زياد كمال حمامي كاتب سوري متميز من مدينة حلب، قرأت له سابقا رواية “قيامة البتول الأخيرة” وكتبت عنها.
الخاتم الأعظم رواية ترصد ما حصل في مدينة حلب وخاصة حي بستان القصر وانعكاس ذلك على سكانه من تطورات، منذ بداية الحرب السورية عام ٢٠١١م حتى ذلك التاريخ.
تعتمد الرواية التأريخ للحدث من خلال متابعة شخصية د.زين سواء بالحديث بلغة المتكلم، او بصفته راويا، وذلك بخلط مدروس للزمن والأحداث لتخدم الموضوع وتطوراته. كما تعتمد الرواية أسلوب السرد للوقائع، والوصف، والتخييل، ولغة موحية مع تداخل الحالة المأساوية لأبطال الرواية، بصفتهم يعيشون هذه الأحداث. كما اعتمد الكاتب السرد بأسلوب غرائبي مصاحب لكل فصول الرواية، يقصد من خلاله توصيل كثير من أفكاره ورؤاه، المسكوت عنها و المتغلغلة عميقا في شعوره ولا شعوره، بما فيها هواجسه الإنسانية.
تبدأ الرواية من المظاهرات السلمية التي حصلت في حلب وفي حي بستان القصر، ومشاركة أهل الحي وشبابه في تلك المظاهرات، في بداية ربيع عام ٢٠١١م. ويتابع الكاتب واقع حراك التظاهر في الحي الذي شارك به خيرة شبابع وصباياه، محمد وخالد ومريم وغيرهم كثير، وكيف واجهتهم القوى الامنية بالعنف المسلح، حيث استشهد محمد مع آخرين واختفت مريم أو اعتقلت أو توارت إلى حين، مثخنة بدموعها مع الكثيرين، ووثقت “كاميرا “خالد الحدث بكل التفاصيل، وكيف هرب المتظاهرون من موت محقق أو اعتقال نهايته اسوأ من الموت.
الشخصية الرئيسة في هذه الرواية هو د.زين مدرس في جامعة حلب، يكره الحروب والظلم والاستبداد، لا ينتمي لحزب النظام ولا إلى أي حزب ٱخر, ولا إلى شبكة المؤيدين والمنتفعين والانتهازيين. كذلك لم يكن منتميا للمعارضة ، له رؤيته الخاصة في هذه الحرب ، حيث يعتبرها المحرقة المأساوية للشعب السوري برمته، ولكل طوائفه، بلا تمييز، فالأم التي تبكي ابنها الشهيد، هي أم الوطن كله، مهما كانت طائفتها أو عشيرتها أو حتى دينها، وقد أظهر الكاتب حال المظاهرات السلمية الأولى في المحرقة السورية، ورموزها الشباب والصبايا الذين استشهدوا واعتقلوا، حيث استمر يتابع تطورات حال مريم خطيبة ابنه خالد الموثق للثورة، التي اُعتقلت أواختفت، أو توارت! واستمر خالد يبحث عنها حتى نهاية العمل الروائي، ولعل شخصية مريم هي صورة سورية الحضارة والتاريخ، وقد فجرتها الحرب الظالمة، وحولتها إلى خراب و: دخان.
يبدأ الكاتب من تتبع أحداث الصراع الذي سيصبح مسلحا! هي الحرب النارية التي تشتعل بلا رحمة، الكل يحترق، وما أكثر امراء الحرب، حيث صارت المدينة ” حلب”، التي تعتبر أقدم مدينة مأهولة على الأرض، مجرد مستنقع للمحاربين المرتزقة وقطاع الطرق والشبيحة” البلطجية” والفاسدين والشواذ والطائفيين والمقاومين والمجاهدين والداعرين، وكل ماجاء من صفات معجم الكلمات البذيئة، والمذنب الأول هو المواطن المدني، وهو الضحية.
لقد حصلت عمليات خطف كثيرة، وطلبات فدية، واعتقالات كيدية. بدأ الناس بالتململ والخوف، فهم بين نارين؛ النظام وعنفه وقصفه المستمر، و الرد المماثل من المجموعات المسلحة … كل ذلك دفع الناس للهروب من حلب الى مناطق سورية اكثر امنا. حيث خليت كثير من البيوت وأصبحت مستهدفة بالسرقة من كل المجموعات المسلحة المختلفة، تحت حجج واهية كاذبة، هذا عميل للنظام وذاك مخبر … كما تم سرقة كثير من المعامل لأصحابها الذين غادروا حلب حفاظا على حياتهم.
حاول د. زين الصمود في حيّه بداية، واستمر بالذهاب الى الجامعة للتدريس، وهناك حصل قصف على الجامعة كانت حصيلته الكثير من الضحايا من الطلبة، النظام اتهم المسلحين، والمسلحين اتّهموا النظام، علما ان الجامعة كانت بؤرة نشاط ثوري سلمي، وضاع دم الطلاب المهدور، وقد رسم الكاتب بقلمه لوحات هذه المجزرة بدقة تعبيرية، تجعلنا نشعر أننا أمام ” سيناريو” ماساوي يمسنا جميعا، فتدمير جامعة هو تدمير للعلم والحضارة والمستقبل، هو تدمير للجيل، ولكل صفة جميلة يحملها الإنسان، ولمعنى: اقرا.
لم يستطع د.زين وعائلته احتمال الوضع في حيّه بعد أن هرب أغلب ساكنيه، وقرر الذهاب الى الساحل السوري، فقد كان منطقة آمنة، لكونها منطقة حاضنة النظام، هناك رأى الكثير من النازحين مثله، ومن المدن السورية كلها، بعضهم استطاع استئجار سكنا له، والاغلب مشردين في العراء يملؤون الشوارع، يستعطون لقمة خبز وملبس ومأوى، ولعل رحلة د. زين في هذا الانتقال محاولة ” هدنة” لعدم سلخ هويته، يحاول أن يحافظ على عائلته، أو وطنه، أو لعلها بداية رحلة البحث عن الحقيقة .
يحمل د.زين رؤية خاصة للأحداث والعنف المتبادل ويرى أنها تضر بالنظام والمعارضة والشعب السوري معا. كان يرى أن هناك حلا ثالثا للصراع الصفري بين الأطراف، حيث الخاسر الوحيد فيه هم البشر بكل ما يحملونه من صفاتهم الإنسانية، كان يرى التعايش والسلم الاجتماعي والمساواة والعدالة والقبول المتبادل هو المخرج، متغاضيا أو صامتا عن أصل المظلومية المجتمعية العامة التي تطال أغلب المجتمع بغض النظر عن دينه وطائفته، وأن الطائفية -إن وجدت- فهي نتاج سياسة الصراع على السلطة والتمييز واضمحلال العدالة والمساواة .
قرر د.زين زيارة أخواله في قرى الساحل العلوية فوالدته علوية ووالده سني المذهب من حلب، مع ما يشكّله ذلك من خطورة عليه . الاصطفاف الصراعي في سوريا بين النظام وحاضنته الشعبية العلوية من طرف، واغلبية الشعب بطائفته السنية لا يحتاج إلى بيان، خاصة بعد تطور الحرب …. غامر وذهب .. استقبلوه، أغلبهم في الجيش والأمن، مسكونين بالارتياب، أظهروا له التفافهم المطلق حول النظام، وأنهم يخوضون معركة وجود ” كن أو لا تكون “، مستشهدين بمجازر قديمة ارتكبت بحقهم منذ وصية السلطانة العثمانية الأم قبل مئات السنين، وهذا يعني أنهم غير مستعدين للهزيمة أو للتنازل ابدا.
في الساحل السوري حيث يلتجئ د. زين، استدعاه المسؤولين ليكون وسيطا بين النظام والمسلحين في بستان القصر، لإنقاذ مخطوفين عند المسلحين محسوبين على النظام، حاول ولم ينجح. أصبح مستهدفا من النظام واعتبره من المعارضة ويجب محاسبته. كذلك المسلحين الذين اعتبروه يخدم النظام! حيث أصبح يعيش بين نارين، ولم يقبل به أحد، فمن لم يكن معنا هو ضدنا، وهذا يعني: تصفيته!
التقط د.زين الاشارة والخطر على حياته وحياة عائلته، لذلك قرر الهروب إلى لبنان، تاركا ابنه الأكبر خالد الذي رفض الخروج، واستمر في توثيق الأحداث بكاميرته، باحثا عن خطيبته مريم المفقودة، فهل كان يبحث عنها ؟ أم عن وطن يحترق؟ أم عن صورة ممزقة لمعنى الحب والحرية؟
استعان د.زين بصديق لبناني مازال وفيا له منذ دراسته الجامعية في بيروت منذ عقود. استطاع تهريب أولاده مجد ومهند المطلوبين للجندية بشكل غير نظامي، لرفضه أن يكونوا جزء من المقتلة السورية. غادر إلى لبنان، استطاع الحصول على سكن متواضع. لكنه فُجع بتواجد الكثير من المخيمات للسوريين موزعة في كثير من المواقع، وقد لاقوا معاملة سيئة من الدولة اللبنانية ومن غالبية الشعب اللبناني للأسف، رغم أن أعدادهم وصلت الى مليون ونصف في وقت من الأوقات. عاش د.زين في لبنان أكثر من سنة، وهناك أدرك أن القضية السورية تسير نحو الاسوأ، وأن السوريين هناك يعيشون حياة الذل وموت غير معلن وظلم. توج ذلك مجيء شتاء قارص وثلج كثيف ادى لسقوط الخيام على رؤوس ساكنيها، وموت الكثير من الناس نتيجة البرد والثلج وغياب التدفئة، وهنا تبرز صور حرب الطبيعة في وجه الضعفاء من النازحين، شيوخا وأطفالا ونساء، إذ لم يرحمهم أو يحتويهم أحد، وشارك د. زين مع آخرين في عمليات الإنقاذ وانتشال الموتى ودفنهم، كما تابع انتقال شرارة الصراع داخل سوريا الى لبنان. لبنان وسوريا كانوا دوما في مركب واحد، السوريين نظام وشعب حاضرين دوما هناك. لقد التحق الكثير من اللبنانيين في صفوف المسلحين السوريين، خاصة من حي باب التبانة السني في طرابلس، وكذلك التحاق المسلحين العلويين بصفوف النظام من حي جبل محسن في ذات المدينة.
لقد كان واقع السوريين في لبنان والمظلومية التي وقعوا ضحيتها وراء قرار د.زين بمغادرة لبنان وعائلته الى اسطنبول في تركيا، حيث كان ذلك سهلا وميسرا في سنوات الحرب السورية الأولى.
وصل د.زين وعائلته الى اسطنبول وبدأ بالتواصل مع كثير من اصدقائه، بعضهم تجار نقلوا أعمالهم وتجارتهم الى تركيا، وبعضهم سياسيين محسوبين على المعارضة. واكتشف ان الكل محكوم بقاعدة الخلاص الفردي. بعد أن خسر السوريين سوريا. خسر اغلبهم أنفسهم، واصبحوا مجرد لاجئين بلا: وطن .
في إسطنبول استمر د.زين يتابع التطورات في سوريا من خلال متابعة اخبار ابنه خالد الذي مازال مستمرا في بحثه عن مريم. حيث ذهب متابعا الصراع بين القوى الدولية والمحلية المختلفة، التي أعلنت حربها وقتها على ارهاب داعش وقاتلت دفاعا عن عين العرب. في ذات الوقت.. لم يتوقف د.زين وعائلته البحث عن فرصة لجوء الى احدى الدول الاوروبية مثل المانيا . لكنه اصطدم بغلاء أسعار التهريب وخطورته مع ما صاحب ذلك من نصب واحتيال وتجارة وحشية بالبشر. وأن الأولوية للأطفال والنساء في قبول الدول اللجوء إلى هناك. مما دفع الكثير من العائلات إلى المغامرة بركوب البحر مع مهربين فاقدي الضمير، ممن يبحثون عن المال ولو كان الثمن موت الناس غرقا في البحر أو ضياعا وموتا في غابات أوروبا الشاسعة. كما حصل ما هو اسوأ من ذلك وهو خطف الأطفال والمتاجرة بهم وبيع اعضائهم في سوق نخاسة عالمي.
لم يستسلم مجد ابن د.زين للعيش في تركيا، بل قرر العمل سرا للانتقال إلى أوروبا. تواصل مع أحد المهربين الذين تكاثروا جدا في تركيا على حساب الهروب السوري إلى أمان منتظر في أوروبا. غادر بيت أهله دون علمهم، غامر بالركوب في مركب مع آخرين بوجود مهرب بينهم. تعطل المركب في عرض البحر، اختفى المهرب، بدأت الأمواج تضرب المركب، والناس خافوا واضطربوا، اغلبهم نساء واطفال وشيوخ، تحطم المركب. حاول مجد مساعدة البعض، ثم توجه للشاطئ طالبا للنجدة، وصل قبل الغرق بقليل، حضرت النجدة، غرق العشرات وانقذ القليل، منهم مجد…
في مسار آخر لم يتقبل د.زين ان يترك ابنه خالد وحده باحثا عن مريم، ترك عائلته وراءه في اسطنبول، وعاد ادراجه الى حدود وطنه مع تركيا، إلى منطقة عين العرب باحثا عن خالد ومريم معا، بما يمثلانه، لعله يعثر عليهما ويستعيدهما، وهم حيل المستقبل، وعمود الوطن، وقد غامر كثيرا.. كانت عين العرب تحت وابل من النار والقذائف والقتل يطال كل الناس فيها، وكل شيء .. البشر والحجر والشجر. . وحين وصل إلى أحد بساتينها أصيب بشظية تحت وقع انفجار هائل، ولعل روحه التي تتحول في الرواية إلى طائر يحوم فوق قلعة حلب، يلتحم بقوة كطائر ” العنقاء”، فوق الدمار، ويمتزج بثرى المدينة التي لن تموت أبدا .
لقد تميز الكاتب في الخلط بين العام المعاش في سوريا سنوات الثورة الأولى في حلب وما عايشه السوريين في نزوحهم الداخلي والى الخارج في لبنان كنموذج، كذلك تركيا ومحاولة الخروج إلى أوروبا والمغامرة في ركوب البحر الذي يُغرق المهاجرين دون رحمه، تماما كما كان البرد والصقيع وجبال الثلج تفنيهم، في معادلة ومحاكاة لغضب الطبيعة وقسوتها، من خلال طرح كل ذلك عبر شخصيات الرواية بكل تنوعهم، مع طرح وجهة نظره في الحدث، بحيث لم يكن الكاتب مجرد شاهد، بل يقدم أطروحته التي تدين الحرب الأهلية، مهما كانت أسبابها ومسمياتها، حيث انحاز بطل الرواية إلى انتصار الإنسانية، ونبذ الظلم والاستبداد والتفرقة والتمييز والطائفية، ودعى إلى الطريق الثالث مابين الفرقاء الذي يتاخى مع العدالة والمساواة والحرية.
وبعد أحد عشر عاما على انطلاقة الزلزال السوري، ومأساة السوريين في كل أصقاع الأرض، مازال الناس يذكرون: مليون شهيد، ومثلهم مصابين ومعاقين، ١٣ مليون إنسان مشرد داخل وخارج سوريا، أكثر من نصف سوريا مدمر، وما زالت النار مشتعلة، هذا ما تقدمه رواية ” الخاتم الأعظم”، التي تم نشرها عام 2015 ، ولعل الحلول التي حارب من أجلها د. زين، ما زالت ممكنة، أو لعلها ستكون صورة المستقبل، قد نتفق معه، وقد نختلف، ولكن ماذا عن صمت المجتمع الدولي ومجلس” القلق”، عفوا ، مجلس الأمن ” منتهي الصلاحية”, وقلقه الميؤوس منه عمّا حدث، ومازال يحدث ، فهل هو العار الذي يجلل العالم ؟ نعم هو كذلك، بل هو فاجعة الإنسانية.
٢٢. ٨ . ٢٠٢٢م.