فجأة ألفيت نفسي جالسا لاهثا،يهبط صدري ويصعد وأنا أستعيذ بالله مما رأيت…ما هذه الأحداث السريالية ؟ ما هذه الأصوات التي تلون المكان بلون الرهبة والرعب المفاجئ؟…صار جبيني صفيحة ساخنة يطفو عليها عرقي…صارت وجنتاي عضلتين مرتعدتين بلا توقف ،جُنَّ اللسان، لمْ أعد أجرؤ لا على الصمت ولا على الكلام ، صرت أهذي، لا أطيق البحث عمن سينقدني ،أو يهدئ من روعي، فتحت النافذة ، أحتاج إلى مزيد من الأوكسجين ، أحسست ببعض الهدوء يدب في جسدي النحيل ،أحسست بالنبض يعود إلى الإيقاع المريح…حككت عيني ، فتشت عن حذائي الجلدي وحين لم أجده لجأت إلى نعلي المطاطي…خرجت متئد الخطى،كان الطريق فارغا وجدت فيه فسحة للارتياح ،شعرت وكأن الأشجار تريد أن تحدثني بأمر يهمني ، أحسست وكأن بُوماً فوق جدار عازمٌ على أن يحذرني من مجهول… السكون يطبق على المكان ، صار الطريق ركحا لممثل واحد هو أنا، أن الذي لم أعتد أن أسير وحدي ،أهيم لا أعرف لي قصدا ولا معنى.
أحسست ببعض التعب ، أويت إلى شجرة وارفة الظل ،انهالت علي خيالات وعادت إلي أحلام الأسبوع الماضي، في ذلك الأسبوع أيقظوني أكثر من مرة وهم يسألون عما حدث ، وما سر صرخاتي الهستيرية التي أيقظت الكبار والصغار…
هبت عاصفة واحتميت بدوحة، كالطفل التصقت بها التصاقا ، صرت وكأني جزء منها ، بعد هنيهة حككت عيني لإخراج الداخل إليهما من أتربة مؤلمة ، ابتعدت عن الدوحة ، وجُلت بعيْنَيَّ في المكان وبدأ القَطرُ…
لم أتوقع أن يتهاطل المطر بهذه الغزارة الغريبة…وَيْحي ، لم أعد أرى أي شيء ، حتى الجدران العالية و الجبال الضخمة لم يعد لها وجود…صرت مضطربا مهموما …كالأعمى أسير بلا وجهة محددة،أسقط تارة ،وحين أقوم بصعوبة يعود بي الانزلاق إلى حيث نهضت فأتشبث بكل ما تلمسه يدي…
صارت ملابسي ثقيلة ثقيلة بما علق بها من أوحال …يَسْتبِدُّ بي الهلع كلما صات الرعد أو لاح ذاك الشرر الناري الذي يخترق وجه السماء المكفهر .أكاد أختنق ،أشعر بالضيق يقيدني شيئا فشيئا ، أكاد أفقد حركتي وتتوقف أنفاسي…أكاد أستسلم لليأس كي أسْتحيلَ جسما يدحرجه السيل كسائر المزحلقات من حجر وشجر …هَدَأتُ تراءى لي نفس الوجه الذي كان يطاردني بالمدينة … قالوا : “وجه سفاح” ، قالوا: “مطارد الفلاسفة” ، وقالوا:” لا يتراءى إلا لمن يعادي الظلمات”، تعددت الأقوال والوجه واحد ، وجه يخيفني وقد أخاف ثلة من أصدقاء…نسيت الوحل الذي أسبح فيه فترة كي أعود إليه وقد اختفى الوجه كما اختفى وجه القرية وراء خيوط المطر…
فجأة سمعت صوتا ينادي باسمي …تلفتُّ في كل الجهات ولم أَرَ سوى خيوط الماء النازلة من سواد السماء،صرت مقيدا من كل الجهات ، حاولت التذكر ولم أستطع ، حاولت التحديق علّيِ أرى علامة أهتدي بها كي أعود إلى البيت …عاد الشؤم ليعبر جسمي المنهك…تلوت الشهادتين بشفتين متعبتين …استسلمت للموت وبعد فترة صرت أرى نفسي محاطا بخلائق مجنحة تحوم حولي ،تتساءل عن اسمي وكنيتي ومدينتي…بعضها تساءل عن نوع الثوب الذي أرتديه ، بعضها تساءل عن مقاس نعليَّ المهترئين …سمعت أصوات أجراس لا شك في ضخامتها ، تزلزلت أبوابٌ ونوافذ فعدت إلى الحياة ، أحسست براحة الناجي من كارثة مهولة ، صرت أتبين وجه الطريق ، وأميز بين الجهات…سمعت أصواتا وأنغاما منبعثة من منازل هناك …أحسست برحمة ولطف خالقي بي …اخترقت حقلا طويلا ببطء وحذر وصدري مفعم بفرحة تفوق الوصف …لم أجد بيتي ، لم أجد محيطه…لكني لم أعد أشتاق إليه…أحسست بالكبرياء ،أمتلك الآن قوة قضت على كل تخوفاتي، مشكلي الوحيد أني نسيت اسمي ، ونسيت قرية الأهل والأصدقاء…
ها أنا مرفوع الهامة أبحث وأنتظر…