التوأمة بين أصوات الأنوثة والانتماء

أحمد الشيخاوي

طالما كانت لي العديد من الوقفات مع تجربة الشاعر المصري أحمد مصطفى سعيد، وفي كل جديد له، أكتشف تطورا نوعيا، وتجويدا أكثر لأفق الشعرية.

ففي مجموعته الحديثة التي بين أيدينا، قيد الدرس، والتي اختار لها عتبة” أنثى كل الفصول”، نجده وقد كسّر جملة من الأعراف في أسلوبية الاحتفاء بالمرأة والأنوثة إجمالا، ما يمنح هذا العمل الشعري الجديد، نكهة فوق ما اعتدنا منه، لزمن طويل.  

فأول ما يثير ويستفز هنا، العتبة، بكل تأكيد، بحيث أتت وكأنها تلخص الكثير في سيرة وحياة مبدع، يراهن وبشكل كبير، على حضور الأنثوي في قلب المعادلات للإنسانية ولملمة معطياتها الضائعة، وترتيب مفهوم الانتماء إلى عالم مستسلم بالكامل للفوضوية والجنائزية والاختلالات.

إذ.. كيف تكون المرأة، الأنثى تحديدا، مركزا لعالم سوي منصف؟

إن دوال الأنوثة ترخي بكامل ثقلها على مثل هذه التجريبية التي ما ينفك شاعرنا يشاكس بها، تحديات الذات والغيرية والعالم.

فهو دائما، يمنحنا انطباع أن زمان شعر العاجيات، قد ولّى، وكيف أن الانخراط الفعلي في هموم وتفاصيل الراهن، ضمن كونية مشتركة، تلغي الفوارق الألسنية والعقدية والجغرافية، بالطبع، هي أقصى وأسمى ما قد يصبو إلى سماواته، أي شاعر حداثي مجدد ومبتكر، يتغيى أن يجترح لصوته الأصداء.

يبوح أحمد مصطفى سعيد، في الغالب، من رحم انتماء من تجور عليه الصاحبة والتراب، نقتطف له القول الشعري الآتي:

{أيها الليل

أيا خلي الوفي

بحق ما بيننا

من بكاء

ونواح

واشتياق

لا تكشف للروح سترا

وكن كعهدك}(1).

قد ينم هذا المقطع عن بكائية، تصبغ التجربة في كليتها، بما يدفع الذات إلى التسربل بهوية الكائن الليلي الذي لا يريد رؤية العالم بعيون الآخرين، ومن غير زاويته هو، مهما كابد من معاناة، وسُرقت أحلامه، ولكن بمعنى ما، محقق للموازاة، نلفي هناك نغمة حياتية، ترعى مفردات الأمل، وتسكن إلى خرائطية الحلم الثائر والمشروع.

إنه الحلم الذي يفتي بتعاليمه، حضور الأنثوي، تماما، مثلما سبق وأشرنا إلى ذلك.

تصب في نظير هذه الأغراض، العديد من المحطات في شعر أحمد مصطفى، وتزكيها الكثير مواقف الانتصار للقوة الناعمة، بنبرة انتقامية خفيضة جدا.

يقول:

{أهنأ بنوم سرمدي

أبي أنا بخير

تعلم أن روحي مخادعة

فلا تصدقها

تسعى للخديعة بيننا

أقسم أنا بخير

ولم يتبدل طقس يومي

كما تركتني بالأمس

ا

ل

ب

ع

ي

د

أستيقظ، أقبل الشمس

وأنثر بسمتي

على فراغ حجرتي}(2).

هنا، العزاء، كامل العزاء، في محاباة الأبوة، أي الانتماء، على حدة جوره.

تنشدّ الذات إلى الجذر، مكثفة رزمة من الصور والمعاني للفراغ الوجودي الكبير الذي تعيشه.

فإعلان الخيرية، ليس ضربا من باب النفاق الإبداعي، بقدر ما هو مغالبة لعلل الواقع وأوبئة المجتمع المتفشية كالفطر، هو أيضا، على نحو ما، قبس من سيرة الأبوة الموجِّهة في دياجي تجريب الكتابة والحياة.

فأي لون أو طعم للحياة، في الطقس الروتيني المتكرر، لولا شمس الأمل المطلة على الذوات المنشطرة، كل إصباح..؟

يقول كذلك:

{لست بنادم

على قطرة بوح

ساعات الهجر القسري

ولا جلجلة الضحك

ساعات همس القدين

هي الحياة

سرها بين ضحكة

ودمعتين

وقطرات

من دم بشكل

يومي}(3).

مع أن الطقس الشعري، بمعية أحمد مصطفى سعيد، يكون أقل، حين يولد متساوقا مع إيقاعات الاخباري، وهذا يكاد يكون أمرا طبيعيا، كون الصبغة التقريرية ربما استدعت ذلك واقتضته، إلاّ أن أغراض الرسالة في هكذا مراحل من الثرثرة، لتفصح عن تجليات المحمول على الروح الجميلة والحذقة في بلورة المكبوت.

فالآخر، يكتسي أهمية خاصة، في مثل هذه الشعريات الملدوغة بتوأمة الأنثوي والانتماء.

العشق الآخر، فضاء للكثير من البوح في تجربة صاحبنا المزاوجة في الخطاب، ما بين الانشائي والتصويري، تبعا لصور ومعاني التموقف من مشاهد الحياة في مفهومي الأنثوي كما الانتماء، على حد سواء.

يقول:

{أيا حلما معقودا

بطرف قدر

ورضا السماء

وبراح الأرض

هل تحتملين جنون شاعر

يسكن روحه الصخب

وإذا مسّه الغضب

واحتدم

ضرب بجناح لاءاته

كل جلمود

وغض وهشّ

وأحرق الماء

بآه}(4).

ويقول أيضا:

{كيف تقدم فرحا

بالهلاك

لا تخدعك العين الناعسة

وملامح الملاك

لم أرفع الأستار

عن جحيم فوّار

صهد يلفح روحك

من بعيد

ففرّ حيا

قبل أن نستقرّ

رمادا في القرار}(5).

ويقول:

{والمكان حافظ السر

قبلة الجبين

نفض القد المستكين عفافا

يجترّ جهر القول

أحبك قبل اللقاء

وبعد الممات

طريق الفراق صراط

لكسيح الخطو

فناء

فكيف

ترميني

بغفلة الروح

والروح

في العروق

والأوصال

قرين

أحبك صباحا ضحوكا

أحبك ضحى بشوشا

أحبك ليلا مقمرا

مشاغبا

أحبك فجرا كسولا

أحبك يا عمري

يا كل الأماكن

والفصول}(6).

بذلك، نقرّ ألا سكونية في هذه الشعرية، إنما حيوات تتجاور بنبض يتسارع ويتنامي.

صحيح أن الثرثرة في ما تمليه من سياقات للإنشائية، إذا شئنا، تطغى على البوح المخاتل بمعمارية المفردة اليتيمة الصافية والمنتقاة بدقة وعناية، كما تحقيق للتصوير الفني البديع الذي يثمر الشعرية التي بمقدورها الحفر عميقا في وعي وذائقة المتلقي، غير أننا بمعية الشاعر المصري الواعد أحمد مصطفى سعيد، غالبا ما نحصّل اللذة المنشودة من تجربة تستفز بأسئلة الأنوثة كمعادل للانتماء.

شاعر، أنثاه فاكهة كل فصل من فصول حياته الكؤود الصامتة عن شح وكآبة وانهزامية وانكسارات، ولكن… دون تسقيف للأمل الوارد كموّجه، أو فلنقل، كقرين لشعريته العذبة ببساطة معجمها وعمق دوالها.

إنه بكل هذا، يقيم من خلال معان مقنّعَة وظلال هاربة وأطياف مراوغة، في المعاني البعيدة للتوأمة ما بين الأنوثة والانتماء.

شاعر وناقد من المغرب

هامش:

(1)مقتطف من نص” سر النواح”، صفحة11.

(2)مقتطف من نص” أنا بخير، أبي”، صفحة21/22.

(3)مقتطف من نص” هل أخبرك بسر نشوة البدينات”، صفحة92.

(4)مقتطف من نص” فاكهة تقطر اشتهاء أنت”، صفحة204.

(5)مقتطف من نص” على هامش ليلة ساخنة”، صفحة243.

مقتطف من نص” أنثى كل الفصول”، صفحة282.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

سرديات النهل من الموروث

أحمد الشيخاوي| المغرب إذا كانت الرواية في أبسط توصيفاتها، أقلّه بالنسبة لنا في ما يطبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات