“الأديب والإعلامي الراحل أبو الشيماء ضيف عبور” أحمد الشيخاوي / المغرب

نثرت ورودي عليك
فردّت روحك بهدوء:
“ملامحي
يا ولدي
تُسربل الأبد؛
ففتّش عنّي في القصائد”.

  • واقع تكرير العطالة والأعطاب المجتمعية

لعلّها واحدة من بين الروائع التي كتبها القاص المغربي البراق عبد الجليل أبو الشيماء، سبق نشرها في مجلة الآداب البيروتية منذ زمن بعيد، وإن نوّعتْ في عناصر الكتابة السردية الضابطة لهوية القصة القصيرة أو الأقصوصة كوحدة الزمان والمكان والحدث،كونها هنا كسّرت هذه القاعدة وتخطّت حدودها استجابة لما أملته ظرفية الكتابة آنذاك، وبدافع أيديولوجية راديكالية تحاول الانتصار لقضايا العروبة الأكثر حساسية وسلطة على الوعي العربي في جمعويته.

الغطرسة الصهيونية وما نجم عنها من انتهاكات صارخة للسيادة العربية، ضاعت معها الذات العربية في خارطة الحق المشروع.

وهي تيمة فخخ بها البراق سرديته، وإن غاص في جرد الأوبئة الاجتماعية التي تعاود ظهورها، مُسرطنة من جديد، لحمة الدينامية في أفق تعاقب الأجيال.

أحكمت الذات الساردة لعبتها الكلامية هذه، مدشّنة حبكة مزدانة بإقحام الأفعال الدالة على النفاذ في زمن الحكي باتجاهات اللامحدود واللانهائي، في انطلاقة ليلية وعابرة لنهار خاطف وعودة إلى نقطة الصفر، متمثلة في ليل بهيم يفيد كافة عوامل الهزيمة والانتكاسة وقبلية التطلع للحرية والنور، حتّى إن الأقصوصة سواء من خلال عتبتها أو قفلتها، لتوحي بذلك أقساطاً تهيئ المتلقي لمغامرة عبور متاهات السرد، عبوراً دامياً يضعها في سياقها التاريخي بدرجة أولى..

يقول القاص: [في الهزيع الأخير من الليل، تفتح عينيك وتسمع أنّات كثيرة متداخلة، تحاول الوقوف، تسقط من السّرير، يسرع إليك الممرض، يسعفك ويعيدك إلى السّرير، يقول:

.”لا تتعب نفسك بالتفكير والكلام… لا تأكل أي شيء …ستجرى لك عملية جراحية غداً، أنت مريض ” بالمرارة

تسأله عن أحداث لبنان .. ينظر إليك برفق…ويمعن في التفكير كما لو يتذكر شيئاً ضاع من سنين.

يجيب:

ـــ “ريغان” أرسل برقية إلى “بيغن” يلتمس منه انسحاب الجيش الصهيوني من بيروت الغربية فقط.

يبتسم الممرض ابتسامة حزينة ذابلة جامدة صفراء، تهزّ رأسك المنفوخ وتقول:

ــــ حاضر … سوف لن أتكلم … وسأمتنع عن الأكل في انتظار الصباح..].

للتطاول الصهيوني على لبنان، حضوره القوي في القصة، وهي تناور بتعدد أمكنتها، ثالوث البيت والمقهى والعيادة، والزمن في انتقاله من حالة الاكتفاء بالليلة الواحدة إلى حيز ما يحقّق الغرض العام من العنونة في وظيفتها الوالجة في اشتراطات ما يلبّي وحدة عضوية تستلهم من النص العتبة، ثم العود إلى الزمن المظلم في هزيعه الأخير المذيّل بثقافة الأمل في فجر يبدّد تاريخ الجور على قضايا العروبة الكبرى، ويجود بتغيرات مجتمعية جذرية يتحسّن معها الاقتصاد ويرقى الفكر ويعمّ الرخاء والسلم والأمن.

كذلك الأحداث، بدورها تتلوّن، وكأنها تترجم تشظيات الذات العربية في كليتها، عبر ما يُجرى على الذات الساردة من تطعيمات تهشّ بخطاب الكوميديا السوداء، استغراقاً في مقاضاة واقع الهوان العربي، ولدغه بروح الدعابة الساخرة.

من خلفية أيديولوجية إذن تنطلق الشخصية الرئيسة، لتسبر عروق الوطن النازف بزوائد الوجع، أب مثقف في موقف عجز وضائقة مالية، أمام أطفاله المثرثرين ببراءة الجيل المطمئن لوكلائه وأولياء أمره، هؤلاء المقنّعون، الكبار المهزومون إذ تخجلهم مرايا زمان انكسارهم وتشتت كلمتهم وفرقة صفّهم.

أبناء يفرحهم ارتياد المدارس مدججين بكتب ودفاتر وأدوات جديدة، مقابل آباء مكلومين تحرجهم الفاقة وتذهب بماء وجوههم الديون.

يبيت بطل القصة أو فارسها المهزوم، محبطاً ساخطاً على الوضع ومتشبثاً فقط، ببصيص أمل في صبح يجود عليه بحلّ يعينه على صيانة براءة صورته في عين أطفاله وهم محكومون بهاجس عام دراسي جديد، يقتضي الجديد في كل شيء تقريباً.

وفي الصباح الموالي، يلتقي السارد صديقاً قديماً ليخيب أمله فيه، بعد أن يعتذر له عن عدم استطاعته تقديم قرض ينفق في اقتناء اللوازم المدرسية، بدعوى تبذير المال في عمل ذاعر، إشارة إلى المفارقات العجيبة للحياة التي عاشها ويعيشها المواطن العربي عموماً.

ثم طقوس ملاقاة صديق حديث العهد، في ذات المقهى، وهو من سيحلّ المسألة وزرع الفرحة في قلوب أطفال صديقة المعدم المكلوم الحائر.

لتختم القصة أحداثها في سرير المشفى الذي اتخذ منه السارد هنا منبراً للرقيّ الفكري والوعي الناضج والملمح الإنساني الجامع والحسّ العروبي الطاغي.

توجه اعتاده صاحبنا، من خلال كتابة تكسر القيود، وتنبض بحمولة الغرائبي، وفق أسلوب سلس وقريب جدًّا، يطرق الأذهان بسهولة تامة.

إضافة إلى طاقة النبش في التفاصيل الصغيرة ومحاورتها، ممّا يضفي نكهة خاصة ويمنع جمالية للقص، ويبرز السردية بأكثر من صوت للوشاية بدوال الصراعات الذاتية الخفية.

يقول في أجدد قصصه:[رأيت المزلاج يدور ورأس يطل علي… ما هذا؟ أصابني الذعر والدوار. الذبابة عادت برأس كبير وجسم ضخم وضخم و ضخم جداً، لا هو كركدن ولا هو فيل، لم أر من قبل حيواناً من هذا القبيل… دلت لسانها وجذبتني إلى فمها الغار، بلعتني ولم تمضغني، لبثت في بطنها بضع سنين…].

ختاماً، يمكن القول إننا إزاء مبدع حقيقي، خبر الحياة بكل تقلّباتها وتناقضاتها وهياجها الإيديولوجي، حظوظاً أهّلته لبصم سردياته بإبداع الأبوة والإنسانية وأحاسيس الانتماء في التحامه بالقضايا العربية الكبرى.


  • أبو الشيماء البراق عبد الجليل : شذرات ريشة غير منضبطة

ما لهذه الكثرة الكاثرة 
لا تتكلم … ؟؟؟
جلد البقر لا يريد 
أن يفهم.
لو أنها تمنحني لسانها 
كي أنوب عنها 
أصرخ و أتكلم..
ليتها تعلم 
أني لأجلها 
أحترق و أتألم…

*****

أنفقت معك 
عمر نوح ،،،
و صبر أيوب ،
و مال قارون ، 
و انسداد صدر يونس 
لم تبال.
و مع صمتي المبين ،
تداركت الحالة ،
ثم صرخت أنت:
أحبك…
جوابي:
من صرختي الأولى أحببتك 
وسأظل…

*****

الإهداء إلى أديبة بارعة:
زينب الوليدي Zaineb Oulidii

الدوخة…

شفت حتى عييت ،،
لقيتك معدن من الذهب ،
عقلي داخخخخخ ،
واش عيني هاذي ،
و لا قلبي للي كذب….
حي حي.

أيها المسؤول القمار..

أيها الوزير ،،،،،
أيها النائب ،،،، 
أيها المستشار ،،،،
و يا أيها المسؤول القمار…

*****

تحسس رأسك من الآن ،
فالمطرقة آتية لا ريب فيها 
مصوبة لقلبك برفقتها مسمار…
*****

تحسس رأسك من الآن ،
فالرياح آتية لا ريب فيها 
سوف تنضو الغم عنا و تزيح الغبار…
*****

تحسس رأسك من الآن ،
فالمحاسبة آتية لا ريب فيها 
سترميك حتما في أعمق حفرة و أغمق غار…
*****

تحسس رأسك الآن وليس غدا ،،
فالشعب ، هنا و هناك 
في كل مكان ،،،
بالدستور
يزلزل كيانكم الهش ،،،
و يفضح المخفي خلف الستار ،،،
كالعادة يرفع التحدي ،
و يصحح المسار..

*****

في وطني ،
القانون و المساطر ،،،
ك ( الروض العاطر 
في 
نزهة الخاطر).

*****

           دخلتموها بنعالكم
آمنين ،
لا خوف عليكم ،
و
لا أنتم تحزنون…
التقاعد أمامكم ،
و الريع في متناولكم ،،،
و 
عفا الله عما سلف.
وصية خالدة ،
تركها السلف للخلف ،
و خر لها سجدا ،
سدنة المصباح ،
في الغدو و الرواح…
أما 
نحن الصامتون ،،
نقول بعد خطب كل الجمع :
آمين يا رب العالمين…

*****

                    زمليني ،
دثريني ،،،،
قلبك أوحى ،
أنك تشتهيني…

*****

نهداك…
نهداك 
بارتفاع طور سينين ،
سأرسم على تضاريسهما أجمل لوحة ،
سأكتب على تضاريسهما أجمل قصة ،
بعود التين ،
بعود الزيتون ،،،،
ما أروع التزلج 
على جسدك الأمين.

*****

المنشار .
كالمجرم النحّار ،
في 
الهبوط و الطلوع 
يأكل ،
كذلك الحاكم 
في 
الهبوط و الطلوع 
يأكل ،،
و 
الشعب المغلوب ،
بين 
طلوعه و هبوطه 
و
هبوطه و طلوعه 
ضحية تؤكل…

*****

فبراير صامد

لا تلمني يا حبيبي…
إن تغنيت بغيرك 
ملك الحب فؤادي…
لمصيري ومصيرك 
فأنا اليوم أغني.
بعيده و عيدك.

*****

الحوت سجل إصابات 
في شباك 
الأغيار…
أمواج البحر 
جذلى ،
تصفق للانتصار…
يا ، و يا 
لكل هذا العار…

*****

هكذا ، نعم ، و بكل بساطة…

هكذا ،،، 
نعم ، و بكل بساطة ،،،
و بكل ما أوتيت 
من وضاءة الإحساس ،،
عرب الآن ،،،
أسوأ أمة تعيش بين الناس.

*****

الصاعقة…
آخر أوجاع السنين ،
جمرتان في الكفين…
و الحارقة في القلب ،
أما الصاعقة 
تستوطن المخ ،
تسحق ما بقي من السنين…

*** الأديب والإعلامي الراحل أبو الشيماء البراق عبد الجليل ــــ مكناسة الزيتون ــــ المغرب


  • في شيخوخة أوراقه المغازلة بذاكرة الطفولة

صحيّ جدّا وأنأى ما يكون عن حالات الانعزال المرضية، التشبّث بالتفاصيل الأعمق و الأكثر توغلا في الذاكرة ،أو لنقل تلفا حتّى، وذلكم حين تحاصر الذات أوجاع الشيخوخة، وتنثال الجسد متعثّرا بفوضى الجوارح، أسئلة الموت المحرجة.
إذ الكتابة بوصفها أوبة أو عودا مخمليا إلى القصي من مضارب  الطفولة البعيدة، لا يمكن إلاّ أن تتبرّج بزخم وكثافة الصور المضمّخة بمعاني الحياة التي قد تتوسّلها ذات طمرتها التجارب حدّ الإيذان بانقضاء فتيلها المتوهّج،تمهيدا لعمر إضافي أو مرحلة استشراف مغر ومدغدغ بطقوسيات تجاوز نوبات زحف الموت إلى مخيلة خصبة لا تسأم تجريبية تشبيب الروح في بدايات تشكل ملامح  خريف العمر ، و إعادة تأهيلها ، لا يُقعدها مثبّط عن المكابرة واستئناف النضال الإبداعي والحياتي على حدّ سواء، بل تفجّر في الذات أملا مُنسيا ومواسيا لم تك لتطفئ بمثله ظمأ وجدانيا أو تشفي به غليلا ملء عمق الجراحات، في سابق العهد.
في تجربة الشاعر عبد الجليل البراق، تبرز وظيفة التحول الذاتي استطرادا في تبوء منازل النضج الذهني المنقذ لما تبقّى من ذبالة روحية،بغية القذف بالذات المبدعة والزّج بها في أتون عوالم بديلة قد لا تكسّر من إيقاعات مغالبة حياة الشيخوخة،ولا تفسد مذاق حواس تهترئ وتتقادم رويدا رويدا،بل وتوّسع معاني توليفة الشهواني والصوفي  لديها وقفا على اجتراح جرائر الإبداع الاستثنائي والمغاير ملائمة وتوأمة لتصاعدية منسوب النضج وتسارع توهّجه عقلا وعاطفة.
إنها كتابة إخراج، تضع الجسد في إطاره الطوباوي، مشرعة الذاتية على أسئلة الموت، خدشا بفلسفة تأجيل الآني، أو غوصا في محاولات تضميده بالأحرى، قفزا إلى إلهامات الرتوشات الغيبية المغدقة على الروح إذ ترعى شبابها بحذر،من الطاقات الايجابية ومناهل الأمل البرود، عدل ما يجفف اللحظة المتوعّكة بمثالب الشيخوخة، مجنّبا إياها فخاخ الانهزامية الضاغطة والدافعة باتجاه تأدية المزيد من الضرائب والدمغات الجبائية التي قد تفرضها معايير هذه الشيخوخة المترهّلة.
تجربة انبعاث،ممتدة في تربة الانقراض الوشيك وممسوسة بغرائبيته وسيرة ظلاله،أو انفلات معزّز للمغالبة الذاتية التي عبرها ومن خلال تعاليمها فقط،تظفر القصيدة بعنفوان الأبد وترتقي سلّم الخسارات كمعادل لقرابين المقايضة الوجودية التي يبرّر بياضاتها حجم الصمت المستفزّ ،و المرتّب بوشاياته مشاهد الشيخوخة المنذورة لاستنطاقات الفناء مطرّز اللغز بجملة الغيبيات المُلهمة والمتسببة بجلال هذا النزيف على قلقه وتشكيكيته،هذا النزيف المرّ المكنّى عطالة عن الحياة، بل كتابة تنرسم لتجليات الذاكرة الطفولية في لبوس شيخوخة قاهرة بهواجسها وأسئلتها وعدميتها.
قبل أن نعود لاستكمال هذه المعالجة، يجدر بنا التوقّف عند هذه الفسيفساء كغيض من  فيض لصاحبنا، وهو يعلن حربا نفسية على جهات العري والغضاضة والثغور الملغومة بخيوط سم حقبة من حياة الإنسان تدعى شيخوخة، فيخرج بفضل مخياله الجشِع الأكول ، وروحه الشابة المرحة، و طفولة قصائده، مزهوا يتلمّظ عناقيد الانتصار على عطالة وعبثية الحياة.
[ أحدّق بعيد ..
لا شيء في الأفق ،
لا شيء على امتداد البصر.
سوى طفل هناك يتأمل الغروب ،
تربى بين الكتب يصقل الكلمات…].
[تسرب الجليد إلى عروقي ،
عبر شظايا مسام جلدي …
و أنا أرقب الساحل الموتور
متلفعا بالصمت ،
متلفعا بالغياب ،
و الخوف ،،،
متلفعا
برضاض قلبي المكسور].
………………….
[ألفيت قرب الثقب الأسود ،
سؤالا فاتنا:
هل أصابك عشقي ؟؟
قالت:
أنا الروضة التي هي أنت ،
أنت النجم الذي هو أنا.
برجة السؤال ،
وصعقة السؤال ،،
بكيت حتى ،،،،،
حتى نط من عيني قوس قزح .
حتى ،،،،
رأيت النجم و الروضة ،
تعشبا أمامي ،
يمارسان طقوسا نابضة ،
بشعر الحياة.].
…………………….
[ حرّريني من جسدي..
حرّريني من الاشتهاء والشهوة..
حرّريني من عقدة لساني…
حرّري بوحي لك: أنني أراك ربوة..
تثمر العناق والقبل والانصهار
بالعروة].
[ ويشدو بقلبي شادٍ وعبده
نشيدا يسامر ليلي الطويل
وأنت يا أنس شمعة
تفيض بوحدة يومي الطويل
كريم هو القلب ما راعني
إذا ما ورودي سباها الدّخيل
تفوح بعيدا فلا حول لي
شذاها عليّ بخيل بخيل].
……………….
[ ترشّ بعطفها قلبا ولوها
فيغرق في نعيم من جنان
به تزهو المحبة في منال
وقد أضحت له طوع البنان
لكم نسجا زمان الشح ودا
به وَرِدا الصفا بلا دنان].
إنها شعرية ترشق برمزية التموقع في منطقة المابين،تتزمّل بروح الكوميديا السوداء، وتتشبّع بكنوز ومرجانات خارطة الأمجاد مثلما صانت سجلاّت خلودها ريشة السّليقة الأولى،ولطّخ عذريتها وبياضاتها المغرية بتدلي عناقيدها، فحول ديوان العرب، وأستحضر هنا على وجه المثال لا الحصر شعراء خفّة الظل من طراز أبي العتاهية، وأحسب البعض ممّا دأب أن يُجريه أبو الشيماء،على لسان هذه اللوحة الكلامية المشتهاة في جميع أحوالها،ويضخّه في شرايين إرساليته التعبيرية ، أسرارا مثقلة بمعنى سؤال الفناء والتبدد،معارضة مؤثثة للمغايرة النصّانية،

وسابحة مع أفلاك الإضافة والتجديد وعدم الانزلاق إلى مستنقعات الاجترار والنسخ الإبداعي الذي لا طائل يرتجى منه.
قد تستأسد المعاناة، وتزرع في دائرة الذاتي ألف ثغر للرّدى، منغّصة بذلك فصول الشيخوخة،وراجمة بجمر خريف العمر، لكن…
مسرح الإقامة في الطفولة البعيدة جدا ، يبدّل جلد القصيدة بالتمام ، ويستنبت معنى موازيا للحياة الواقعية ،ومن ثم تتعالى إيقاعات الدّندنة مخضعة الرّوح لمنطق المطلق الضاج بإملاءات الانفلات والذود بسلاح الحلمية بغية استرداد حالة التوازن الذي لا يجعل الشيخوخة شبحا أو عدوا مهاب الجانب.
تلك هي المعية المغلّفة ببكارة أوراق الصمت، مهما تحرّشت بنا مغناطيسية الهديل المرصّع برضاض ونثار أوجاعنا.
ذلكم جنون الكتابة المرتقية بالنص فوق مستوى حياة مدجّجة بأسئلة الموت التي قد تولّدها وتسقي كلأ مراعيها هواجس الشيخوخة.
لافض فوك أيها السبعيني المشاكس بأوراق شيخوخة تغازل بطفولة الذاكرة وذاكرة الطفولة.وليكن آخر قولنا قبل أن يسدل الستار على فصول العمر منّا و المنثور بلا معنى وبنكهة القبض الطفولي على جمرة الحياة ،أو احتشام قوس قزح في خدود الأبكار، ليكن قصيدة تكفّن ذواتنا بجحيمية القصائد المخلفة أثرا فردوسيا في القلوب العاشقة.


  • فراق أوقد لوعة لا ترحم الشعراء

*مهداة إلى روح المُتجلّي في غيابه،أبو الشيماء البراق عبد الجليلتَمُتُّ لِي
بِالصِّلَةِ الَّتِي تُغْرِي النَّحْلَ
بِزَهْرِ الْقَفْرِ
فَهْوَ يَأْتِيهِ
مِنْ كُلِّ جُرْحٍ عَمِيقٍ.
فِراقُكَ السَّادِيُ الْغَادِرُ
فِيَّ
أَوْقَدَ لَوْعَةً
لاَ تَرْحَمُ الشُّعَرَاءَ
تَلْثُمُ الْقَلْبَ شِبْراً شِبْراَ.
آَهٍ، أَيُّهَا الْفَارِسُ الَّذِي
لِمُجَرَّدِ صَيْحَتِهِ
تَنْبُتُ الأَحْرُفُ
مُكَذِّبَةً
عَقِيدَةِ الْبُومِ.
أَنَا وأَنْتَ
زَرَعَتْنَا الأَحْجِيَةُ
الَّتِي صَمَتَتْ عَنْهَا
شَهْرَزَادُ
فَكَانَ أَنْ لَدَغَتْنَا بِشَهْرَيَارِيَتِهِ الْوَقْتُ
مُغَلَّفًا
بِنِفَاقِ السَّاسَةِ وَحَمَاقَاتِهِمْ.
أَنْتَ وَأَنَا
فِي مَعْنَى أَنْ…
نَتَنَفّسَ مِلْءَ رِئَةٍ مَثْقُوبَةٍ
تَمَاماً
عِشْقَ وَطَنٍ
مُهَان الرِّجَالِ
لَكِنَّهُ يَبْقَى وَرْدَتِنَا الْوَاحِدَةَ
غِنْجاً وَنُفُوراً؛
وَرْدَةً لاَ تَتَغَضَّنُ
بِرُغْمِ طَعَنَاتِ الزّمَنِ؛
وَرْدَةً نُذَوِّبُهَا فِي دَمِنَا
وَطَنًا نَعْجِنُ مِنْ قَمْحِهِ
قَصَائِدَنَا
أَقْصِدُ وَرْدَتَنَا الْوَحِيدَةُ
الَّتِي مَهْمَا طَعَنّاَ فِي الْغِيّابِ
لاَ تُبَدِّلُهَا السَّنُونُ
أَبَداً تَجِيءُ وَقَدْ نَضِجَ بُرْتُقَالُ وِجْنَتَيْهَا
وَلَبِسَهُمَا شَفَقٌ خَجُولٌ جِدّاً
لِأَقُولَ لَهَا
تَمَاماً مِثْلَمَا عَلَّمْتَنِي:
خَجَلُكِ الزَّائِدِ هَذَا
لاَ مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإِعْرَابِ.
أَقُولُ الْوَطَنَ وَأَعْنِي جَوْرَهُ بِالطَّبْعِ
يَا فَارِساً
يَدُ الرَّدَى
مِنْ قَلْبِي قَدْ قَطَفَتْـــــــــــــــــــــهُ.


  • في أربعينية حضوره

في السابع من الشهر المنصرم، ترجّل عن دنيانا، أحد فرسان المشهدين الأدبي والصحفي ، وطنيا وقطريا، المبدع القيدوم أبو الشيماء البراق عبد الجليل، عن سنّ قارب السبعين، ليورّث ثروة فكرية وأدبية أثرت ساحتنا الإبداعية، وأثّرت بالإيجاب في الجيل الذي تربى على يدي الراحل.

يشهد له نضاله الحياتي والإبداعي الممتد، بحكم ساق سبقه إلى تأسيس جريدتين محليتين، كان لهما الدور البليغ في نشر الوعي وتنوير العقول وإذكاء الرأي العام، عبر منبرين سمّاهما، “العهد الجديد”و “أنس “، تعنى إحداهما بالطفل وقضاياه، فيما تستهدف الثانية كل الشرائح العمرية، بهذا يكون قدّم الشيء الكثير لوطن أحبّه وأخلص له قدر المستطاع ، في سنّ مبكرة جدّا.

ناهيك عن أنّه أسس في أوج شبابه، ناديا يهتمّ بالفنّ في بعديه المسرحي والسينمائي، مؤكدا علو كعبه وموسوعيته في الإحاطة بما يشغل المواطن المغربي المتعطّش لانفلاتات مفضية إلى آفاق كل ما هو حداثي ، ضامن للتطلعات الحقوقية ومسعف في عملية وفعل التكريس لحرية التعبير.

بحيث قام بتأسيس النادي المسمى” شادي عبد السلام للمسرح والسينما” تيمّنا برفيق دربه الإبداعي والنضالي، المصري شادي عبد السلام، فكان هذا المكتسب نافذة ، أخرى أطل من خلالها فقيد الساحة الثقافية والإعلامية، أبو الشيماء البراق عبد الجليل ( 1950 ـــــــــــــــ 2018) ، على حقائق وجودية مغايرة غذّت شخصيته الحداثية ، وزكّت فيه النزعة الإنسانية، في غمرة الانتصاف ما بين أمجاد الماضوية ، ورهانات التقدمية، فقد أفلح ، إلى حد كبير، في الإمساك بالعصا من الوسط كما يقال ، ذاد عن الثوابت والمقدسات وقضايا العروبة الكبرى، دونما الوقوع في مخالب التعصب للقومجية البغيضة، تمّ له مرامه بفضل عقل متفتّح، ينبذ شتى أشكال الأنانيات العرقية واللونية واللسانية والعقدية، ما منح تجربته طابعا عالميا، استحسنته سائر التجارب والأسماء والحساسيات.

وبالمختصر المفيد، نجده وقد أبدع في مجمل جوانب النضال حياتيا وأسريا وإبداعيا، أبدع في أبوته مثلما أبدع في عنايته بأسرته ، وأثبت بجدارة مغربيته، على نحو كأتمّ وأبلغ ما يكون إعداد الأجيال، وصناعة الرجال، والأطر الهامة والوازنة في هذا البلد.

الشيء الذي جعل يوم رحيله يوما كارثيا بامتياز، وشكّل خسارة حقيقية وفادحة، وضريبة حتمية، وفراغا كبيرا، وأفولا صامتا أدمى قلوب عشاق ومحبي ومريدي وأتباع رجل وطني معطاء يكنّى البراق عبد الجليل.

تعرّفت عليه، بالطبع ، عبر الفضاء الفيسبوكي الأزرق، بأشهر قليلة ، قبل أن تسبقني إليه يد الردى، وتحول دون لقائي الميداني والفعلي به، فقد كانت آخر مهاتفة بيننا، تنمّ عن عناق أخوي وشيك، وعدني من خلال تلك المكالمة ، بزيارة يستكشف عبرها هذه المنطقة القصية، الضاربة بجذورها في عمق المملكة، ولو أن أمورا جمّة كانت تجول في خاطري، وأفكار من قبيل :الأولى أن يتأمم التلميذ المدرسة ، لا العكس، ولكن هواجس أخرى ظلت تغالبني، مثل ضرورة تشريف قامة من طينة البراق، لهذه البلدة النائية، بزيارة للاستجمام وتبادل الأفكار وإنعاش السياحة الروحية، التي قد يحتاجها مبدع سبعيني منقطع، يهادن وعكته.

أملت وكان أملي كبير، في أن نلتقي يوما، بيد أن الدنيا غدّارة، لا يؤتمن جانبها، مترعة بالمفاجآت.

أذكر أنه أسرّ إلي مرّة ، برغبة في العودة والأوبة إلى أمجاده الإعلامية، بحيث قرّرنا وبدأنا بالتخطيط لإصدار مجلة ثقافية وطنية، لا لقلّة مجلاتنا النوعية، المحاصرة بشحّ الدعم ، وسلطوية التعاليم والتوجيهات، بل لتمتزج روحينا أكثر، أنا كولد بارّ يكابد عامل الجغرافيا ، في توصيل رسالته الإنسانية والأدبية المتواضعة، وهو كوالد شهم لم يبخل عليّ بالدعم المعنوي ، والترويج لنتاجاتي في عموم ساحات ومقاهي مدينة هي بمثابة معشوقة أبدية اسمها “مكناسة الزيتون”.

نشر الراحل بعضا من نصوصه القصصية في مجلات وجرائد عربية رائدة، مثل الآداب البيروتية، وقد قاربت تجربته في مناسبات ولو أنها قليلة، لا تكاد توفّيه حقّه ، كرمز أحببته دون أن ألتقيه.

سرّه ذلك مني، وأثلج صدره، كونه تحسس منه لونا وضربا من الإنصاف، وهذه حقيقة مرة أخرى، تشي بموت شموس الإبداع في كل الربوع العربية، واقفة، مع كامل الأسف.

وقد نبّهني إلى أن غزارتي في الكتابة بشقيها البحثي والشعري والثقافي، قد تكون على حساب صحتي، ونصحني بالتريّث، وأجده مصيبا في ما ذهب إليه، نظرا لعمق تجربته وخبرته بالكتابة والحياة.

فوّتت فرصة حضور مراسيم تأبينه، كوني لم أنتبه لإعلانات نعيه، عبر الفضاء الأزرق، بوقت كاف يسمح لي بالذهاب إلى مدينة مكناس .

وها أنا ذا أرتجل هذه الورقة بحقّه، وقد غادرنا إلى دار البقاء، لأقول أنه سوف يخلد في قلوبنا وعقولنا، بكل ما قدّمه وأبدعه، ولقّنه لجيل صعد بدعمه وتربيته ورعايته ، هو حاضر هذا الوطن الآن، بل ومستقبله أيضا.

إني وفي أربعينية حضورك أستاذي ووالدي الجليل، أشهد أن الحداثة التي أردتها ونريدها، لن تستقيم إلاّ بقافلة الصعاليك النبلاء، المبدعين الموغلين في احتراقهم، ملوك الضلال، وهم يغرقون ويغرقون في ديدن الإمساك بجمرة الكلمة والحياة، توجّههم ، على حدّ تعبيرك، تأسيسا على تدويناتك الفيسبوكية، الريشة غير المنضبطة، وإذن… فلترقد روحك بسلام.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“كولاجات قابلة للتأويل” مصطفى بنعزوز ـ المغرب

- عن الشعر - عن مولانا النساج النازف سلسبيلا محمد عيد إبراهيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات