” التعلم في الصغر” عبد السلام كشتير

كان كل شيء بسيطا في حياتنا في ستينيات القرن الماضي ، لما كنا ندرس بمستوى التعليم الابتدائي .. البساطة هي عنوان حياتنا وصلب معيشنا اليومي .لم تكن محافظنا كبيرة ولا ثقيلة تنهك كاهلنا وتلزمنا بحملها على ظهورنا .. فلوازم الدراسة كانت قليلة وبسيطة ، وليس كما هو الحال لدى أبنائنا اليوم . لا تتجاوز الحد الأدنى المطلوب .. كانت المدرسة توفر لنا في غالب الأحيان الكتب المدرسية المقررة وبعض الحاجيات الضرورية الأخرى ، منذ ولوجنا قسم التحضيري إلى بلوغنا السنة الخامسة الابتدائية “الشهادة “.. استهوتنا هذه الكتب وموادها وألوانها وأشكالها منذ أول اتصال لنا بها ، خاصة كتب مادة الفرنسية .. كانت مضامينها سهلة ، أو هكذا خيل لمعظمنا ..

نتسلى بصورها وبشخوصها المختلفة عنا في كل شيء .. كنا نعيد ونردد بعض المقاطع من نصوصها أثناء لعبنا وخلوتنا .. استأنسنا بها بالرغم من أننا لم نعرف غيرها من قبل أن نضع أقدامنا في مدرستنا .. قليل من المحظوظين منا من ولج المسيد وتعرف على حروف الأبجدية العربية ، وبعض قصار سور القرٱن الكريم ..كان معلمونا ، يحرصون على توزيع هذه الكتب على تلاميذ الفصل بعناية فائقة خلال حصص الدراسة .

ويجمعونها بعد الانتهاء من استثمارها بنفس العناية والاهتمام . ويحفظونها في خزانة القسم القابعة في الجهة الخلفية من الفصل الدراسي ، وهم يراقبون حالتها كل مرة نستعملها فيها ، ويؤنبون ويعاقبون كل من يخل بالنظام أو من يلحق بها أدنى قدر من الأذى …كانت محافظنا صغيرة ، عبارة عن جراب بحمالة توضع على الكتف أو بدون حمالة يتأبطها التلاميذ .. وناذرا ما يملك أحدنا محفظة كلاسيكية . نحمل في هذه الجراب أو الجيوب ، أدواتنا المدرسية المكونة من عدة الكتابة على بساطتها : ريشة خاصة لكتابة حروف لغة الضاد ، وأخرى خاصة بالفرنسية .. إضافة إلى دفترين من الحجم الصغير والمتوسط ، ولوح مستطيل بحجم الدفتر .

كان لوحا حجريا في البداية من مادة الشيست الأسود ، من هنا جاء إسمه : “لاردواز “.. وأصبع الطباشير .. وقلم رصاص وممحاة ومسطرة .. وبعض الأقلام الملونة . كم كانت كلفة الدراسة قليلة ومستلزماتها بسيطة إلى أبعد حد .. !كنا نلعب كثيرا . لأننا نعيش فيضا من الزمن . كنا نحفظ ما يمكن حفظه خلال حصص الدراسة ، أو ننهي ما كنا قد بدأناه في الفصل الدراسي حين نعود إلى منازلنا . لم تكن تستغرق مدة الحفظ وإنجاز التمارين إلا دقائق معدودات .. بل هناك من التلاميذ من كان ينجز كل ما هو مطالب به في جنبات ساحة المدرسة  أثناء حصة الاستراحة أو إبان الفترة المخصصة للغذاء . أو بعد انقضاء حصص الدرس ، ليتفرغ للعب ..لقد كان الشوق إلى المعرفة والتحصيل قويا إلى حد أننا كنا نقبل فيه على دروسنا بنهم منقطع النظير ..كانت مدرسة بلدتنا تستقطب التلاميذ من محيط يبعد عنها بمسافة تقدر بكيلمترين إلى ثلاثة كيلمترات أحيانا .. فيضطر التلاميذ ، الذين يأتون من هذه الفجاج العميقة ، إلى المكوث في المدرسة طيلة فترة الدراسة . أي يوما كاملا .. مما يحتم عليهم إحضار  زادهم معهم .. 

غالبا ما كان طعام هؤلاء التلاميذ ، وفي معظم أيام الأسبوع ، عبارة عن نزر يسير من زيت الزيتون المحلي   أو”جغيمات” من الشاي ، توضع في قنينة صغيرة ،  وكسرة خبز بارد ..أو حبيبات زيتون أسود ، وأحيانا بيضا مسلوقا . يحملونه معهم في محافظهم إلى أن يحين وقت الغذاء .. بينما تصبح وجبة غذاءهم يوم الإثنين عبارة عن خبز أبيض محشو بقطع اللحم . مستفيدين من تسويقة يوم الأحد ، “سوق الحد” .. لم يكن مطعم المدرسة يقدم خدماته لكل التلاميذ .. فقد كانت هناك انتقائية ماكرة في فرز المستفيد من غيره .. وحتى ما كان يقدمه هذا المطعم من وجبات ، لم يرق إلى مستوى الاستهلاك الٱدمي .. فكان ينفر منه حتى من شملته نعمة الاستفادة .. كانت محافظ هؤلاء التلاميذ مهيأة لتحمل الأدوات الدراسية والطعام معا .. لقد وجدوا ضالتهم في محافظ خاصة مصنوعة من ثوب قوي متين . أو تلك التي كان يستعملها الجنود .. ” الموزيط “.. بلون زيهم الأخضر القاتم . لقد كان هذا النوع من المحافظ موضة هذه الفترة ..

كانت تحمل على الكتف وأحيانا تحيط بالعنق أيضا ، لتيسر لصاحبها اللعب بكل أريحية .. لم يكن هذا الطفل التلميذ الذي يحمل أدواته الدراسية وطعامه في موزيطه وهو يلهو ويلعب ويجري ويتعارك مع زملائه في طريقهم إلى المدرسة ، أو في ساحة المدرسة أو بجوارها ، مكترث بما يحمله في جرابه .. ودون أن يعي أن القنينة التي دستها له أمه في موزيطه في الصباح الباكر ، وهي تهيؤه ليغادر إلى مدرسته ، ربما لم تكن مغلقة جيدا لتمنع السائل الذي تحمله من الانتشار في الموزيط ، أو قد تنزاح سدادتها بفعل الحركة واللعب ، فتحول أدواته الدراسية إلى شيء ٱخر لا يصلح إلا ليرمى في صندوق القمامة !..لقد عانى عدد من التلاميذ الأشقياء من هذه المحن وما خلفته من أضرار بليغة على نفسيتهم قبل أدواتهم المدرسية . بل هناك من التلاميذ ضحايا هذه الأحداث من أنهى مساره الدراسي بسبب مالحقه من أذى نتيجة توالي مثل هذه الحوادث . فكان يعجز عن شراء أدوات جديدة ودفاتر نظيفة ، لينقل إليها ما ضاع من دروس وغيرها ..

حدث أن شاهدنا مثل هذه المٱسي ، وكيف تتحول ملامح هؤلاء التلاميذ الصبيان من المرح والحيوية ، إلى الحزن والكٱبة والحيرة والسخط ، حينما كان يطلب منا معلمنا إخراج دفتر الدروس من محافظنا لننقل إليه ما دونه على السبورة . فيفاجأ التلميذ التعيس عندما يمد يديه إلى موزيطه بالقمطر ليخرج دفتره فيلفيه وقد تحولت أوراقه البيضاء إلى شفافات تعكس جميع ماكتب على واجهتيها ، وتداخلت  الحروف والخطوط في ما بينها وتمددت وساح مدادها .. فينخرط في نوبة بكاء لامنتهية ، تتغير على إثرها أسارير وجهه وتنخطف ، وهو يواجه أحيانا عنف المعلم وسخرية بعض رفاقه .. إنه سحر قنينة الزيت أو الشاي التي انزاح غطاؤها الواهي ، وحررت ما في بطنها حينما كان صاحبها لاهيا يجري ويمرح . فعملت عملها في أدوات ومزيط هؤلاء الصبيان الأشقياء …

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“الخَرَّوبة” لرشيد عبدالرحمن النجّاب.. بداية عهد جديد

عمَّان- رواية “الخَرَّوبة” لرشيد عبدالرحمن النجّاب.. تعدَّدت الأحداث والقدر واحد، إنه البطل؛ جد الراوي والمجنَّد.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات