الإقراء من منظور الإبداعية: مقروء ‘تموز جيكور’ نموذجا
كيف يمكن تدريس النص الأدبي في المدرسة المغربية؟ سؤال يثير إشكالا عويصا داخل المنظومة التربوية، في وقت بدأ فيه النفور من قراءة النص الأدبي من لدن المتعلمين، ما جعل المدرس بدوره يجد عوائق شتى أثناء تدريس النص الأدبي. أين يكمن الخلل: في النص بحد ذاته؟ أم في طرائق تدريسه؟
سنأخذ قصيدة “تموز جيكور” “لبدر شاكر السياب ” موضوعا تطبيقيا لمقاربة هذا الإشكال، وسننطلق من فرضيتين أساسيتان مفادهما:
1) فرضية المشكل:
أن العزوف عن قراءة النص الأدبي راجع إلى طريقة تدريسه باعتبارها طريقة تبحث عن حقيقة معرفية واحدة داخل نص المعرفة، حيث اعتماد خطوات إجرائية مسبقة لتدريس جميع النصوص تمنع المتعلم من إبداع النصوص الموازية.
2 ) فرضية الحل:
إن البحث عن كيفية تدريس النص الأدبي مرهون بكيفية قراءته، وبغية ذلك ينبغي الأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
– إن النص الأدبي لا يقبل معنى واحدا، فالمعنى لا يوجد في النص إلا في علاقته بالقارئ.
-لا يمكن تدريس النص الأدبي إلا داخل سياقه وفي كليته(الجشطلت) دون تجزيئه.
-لا يجب اعتماد خطوات (المنهج) لتدريس النص، بقدر ما يجب اعتماد آليات ووحدات لتدريسه.
يبدو أن القاسم المشترك بين هاتين الفرضيتين هو مفهوم القراءة وعليه يجب الانتقال من القراءة الحرفية المتعلقة بفرضية المشكل إلى البحث عن قراءة مغايرة تتلاءم وفرضية الحل، نسميها بالقراءة التأويلية باعتبارها بديل جذري يمكن أن يساهم في البحث عن كيفية تدريس النص الأدبي داخل المدرسة المغربية، مادام تدريس النص مرهون بقراءته؟
إن القراءة التأويلية ليست منهجا يفرض على النص قراءة وتدريسا بقدر ما هي آلياتهدفها الأساس التفاعل بين النص باعتباره مرسلا فاعلا، والقارئ باعتباره مستقبلا، مع تبادل الأدوار بينهما كلما اقتضى الأمر ذلك… إنها ممارسة حرة ومقيدة في الوقت ذاته، فهي تسمح للقارئ بقراءة النص حرا ومنحه تمثلاتخاصة، لكن في ظل اتفاق تام مع النص كمرسل فاعل قابل للتواصل والتفاعل، على شروط معينة تجعل تأويلات القارئ لا تحيد عن مقصيدية النص.
إن النص بقدر ما يقدم معاني ظاهرة يخفي معاني مضمرة لا تستبطن إلا بالتأويل،وتأويلها لا يستقيم إلا في علاقته بالمعاني الظاهرة، وممارسة التأويل بناء على ثنائية الظاهر والمضمر يجعل القارئ لا يعطي معنى ما للنص فحسب بل يعيد كتابته.
ما هي آليات القراءة التأويلية؟
تجذ ر الإشارة أولا أن اللغة الأدبية الشعرية على الخصوص تعد مجال اشتغال التأويل بامتياز.والقراءةالتأويلية باعتبارها عملية تنصب على المعنى بالأساس ليستمنهجا جامدا للقراءة بل هي إلالية تجعل القارئ يتفاعل مع النص بغية تقديم قراءة نموذجية من بين القراءات الممكنة، ذلك أن التأويل من وجهة نظر سميائية يعتبر النص علامة سميوزيسية لامتناهية وحاملة لمعان متعددة ومفترضة مجالها الممكن، تعطي للقارئ إمكانية اختيار قراءة نموذجية مبنية وفقا للخلفية المعرفية التي من خلالها تتم القراءة تداوليا. بيد أن التأويل ليس ممارسة حرة بشكل مطلق، بل يجب أن يستند إلى كفاءات وقوانين توطد العلاقة التفاعلية بين القارئ والنص كطرفي التواصل.
كفايات القراءة التأويلية:
كثيرا ما نقرأ القصيدة الشعرية –لأن موضوعنا سيركز على النص الشعري-فنخرج خاوي الوفاض دون الحصول على معنى معين، إذ لم نجد فيه أي انسجام أو ملاءمة، فهل نعزو ذلك إلى أن القصيدة لا تحمل أي معنى؟ أم نكتفي بالقول إننا لم نفهم؟ أين يوجد الخلل: في المرسل (النص) أم القارئ؟ ولنفترض أننا فحصنا كفاءة المرسل فلم نجد فيها أي قصور ومع ذلك نسجل عبثية المعنى المعروض سطحيا (الحرفي) في النص، ألا يدعو ذلك إلى إجراء عملية تأويلية تسمح لنا بفتح أفق جديدة للبحث عن معنى ملائم للنص ومن تم نحدد كفاءات إجراء التأويل كالتالي:
1) الكفاية اللسانية: وبما أننا نظرنا إلى فعل القراءة باعتباره إجراء تواصلي تفاعلي طرفاه القارئ والنص، فان الأصل في التواصل هو تفكيك السنن وعليه يتعين على القارئ أن يكون عالما بالسنن المستعملة (اللغة) صوتا وتركيبا وصرفا، بمعنى أنه لا يمكن أجراء قراءة تأويلية بمعزل عن المعرفة النحوية التي تسمح للقارئ باكتشاف الخلل في نظام اللغة دلاليا ليعمل على تأويله حتى يستقيم.
2) الكفاية الموسوعية: وهي كفاءة مرهونة بالقارئ وما تزود به من معارف مسبقة وأخرى آنية مقترنة بالتلفظ (باعتبار النص تبدأ كتابته متزامنة مع قراءته واعتباره أيضا مرسلا يتلفظ أثناء القراءة)
3) الكفاءة الاستدلالية: نلاحظ أن الكفاءة التداولية كفاءة حرة يمكن للقارئ أن يمارسها بنوع من الاختيار أما اللسانية فهي مجموعة من المعايير الإرغامية يتوجب على القارئ معرفتها، وقلنا سابقا إن التأويل ممارسة حرة ومقيدة في الوقت ذاته، وعليه فهاتين الكفاءتين تسمحا للقارئ بضرورة إجراء التأويل بعدما أبرزتا له أن النص الشعري غير ملائم إما لشذوذه أو شروده، وغاية التأويل هي البحث عن ملاءمة النص غير الملائم بصرف شروده، وهنا تتدخل الكفاءة الاستدلالية لربط بين ما يعرضه المرسل ( النص) وبين ما يتوفر لدى القارئ من معارف لسانية وتداولية بغية الوصول إلى معنى معين.
ينطلق (Reboul 1980Olivier) من تصور أساس، مفاده: أن بناء الكفاية هي الغاية التي وجب على التعلم تحقيقها، حيث لا ينبغي للمتعلم معرفة الأشياء وإدراكها فحسب، بل اكتساب قدرة تمكنه من العمل على تحقيقها وتطويرها كي تتلاءم وحاجياته، ذلك أن الكفاية هي الخبرة المتميزة والقدرة على التصرف في مختلف الوضعيات والتكيف معها.[1]هذا التصور يجعلنا نفترض أن بناء الكفايات أساس إقامة علاقة جدلية بين المدرسة والمجتمع وضمان تعلم مدى الحياة، ومن ثمة نسعى في هذا المقال إلى إبراز كيفية بناء الكفايات بشكل يجعلها آليات للإقراء، وجعل الإقراء آلية لبنائها في الآن ذاته، والهدف من ذلك، إبداع المعرفة، منطلقين من منظور افتراضي مفاده: إن المعرفة أثناء الإقراء يجب أن تُعالج من لدن المدرّس والقارئ معا، لسانيا لتشكّل دخْلا(In put) للإبداعية، ويتم تحريكها وتعديلها موسوعيا بغية بنائها، ثم تحويلها منطقيا استدلاليا عبر استكتابها(Scriptible) لتشكل خرْجا للإبداعية. ونسمي هذا المنظور: منطق الإبداعية، تؤسسه ثلاث مراحل:
أ) مرحلة بناء الكفاية اللسانية: اعتبر(Benamou1971)[2]تفكيك تسنين المقروء كلمة كلمة (Mot à mot) معتمدا معرفة معجمية وتركيبية كافية، شرطا أساسا للقراءة، وآنئذ يمكن الانتقال إلى التأويل غاية كل قراءة، وتؤكد(Orecchioni1986) أن تأويل الملفوظ يتطلب بالضرورة أولا تطبيق كفاية لسانية، وهي كفاية تتأسس على النسق: المعجمي(lexical) والتركيبي(syntaxique).”[3] ولجعل القارئ كفء من الناحية المعجمية والتركيبية، قصد تطوير وبناء كفايته اللسانية، يُفرض على المدرّس التركيز أكثر على عمليات تفكيك (Opérations de décodage) نسق البنية الداخلية للمقروء، عبر استنطاق أكبر عدد من ملفوظاته وتحديد دلالاتها المتعددة حسب السياق الذي استعملت بخصوصه، ثم عبر تحديد بنياته التركيبية والعلائق المتحكمة في انسجامه وترتيب شبكاته المحورية. لا يمكن تأويل ‘تموز جيكور’ دون تفكيك البنية الدلالية لـ:( لظاه، يغد، ملحا، ترف، الخلّب، يومض، أعناب، تنثال، الألق، غصة، الجرن، خضّة، ناضحة، المدثر…إلخ)، رغم أن المدرّس يقوم بشرح بعض الملفوظات بمرادف(Synonyme) آخر، إلا أن ذلك غير مقبول، إذ يجب البحث عن دلالة(Signification) الملفوظ لا عن مرادفه، ثم العمل على تحديد ما يمكن أن توحي به تلك الملفوظات عبر إثارة فرضيات تأويلية معتمدا في ذلك السياق الكلي للمقروء، لأن الكتابة الشعرية أكثر إيحاء من غيرها فكل الملفوظات تُفرغ من دلالتها التقريرية ليعاد شحنها بدلالات أخرى، كما يزخر المقروء بملفوظات تمثل مركز ثِقْله يستوجب الوقوف عندها لتوسيع مدلولها، من قبيل: (عشتار، شقائق، تموز، الخنزير، جيكور) هذه الملفوظات لا تتطلب تحديد دلالاتها المعجمية فحسب، بل حمولتها الثقافية، ومن ثمة وجب على المدرس إبداع وضعيات تواصلية(Situations communicatives) مع القراء لتحسيسهم بعدم براءة اللغة في آحايين كثيرة، وأن مثل تلك الملفوظات لا جدوى من الرجوع إلى دلالتها المعجمية لتحديد دورها في المقروء تكثيفا، وإنما العودة إلى المخزون الثقافي الذي أسَّسَها مدلولات خاصة. ثمة تفكيك أخر على المستوى النسق التركيبي الذي ينحرف عن الدلالة المعجمية ويِؤسس للمقروء دلالته الخاصة، إن تفكيك القيود التركيبية تعني المنطلق الفعلي للانتقال من المعنى التقريري صوب المعني الإيحائي، حيث هذا المقطع:
ناب الخنزير يشقُّ يدي
ويغوص لظاه إلى كبدي
ودمي يتدفق ينساب
يحوي –على الأقل-خاصيتين تركيبيتين: التبئير(Focalisation)(التغيير في رتبة الجملة -البنية العميقة- بغية جعل الملفوظ الأساس في الرتبة الأولى والتركيز عليه) والخفق(Brouillage)(تقديم الفاعل والمفعول على الفعل).
التبئير: الأصل في ناب الخنزير يشقُّ يدي هو: يشق ناب الخنزير يدي (فـ + فا + مفـ)، بيد أن المقروء – لهدف دلالي- لم يركز على الفعل(شقّ) وإنما الفاعل(ناب الخنزير) كمَوْئل محوري يُسند الوظائف لباقي عناصر الشبكة المحورية التي يتكون منها المقطع، فـ: شقّ وتدفّق وغاص وغدا، كلها أفعال أخذت وظيفتها الدلالية من الفاعل، كما أن المفاعيل: يدي وكبدي ودمي، ليست نتيجة الأفعال بقدر ماهي نتيجة الفاعل الذي أسند الأدوار للأفعال،حيث الملفوظ المبأَر يكون أكثر توكيدا وأهمية من غيره ويُقعّر(Mise en abyme) منظور المقروء ويُعمّقه، وعلى المدرس أن يتميز بذكاء مرهف لإحساس القراء أنه يجوز لنا استبدال(Substitution) المَوْئِل بموئل أخر لتصير للمقروء عناوين أخرى، ومن ثمة يستطيع القراء إبداع تراكيب متعددة انطلاقا من فهمهم واستيعابهم لتركيب معين، كي يتعوّدون عن التعددية والانفتاحية.
الخفق: ودمي يتدفق ينساب لم يتم التركيز هنا على بنية: مفـ + فا، بدل فـ، من خلال تقديم المفعول والفاعل وتأخير الفعل،اعتباطيا وإنما لغاية جعل القارئ يهتم بعلاقة الفاعل والمفعول أكثر من أفعالهما، إذ يمكن للمدرس أن يخلص إلى هذه النتيجة: إن المقروء لا يُعير اهتماما واضحا للأفعال بقدر ما يركز على الفاعل (ناب الخنزير) والمفعول(تموز) بوصفهما عمادا(Support) يؤسس مساره التحولي. إن إبداع وضعيات تواصلية من لدن المدرس بغية إشراك القراء في تفكيك المقروء والتوصّل إلى نتائج، لن تجعل القراء يعرفون قدرا من الدلالات الممكنة للملفوظات والتراكيب التي حَواها فحسب، بل سيكتسبون أيضا قدرة على إبداعها، إن التعلم بالكفايات ليس جعل القارئ قادرا على حكي ما تعلمه من نظريات، دون امتلاكه القدرة على تطبيقها في وضعيات مختلفة، بقدر ما هو جعل القارئ قادرا على التكيف مع المجتمع وتحديد ذاته وبناء مشروعه الخاص بشكل يحقق وجوده وكينونته ويُفكِّرَ في ذاته بدل أن يُفكَّرَ فيه[4]. لدينا تفكيك آخر على مستوى النسق الصرافي، من حيث زمن الأفعال: حيث ركز المقروء كثيرا بخصوص الأفعال على صيغة المضارعة لتعبير على رؤياه العميقة بشكل تتلاءم ونسقي: المعجمي والتركيبي[5] (يشق، يغوص، يخفق، يتدفق … إلخ) وتفكيك هذه الصيغة حسب السياق العام للمقروء قد تعطيك –على الأقل- ثلاث دلالات أساس: دلالة الحدث: حدوث فعل الشق والغوص والتدفق، ثم دلالة العادة: أن هذه الأحداث من عاداتها أنها تقع، ثم دلالة الاستمرارية: أن هذه الأحداث وقعت ولازالت تقع، ونستنتج أن الموئل(ناب الخنزير) أسند للأفعال أدوارا محورية تتميز بالديمومة والاستمرارية من حيث الزمن، ناب الخنزير يشق يدي –حسب التفكيك الثلاثي- قد تعني أن الخنزير شقّ اليد، ثم من عاداته أن يشق تلك اليد، ثم لازال يشقها، وفي المقابل نجد المقروء من حين لآخر يوظف أفعالا على صيغة المستقبل(ستولد، ستورق سيفيض … إلخ) وهي صيغة تعطيك المحتمل والممكن دلالة على إمكانية الانفلات من شراسة ناب الخنزير.(يُنجز هذا في مدة لا تتجاوز أربعين دقيقة، وتعدّ دخلا للإبداعية)
ب) مرحلة بناء الكفاية التداولية: يتصور(Todorov1984)[6] أن اللغة ليست نظاما من القواعد دون معنى، بل ينبغي للقواعد أن تشكل دخْلا للمعنى، يُحيل هذا التصور على تجاوز الكفاية اللسانية وعدم الاكتفاء بها أثناء الإقراء، بل وجب البحث عما يجيز لنا إبداعية المعنى. ويؤكد (Barthes1970)[7] أن الذات القارئة ليست بريئة تماما حينما تمثُل أمام المقروء، وإنما هي نسيج من المقروءات المتعددة الضائع أصلها، هو تصور يُسيغ لنا التلفظ: إنه لا يمكن إقراء المقروء في ذاته فقط، وإنما في علاقته بالكتابات الأخرى، رغم أن التلميذ في الممارسة الصفية لا يتوفر على قدر كاف من الموسوعة المعرفية تجيز له تلقي المقروء في ضوء باقي المقروءات، إلا أننا نروم بناء كفاية موسوعية تسمح له بذلك، آنئذ يمسي قارءاكفءا. وبغية ذلك وجب على المدرس بمعية القراء تحريك المقروء وتعديله في ضوء كتابات أخرى يستدعيها بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر الكفاية الموسوعية كآلية لتوسيع مدلول المقروء وجعله في شبكة علائقية تناصية مع غيره. إن ‘تموز جيكور’ نستطيع جعله في علاقة تناصية ‘بجدارية’ على مستوى بناء مدلول أسطورة تموز، من حيث مسار التحول والانحراف، تموز جيكور انحرف عن دال الأسطورة عبر جعل قبلة عشتار مزيفة يكتنفها الظلام والموت بدل الحياة، لذلك فشلت في بعث حبيبها تموز ومن ثمة انحراف الأسطورة عن وظيفتها الأساس المتجسدة في عودة الربيع بعودة تموز إلى العالم العلوي، جدارية مقروءا استطاع هو الآخر تحقيق الانحراف نفسه على مستوى مدلول الأسطورة، لكن ليس عبر قبلة عشتار، وإنما عبر جعل تموز ذاته يُقبل إلى الأرض في غير وقته، حيث يُخبرنا دال الأسطورة بعودة تموز في آذار، في حين عمل مقروء جدارية على تحوير وانحراف الدال قصد بناء مدلول يجعل تموز يعود في الصيف شهر آب، يُعبّر عن ذلك بوصف الطقس الاحتفالي الذي تخصصه نساء الساحل السوري لذكرى انبعاث تموز:
في الجرة المكسورة انتحبت نساء
الساحل السوري من طول المسافة
واحترقنا بشمس آب. رأيتهن على
طريق النبع قبل ولادتي. (جدارية)
عشتار التي انحرفت عن وظيفتها في تموز جيكور نجد لها بناء مدلوليا خاصا في ‘أنشودة المطر’ ،عبرها يهطل المطر ويحمل في كل قطرة زهرة حمراء أو صفراء، وهي ذاتها في: ‘إلى جميلة بوحيرد’ يصبح طقسها الاحتفالي الربيعي طقسا دمويا وفق انحراف الدال من انبعاث تموز الخير إلى مدلول انبعاث تموز الشر، جيكور لم تستطع هي الأخرى بعث تموزها تدخل في تناص إيحائي مع ‘أفياء جيكور’، فتصبح ملاذا للإنسان تلمُّ عظامه وتنفض كفنه من طينه، فهي جدول من فراشات يطاردها فيعود إلى الصبا، فهي خضراء تحميه من وحش المدينة في ‘جيكور والمدينة’ كما أمست في ‘العودة إلى جيكور’ أفقا منشودا يروم العودة إليه عبر جواد الحلم الأشهب. ويفرض على المدرس أن يركز بشكل ذكي في هذه المرحلة على إبداع وضعيات تنير المقروء بإشارات(Indices) تجعل القراء يكتشفون أثر التناص بين المقروءات سواء تلك المدرجة في الكتاب المدرسي أو غير المدرجة، لأن ذلك سيسمح لهم بالانفلات من بوتقة المقروء وتكثيفه عبر تحريك معارفه وتعديلها أثناء جعله في علاقة تناصية، فنحن نفترض أن المدرس موسوعي قادر على إضاءة المقروء بمقروءات أخرى، في هذه المرحلة لا يهمنا المعنى الذي يريد المقروء قوله وإنما إغناء هذا المقروء وتوسيع مدلوله فبدل الاكتفاء بإقراء المقروء المدرج في الكتاب المدرسي نستطيع إقراء مقروءات أخرى تشاكله وتخالفة، وبهذه الاستراتيجية نبني كفاية موسوعية للقارئ بشكل يجعله يكتسب قدرة على إبداع علاقات بين المقروءات والعمل على تحويلها إلى عمل إبداعي خاص.(وتستغرق هذه المرحلة مدة لا تتجاوز أربعين دقيقة)
ت) مرحلة بناء الكفاية الاستدلالية:يرى(Reboul1980)[8]أن الكفاية بوصفها أساس(base) كل تعلم وغايته المنشودة، التي ينبغي للمدرس العمل على تحقيقها، يجب ألا تجعل المتعلم قادرا على الإجابة عن الأسئلة داخل الصف فحسب، وإنما الكفاية هي القدرة على التطبيق. وينطلق (Peytard et Genouvrier1970)[9] من أطروحة (thèse)مفادها: أن الغاية من التعلم هي التفكير، وبغية ذلك يُشترط أن تتمحور عملية الإقراء على فعلي: الكتابة والقراءة باعتبار القراءة شرطا أساسا لتعلم الكتابة، لأن التفكير يُكتسب عبر الكتابة (par écrit) عبر التحرير (par la rédaction).هذا يجعلنا نثير سؤالا أساسا مؤجلا – يمثل عماد الدراسة-: لماذا نكتفي بتلقين المعرفة وتكرارها وحفظها، ولا نتعلم كيف نقرأ، ننتقد، نكتب، نبدع؟
وجب على التعلم أن يتحول من التلقين والحفظ إلى البناء والإبداعية، كيف؟ إن الدلالة/المعنى التقريري الذي استطاع القراء بمعية المدرس بناءه عبر تفكيكهما للمقروء وتحريك معارفه (الكفاية اللسانية)، يجب أن يُدمج والمعنى الإيحائي الذي توصّلا إليه عبر فتحهما المقروء على مختلف تناصاته المحتملة وتعديل معارفه وتكثيفها (الكفاية الموسوعية)، لتحويل المعرفة -التي توصّلا إليها أثناء الدمج (الكفاية الاستدلالية) -إلى إبداع معرفة جديدة: أي إبداع كتابة موازية للمقروء تشاكله وتخالفه في الوقت ذاته. وجب على المدرّس في هذه المرحلة أن يركز على تنمية قدرات القراء على فعل الكتابة وتحويل المعرفة، عبر التعليق على المقروء حيث كل تعليق تأويل وكل تأويل إبداع، وبغية ذلك نفترض ما يلي: إن مكون علوم اللغة(الدرس اللغوي) يستطيع أن يشكل عماد هذه المرحلة ويدفع القراء إلى الإبداعية، شرط أن نغيّر عاداتنا نظرتنا إليه ونَعِي كيف يجب توظيفه، لأننا-بصريح العبارة- لازلنا نُقرئ مكون علوم اللغة بطريقة تقليدية استهلاكية عقيمة، أريد أن أقول: بدل إقرائه كآليات لشرح المقروء، وجب إقراؤه كآليات لإبداع المقروء. في الممارسة الصفية نُقرئ علوم اللغة كمكون قائم بذاته، وحينما نأتي إلى مكون الكتابة الشعرية مثلا نطلب من التلميذ البحث في المقروء عن ما يعزز ما تم إقراؤه في مكون علوم اللغة، كأن نبحث عن الاستعارات والتشبيهات التي وظفها المقروء، أو الأساليب الخبرية والانشائية ثم التفاعيل والبحور، هذه الطريقة التقليدية تجعلنا من جهة أولى نقتل المقروء بهذه الطريقة التكرارية حيث كل مقروء نتعسف عليه كي نجد ما يسوغ لنا مكونات التشبيه والاستعارة بشكل جاف، ويجب أن نرغم المقروء كي يستجيب لغاية احتوائه على الجمل الخبرية ولإنشائية، وما المهيمن؟ وما هي الحالة الشعورية التي أراد الكاتب إيصالها للقارئ؟ ولماذا اعتمد البحر السريع؟ هل أراد التعبير عن حالته الشعورية الجياشة غير المستقرة؟ ولماذا البحر الطويل؟ أمن أجل النَّفس العميق؟ هل يعاني من الاكتئاب؟. وكما تقتل هذه الطريقة التقليدية المقروء تقتل التلميذ أيضا حيث يكفيه فقط أن يحفظ عن ظهر قلب مكونات الصور البلاغية وعدد التفاعيل والزحاف والعلل والغاية لكي يبحث بالطريقة السلوكية عن ما يسوغ له في المقروء ملء خانات الصورة البلاغية، يكرر هذه العملية: مثير-استجابة، مع كل المقروءات فيخضعها بشكل غير مباشر للنمط نفسه؛ ومجرد ما تطلب منه التعليق على المقروء تجده عاجزا عن بلورة جملة مفيدة ذات معنى معين، لأنه لم يتعود على الإبداعية قط في مساره التعلمي، لا يتقن سوى املأ الفراغ بما يناسب بشكل سلوكي دون عناء التفكير والتعديل، بهذه الطريقة السلوكية نقتل الحس النقدي في تلاميذنا، لا مناص من النقد من التعديل، فكر كما تشاء وقدر ما تشاء فكل شيء جائز في المعرفة.
خلافا لذلك نقترح على المدرس أن يخلق وضعيات تمكن القارئ من توظيف مكون علوم اللغة ليس في تحليل المقروء بل في كتابة المقروء … في إبداعه وتأويله، حيث وجب على القراء تعلم كيفية إبداع صورا بلاغية بدل حفظ مكوناتها والبحث عنها في المقروء، وجب إبداع أساليب خبرية وإنشائية وكل ما يتعلق بمكون علوم اللغة لإعادة توظيفها كتابة وليس البحث عنها وحفظها كمعرفة جامدة لا تتغير، القارئ إذن في هذه المرحلة يجب أن يكتسب مجموع القدرات تبني له كفاية تمكنه من تحويل المقروء إلى كتابة جديدة معتمدا على ما تعرَّف عليه في مكون علوم اللغة، إن مقروء ‘تموز جيكور’ غني بشكل مكثف بالصور الإيحائية، فبدل استخراجها وتصنيفها في جدول دون إضافة جديد للمقروء، يُستحسن محاكاتها وإبداع صور تشاكلها عبرها يكتب القارئ قراءته الخاصة، القارئ يجب أن يعرف الصورة البلاغية لكي يُبدع صورا بلاغية لا متناهية وليس من أجل حفظها، نريد له أن يكون مبدعا حيث البلاغة فن الإبداع لا آلية الشرح والتفسير، ولكي يكون ذلك وجب على المدرس بناء كفايات تؤهله للإبداع عبر ممارسة الكتابة، كأن يطلب من القراء في هذه المرحلة التعليق على المقروء من خلال ما توصلوا إليه أثناء المرحلتين السابقتين، فيحفزهم ويطور مهارات الكتابة والحس النقدي والتفكير التخيلي والجرأة على تعديل الأفكار وتوظيفها في حياتهم اليومية، وأن ينظر إلى كل إبداعات القراء إبداعات مقبولة قابلة للتطور، ومن شأن ذلك أن يجعل المدرسة تُنتج قراء يبدعون معارف جديدة ويطورون الأدب عامة في المدرسة – لماذا لا نتكلم عن أدب مدرسي يكون من صلب إبداع القراء أثناء الإقراء- كي ننفلت من بوتقة الماضي ونراكم تجارب إبداعية. لقد وجب في هذه المرحلة الاعتماد أكثر على مفهوم تحويل المعرفة بدل نقلها والتركيز على إبداع وبناء المعرفة بدل حفظها وتلقينها. (وتستغرق مدة لا تتجاوز أربعين دقيقة وتمثل خرْجا الإبداعية)
خلاصة القول
إن التفكير في مفهوم الإبداعية منظورا جديدا للتعلم وبديلا للإقراء بالتلقين جعلنا نفكر في طريقة يمكن للقارئ عبرها إبداع المعرفة، فلم نجد بدّا من افتراض أن التفكير في الإقراء يتطلب أولا التفكير في القراءة بعدّ هذه الأخيرة كتابة، ورمنا عبر ذلك إعطاء مشروعية الكتابة للقارئ لا للكاتب وحده ما سوَّغ لنا التكهن بمشروعية نقد المعرفة وتعديلها وبنائها عبر تأويلها وتحويلها من لدن التلميذ قارئا. إن المعرفة المُتعلَّمة المُبدعة هي بالتأكيد ليست سوى خرج لممارسة فعل تأويلي، والإقراء ليس نقلا تقريريا سلوكيا من المدرّس صوب القارئ، إنما ممارسة تحويلية قائمة على التفكير والتعديل والنقد، الذات الإنسانية عامة لا تُدرك ولا تتعلم إلا وأضافت أشياء أخرى من صميم تجربتها، أي تُؤوِّل وفقا لما توفر لديها من معارف، حين نؤول نُبدع وحين نُبدع نفهم وحين نفهم نتعلم أكثر وحين نتعلم نُصبح خَلِيفَةً في الأرض.
إن الإقراء بالكفايات منظورا جديدا للتعلم بالإبداعية يجعل التلميذ قارئا لا يكتسب القدرة على البحث عن حلول لأسئلة تُثار في وضعيات معينة فحسب، إنما القدرة على تجاوز الحلول إلى إبداع وضعيات معرفية أخرى تجعله يكتشف منظورات جديدة عبرها يُقارب معارفه ويختبرها ليُعدّلها ويُقوّمها ويُعدّدها. ومن ثمة يصبح التعلم –وعليه أن يكون كذلك-بناء الذات المتعلَّمة عبر معرفتها الخاصة وفهمها الخاص للعالم وللحياة، إننا نعيش عصر المنظورات والتعددية.
[1]Voir : Olivier Reboul : Qu’est-ce qu’apprendre ? Partie : pour une pédagogie de la compétence.paris.éditions.Saint-Germain.1980. P180/200.
[2]Voir : Michel Menamou : pour une nouvelle pédagogie du texte littéraire. Paris. Editions collection le français dans la monde.1971. Chapitre : lire. P10/16.
[3]Catherine Kerbrat-Orecchioni :L’implicite.paris. Editions. Armand Colin.1986. P296.
[6]Voir:Tzfetan Todorov: Critique de la critique., un roman d’apprentissage. Paris. Edition du seuil.1984. Partie : les critique-écrivains (Sartre- Blanchot-Barthes). P 55/80
[7]Roland Barthes : S/Z. Paris. Éditions du seuil. 1970. chapitre : la lectur,l’oubli. P 16/18.
[8]Voir : Olivier Reboul : Qu’est-ce qu’apprendre ? Chapitre : L’enseignement et la compétence. Op.cit. P 186/196.
[9]Jean Peytard et Émile Genouvrier : linguistique et enseignement du français.Paris. Editions. Larousse 1970. Partie : La situation linguistique de l’enseigné : la découverte de l’écrit et l’apprentissage de l’écrit.P 9/30.