أُمَّةٌ لا تقرأُ

لم يخلُقِ الله جلّ جلاله، للبشر، في الواجهة الأمامية، أعيُناً، إلاّ لتكون النظرةُ ثاقبة ــ دائماـــ إلى الأمام.

النظرة إلى المستقبل واستشرافهِ بذاكرة تقوّم أخطاء الماضي، وتُغربلُ الصيرورة التاريخية، هي مفتاح النجاح البشري المذهل الذي تحقق ويتحقق حتى الآن.

فلم نظير هذا الإصرار الرجعي، الذي يحاول أن يُقنعنا به، سدنته؟ كي تظل ظلاميتهم وجهلهم، مجرّد قنابل موقوتة، في أفق أحلامِ أجيال تتعاقب، ليتغيّر وعيها وذوقها جملة وتفصيلا.

  لعل ما يهمنا هنا، هو زخم المحاولات اليائسة لتقييد الثقافي بالسياسي والديني، بدل منح كل مجال حرية الإبحار في ما يوازيه او يتقاطع معه حتّى، من بقية المجالات.

ففي حقبة ما، شهدت كتيّباتُ محاولات تدجين العقل العربي وتهجينه، والتي قد يُفرّخها، سواء الهمّ الديني أو الرياضي أو “الموضاتي” او المطبخي، وإعلانات استقطاب نجوم المستديرة، ذروتها، كي تنتج بالنهاية جيلا شاذّا ميّالا إلى الغلو  والدموية والفوضوية والعنف، بيد أنه سرعان ما خفت بريقها واندثرت كأنها فقاعات وسحب عابرة.

إذا ما ربطنا الموضوع بأمتنا العربية، في مقاربة للمقروء بشقيه المطبوع والرقمي، نتحسس هول الإشكالية، جازمين أن لقب القراءة سُحب منها، وضيّعته في غمرة الإغراءات التي راحت تتشكل لها ملامح جيل مازوخي يتلذذ بأقلّ الخسائر والأضرار، ينغمسُ بالدوخة والخدر وتيه المرايا.

إذ تقول الإحصائيات، ان الفرد العربي يقرأ ما يعادل 35ساعة سنويا، منها 15 ساعة مخصصة للقراءات التي تعلق بالعمل أو الدراسة و20 ساعة مخصصة للقراءة في وقت الفراغ. وأيضا يقرأ المواطن العربي في المتوسط 16 كتابا سنويا، سبعة منها تتعلق بالعمل أو الدراسة والـ 9 الباقية على سبيل الهواية.

في المقابل، ولو أنه لا مجال للمقارنة، يقرأ الفرد الأوروبي 200 ساعة سنويًا.

أما من حيث الإصدارات الورقية فكتابين مقابل مائة أوروبيا، كما أن الولايات المتحدة وحدها تنتج  85ألف كتاب سنويا.

فهلاّ استوعبنا الدّرس جيدا، واستشعرنا حجم تقصيرنا الذي بسمومه تتم إبادة الأجيال..؟

إن مسؤوليتنا جسيمة في الحفاظ على هذا المكتسب، وصون هذا التوصيف الذي تشرّفت به أمتنا في عزّ حضارتها، حين كان الخليفة الرشيد يُسامر الفلاسفة والمفكرين والشعراء والفنانين والأدباء، فيغدق عليهم من بيت مال المسلمين، كي تكتظ المكتبة العربية بمؤلفاتهم النوعية والقيمة والوازنة.

والحقيقة بسيطة وجلية، كونها انبثقت من فهم إسلامي عميق ومتوازن لدور القراءة، عكس ما نخطط له اليوم، من غوغاء وسفسطة تصيب الكتاب في مقتل، مثلما تحكم على فرسانه بالإعدام.

من يتأمل المشهد، ما ينفك يتحسّر على ما ضيّعناه، كي يتعاظم جورنا على متتالية من الأجيال، أفتى عمينا العقَدي كما جشعنا الاقتصادي، بل وتبعيتنا الخرقاء، بتكرار ذواتنا في عقولهم الطرية والغضّة، فعمّ الشلل واستبدّت الاتكالية والاستسلام.

استسلم شيبنا وشبابنا بالمطلق، لثورة الميديا وغواية البصري، فضاعت الهوية، وما فتأت مشهدية احتضار الكُتب، يُدمي قلوبنا قبل أن يشوك عيوننا، التي لم تُخلق ــــــــ مهما يكن ـــــــ لغير النظر إلى الأمام، والنهل من فيض النبوءات، وتملّي العوالم المستقبلية، مثلما سبق وأشرنا.

أمن أمة تقرأ، إلى أخرى نقيضة لها بالتمام، حطّمت الأرقام القياسية في الأمية واللامقروئية، والظهرانية لخير جليس، بل إنها اتخذته للزينة، وكما طال سيوفها الصدأ، تراكمت الأتربة على كُتبها في رفوف النسيان.

فأنّى ثمّ أنّى تكون الفحولة والفروسية والرجولة، في إقبار هذين النورين: السيف والكتاب..؟

الصورة عن موقع العربية

*بقلم أحمد الشيخاوي

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

التوأمة بين أصوات الأنوثة والانتماء

أحمد الشيخاوي طالما كانت لي العديد من الوقفات مع تجربة الشاعر المصري أحمد مصطفى سعيد، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات