشاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي..إلخ. فقد عرف انطلاق الحراك الشعبي بتونس التحاما فوريا وخلاقا بين مجمل مكونات الطيف الثقافي التونسي،حيث نجد كل الهيئات السياسية والتنظيمات النقابية والمدنية المجتمعية حاضرة في التغير الذي يطمح له كل الشعب التونسي منذ بداية الانتفاضة الشعبية من جهة، ومن جهة أخرى بمرونة مبهرة وإبداعية ملموسة انصهر أبناء أهل الفكر في تونس بيوم الحراك دون انتماءات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وبعد أكثر من ثمان سنوات تمخض الحراك الشعبي وأوصل أول رئيس شعبي على رأس الحكومة منتخب من طرف التونسيين وخاصة الفئة المثقفة وعلى رأسها شباب الجامعات، ونفس الشيء بمصر مع وصول السيد محمد مرسي إلى الحكم، لكن الرياح جرت بما لم يشته أهل مصر ومثقفيها، نظرا للدور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تلعبه مصر في المنطقة فضاع كل شيء، وانقلب العساكر على الرئيس المنتخب من الشعب وعادت المياه إلى مجاريها، تفقير وخوف ورعب وغياب المثقف من جديد وابتعاده عن المشهد السياسي والاقتصادي . نفس الشيء نجده في الجزائر منذ إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ترشّحه لولاية خامسة في الحكم، خرج الجزائريون في حراك شعبي أقل ما يقال عنه راقي وسلمي وحضاري إلى الشوارع كل جمعة من أجل سقوط كل منتمٍ إلى حكومة العسكر في البلاد التي يتزعمها الرئيس المنسحب من المشهد السياسي بوتفليقة، وكل رموز النظام الحاكم سابقا منذ الاستقلال تتوارث المناصب وتتغير الوجوه، هذا ما أقلق الجزائريين.كيف لدولة نفطية تنتمي إلى مجموعة أوبك تتخلف في سلم التنمية الاقتصادية والصحية والتعليمية.؟
أما بالنسبة للمغرب فلا يمكن فصل هذه الأزمة ومظاهرها الراهنة عن أمسها القريب، يجمع الكل على تحديدها بتولي الملك الجديد شؤون الدولة و تجديده الثقة في المسار السياسي الذي دشنه الملك الراحل الحسن الثاني في تجربة التناوب التوافقي بين الأحزاب السياسية المغربية، لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر أنه بعد منتصف العقد الأول كانت مليئة بمجموعة من الإجراءات والأحداث عززت الخيار الديمقراطي سياسيا، اجتماعيا، واقتصاديا. إلا أن طبيعة الرهانات الكبرى لهذا الخيار السياسي والاقتصادي، ما كان للفكر المستعجل إلا أن يتسابق مسرورا ساذجا على تقبيل يد السلطان الجديد للبلاد، أو الدعوة إلى الإفطار في رمضان و معالجة ملف سنوات الرصاص الذي بات بلغة الربح والخسارة معركة خاسرة على المستوى السياسي وعلى جميع المستويات. أضعنا الذاكرة بدعوى حفظها وأضعنا ضحايا سنوات الرصاص بتعويضهم المادي، واعتبرناهم وسائل حققت غايات تجزى عنها وهي الراعية للقيم كغايات في ذاتها . لنا أن نسجل أن الضمور اللافت للهيئات الحقوقية والسياسية والمثقفين، سجل بشكل واضح العطب الديمقراطي في طبيعتها القائمة منها:إتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر وهيئات سياسية وثقافية.
أما من زاوية رصد حضور المثقف في الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد، نسجل حضورا خجولا صاحبه ضجيج كبير فيما يخص حركة عشرين فبراير وما تلاها . أما بالنسبة لحراك الريف وبعض المناطق الأخرى من المغرب كالجنوب الشرقي ( زاكورة) والأقاليم الجنوبية .. فإننا نسجل كذلك عجزا واضحا وغيابا تاما لمواكبة دينامية الحراك الشعبي، ما عدا بعض المساهمات المحتشمة هنا وهناك من طرف بعض المثقفين اليساريين من داخل عملهم التنظيمي، سواء الحزبي المباشر أو النقابي والحقوقي . فعدا المساهمة المتفردة لعبد الله حمودي وإعلانه الإمساك عن شعيرة عيد الأضحى، انخراطا منه مع حراك الريف الذي خصهم برسالة مفتوحة أكد فيها عن ثوابت أساسية تجعل من الحراك معركة مفتوحة على المستقبل وعلى جميع الاحتمالات انتهت بسجن زعماء الحراك بعضهم بتهمة خيانة الوطن ك “الزفزافي”، والبعض بسبب اتهامات لا أساس لها من الصحة في معجم العدالة الاجتماعية والقانونية وحرية التعبير كالصحافي حميد المهدوي، وبشكل مفاجئ نجد غيابا تاما لاتحاد كتاب المغرب والهيئات الحقوقية الأخرى كمجلس حقوق الإنسان بالمغرب في الوقت الذي نجد حضور بعض المثقفين المحتشم، وإن كان ذلك على صفحاتهم في الفضاء الأزرق ومواقع التواصل الاجتماعي.
من المؤكد أن هذه الأزمة مخطط كبير استهدف بشكل تدريجي الثقافة والفكر والبحث العلمي، والمتمظهر جليا في حجم الميزانية الهزيل المخصص للثقافة، والبحث العلمي والسياسة العمومية: غياب المسارح، المطابع ، دور النشر .. أما الطامة الكبرى الهجوم المتوالي الذي استهدف التعليم العمومي ،كأحد الثوابت التنموية السياسية الديمقراطية التي ناضل من أجلها مثقفون أجلاء منذ استقلال البلاد إلى الآن: من قبيل المهدي المنجرة، عبد الله العروي، المهدي بن بركة، عزيز بلال، محمد كسوس، محمد عابد الجابري، رحمة بورقية، فاطمة المرنيسي، فاطمة الزهراء أزرويل، محمد العمري، محمد بن رفه البكري .. إلخ.لكن ما تعرفه المدرسة العمومية اليوم يعري غياب المثقف عن حماية عرينه.
ملحق:
1ـــ أصبح المثقف العربي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة، متفرجا على المشاهد الدامية معنويا واقتصاديا واجتماعيا، ضحاياها المواطن المقهور المحروم هنا وهناك من الخليج إلى المحيط، فلا يستطيع أحد التعبير عن مأساته ومعاناته . وعلى المثقف أن يتفاعل مع حراك الشعب ومطالبه الحياتية، لأن المثقف يستمد شرعيته من الجمهور الواسع الذي أمنه على مستقبله أمام السلطة والحكومة وتحديات العصر.
2ـــ عندما تتبول الحكومة على رؤوسنا يأتي أشباه المثقفين ليقنعونا بأنها تمطر، وعندما تتغوط على أجسادنا النحيفة يقول بأنها تقدم الطعام إلى الجوعى والمتشردين في شوارع المدينة. قال إدوارد سعيد في كتابه المثقف والسلطة ” المثقف دائما له الاختيار التالي : إما أن ينحاز إلى صفوف الضعفاء، والأقل تمثيلا في المجتمع، ومن يعانون من النسيان أو التجاهل، وإما أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء” وهذا الأخير ما ينحاز إليه المثقفون العرب من الخليج إلى المحيط مع استثناءات قليلة جدا على رؤوس الأصابع.
3ــ الإعلام العربي اليوم أصبح في خدمة المخزن والرأسمالية أكثر من أي وقت مضى، مع استثناءات قليلة من الصحافيين الشرفاء وهم قلة قليلة يدافعون عن قضايا المواطنين المقهورين، والمثقف العربي اليوم يعرف هذا منذ منتصف القرن العشرين أي بعد استقلال الدول العربية، لكنه يسكت أو يلجم لسانه عن هذا المنكر من الخليج إلى المحيط، خوفا على المكاسب المادية التي يتلقاها، والمناصب السامية التي يحتلها.
4ــ سنقسم المثقف إلى المثقف العمودي والمثقف الأفقي، هذا الأخير الذي يؤثر في الآخرين ويخدم عامة الشعب ، عكس المثقف العمودي الذي يخدم مشروعه الشخصي في المجال الذي ينتمي إليه.
5ــ المثقف لم يعد اليوم في المركز، فقبل سنوات كانت الأحزاب والهيئات السياسية تعتمد على ما يسمى “خلايا التفكير”، وهي تجمع لعدد من كبار المثقفين المحسوبين على هيئات سياسية كانت مهمتهم الرئيسية إنتاج الأفكار، فنجد على سبيل المثال (الجابري، العروي، الخطيبي، جسوس، اللعبي…وآخرين) كان يمدون السياسي بعدد هائل من الأفكار التي تستشرف المستقبل، ويتركون للسياسي مهام التدبير، فموقع التفكير هو غير موقع التدبير، لأن للمدَبِّر(مدبر الشأن العام) إكراهات، أما المفكر فيفكر بعيدا عن هذه الإكراهات. اليوم صار السياسي مفكرا إن اعتبرنا ما ينتجه تفكيرا ومدبرا في الآن نفسه، فصرنا نعيش فقرا في التفكير وعجزا عن الإبداع في التدبير.
6ــ تغير مفهوم القدوات: صارت الاقتداء اليوم بمجموعة من الرموز بعيدة عن الثقافة والمعرفة (مغنون، راقصات، لاعبو كرة القدم…)، وهذا طبيعي بعد أن صارت الثقافة مجرد محافل (معارض، احتفالات..}
7ـــ ظهور “مثقفين جدد”: صارت الوسائط، وسائط التواصل الاجتماعي منابرا جديدة ل”مثقفين جدد”، يصِلون بسرعة ولا يستطيعون مجاراة مثقفي الكتابة والكتاب، بل ظلوا حبيسي العالم الأزرق يعيشون هناك وتظل بضاعتهم حبيسة العوالم الافتراضية.