“إلى أين أيتها القصيدة” لعلي جعفر العلاق.. سيرة ذاتية تغوص مكتظة بالتفاصيل
يقدم على جعفر العلاق في كتابه “إلى أين أيتها القصيدة” سيرة ذاتية تمتزج فيها خلجاته الشخصية بالواقع الجمعي الذي شهد أحداثاً عظاماً، وجرت فيه متغيرات كبيرة، أثرت جميعها في تجربة الشاعر، وفي علاقته بالعالم.
وجاء الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 325 صفحة من القطع المتوسط. وحرص العلاق فيه على تصوير مراحل حياته كافة، تصويرا فنيا ينقل التفاصيل الدقيقة بلغة سلسة تجذب القارئ إلى سردياتها المحبوكة بعناية..
يقول في مستهل كتابه عن مرحلة طفولته:
“حين فتحتُ عينيّ في قريتي الصغيرة تلك، كانت حواس الطفل الذي كنته، مفتوحة على عاقول البراري أو نكهة الحقول الفوّاحة. وكان فيه ميلٌ، لم يفارقه حتى الآن ربما، إلى مقدم الخريف، والبدايات الأولى للرعد والمطر وقطاف الثمار. ولا أزال أتذكرها بحنينٍ شجيّ. بساطة أقربُ إلى الفقر، وتفاصيلُ عصية على النسيان. ابتعدَ بها الزمن، أو ابتعدتْ به، حد الانخراط في نقطةٍ سديميةٍ لا عودة منها. لكنّ خيطاً خرافياً، دافئاً ونحيلاً، مازال يمتد بيني وبين تلك القرية وأكواخها الطينية الصابرة. تماماً كما كانت، تمتد سدتها الترابية حتى تربطها بمدينة الكوت، مركز محافظة واسط”.
وحرص كذلك على استدعاء ذكرياته مع الشخوص الذين أثروا في حياته، جاعلا منهم أبطالا من لحم ودم، ممتلئين بالحياة، كما لو أنه ينقل ذكريات طازجة، لم تمر عليها سنوات طويلة.. يقول في أحد المقاطع:
“ما زلت أتخيل ذلك المعلم، وكان اسمه مالك على ما أذكر، الذي ترك على دفتر الإنشاء مساحة من الفرح لا تنسى، وكنت حينها في الصف الخامس الابتدائي. وبعد سنوات التقيته مصادفة. كان قد كبر كثيراً بينما كنت في ذروة الشباب. أعمل، في ذلك الوقت، رئيساً لتحرير مجلة الأقلام. حاولت، مازحاً، تذكيره بنبوءته القديمة. لم يتذكّرْها بالطبع كما كنت أتذكّرها أنا، لكنه ابتسم بلطفٍ، فرحاً بما وصل إليه طالبٌ كان واحداً من طلابه البارزين ذات يوم”.
وحضر المكان دائما بوصفه حاملا للذكريات وللشخوص، وجعله العلاق ضاجا بالحياة، ممتزجا بإسقاطات اجتماعية وتاريخية، ما أسهم في تلاشي المسافات بين الكاتب وقارئه. يقول واصفا الحي الذي عاش فيه مراحل من طفولته:
كنا نسكن في شارع متواضعٍ يقع قريباً من منطقة «5»، كنا جزءاً منها وطارئين عليها في الوقت ذاته. يجمعنا بها جوارٌ جغرافيٌّ قلق. مجموعة من البيوت البسيطة في أرضٍ خاليةٍ من المُشيّدات. أما طبقياً، فلم نكنْ قادرين على الانتماء إليها. كان يجمعنا بسكانها غبار النهار، وتفرقنا عنهم أشياء كثيرة: الليل الخاصُّ، والملابس الأنيقة، والسيارات اللامعة، والورد الذي يسترخي على الأسيجة. كانت من مناطق بغداد الراقية، في الخمسينات والستينات.
ويصف الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري هذه السيرة بأن الذات فيها تستدعي “ماضيها بصورةٍ حميمية، وتستدعي معه حالات انبثاقها المتعددة: ذكريات الطفولة، النزوح من القرية، تجربة اليتم بعد موت الأب، اكتشاف الشعر مبكّرًا، الارتباط الوجدانيّ بالأم، الاتصال بالمجلات الثقافية، وكتب الأدب والنقد، وجيل الستينيات، الذي عايشه دون أن يتورّط في دعاواه ومواقفه الأيديولوجية، والسفر للدراسة وتوسيع الخيار الجماليّ للشعر بين دمشق، وبيروت، والقاهرة، وصنعاء، والعين، واكستر، ولندن”.
وأجمل تجربة العلاقَ بأن صاحبها “عاش ناقدًا مسكونًا بجدوى الشعر وضرورته، ومُثقفًاً أصيلًا لم يتنازل أنملةً عن حرية الإنسان اليوم، وواجب التطلُّع إلى عصرٍ أقلّ وحشيّةً وأكثر أمانًا”.
ومن الجدير ذكره أن علي جعـفر العـلاق شاعر، ناقـد، وأستاذ جامعي عراقي حصل على شهادة الدكتوراة في النقد والأدب الحديث من جامعة اكستر عام 1984، وعمل مديراً للمسارح والفنون الشعبية في العراق، ومحــاضرا في جامعتي بغــــداد والمستنصريــة، وأستاذا للأدب والنقد الحديث في جامعة الإمارات العربية، ورئيساً لتحرير مجلة العلوم الإنسانية، بجامعة الإمارات، وله ما يزيد على 33 مؤلفا من بينها واحد وعشرون إصدارا شعريا.
شاهد أيضاً
قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي
د.حسن بوعجب| المغرب لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …