“ذات مساء من أماسي الثلة الصالحة التي تزينت بها حياتنا ، كان الحكي الشعبي مثار حديث بيننا من خلال شخصية ارتبطت بالذاكرة الشعبية ارتباطا قويا ممتدا في التاريخ منذ سالف الأزمان والى يومنا الحاضر- وان أصبح دوره يتوارى بفضل التقدم التكنولوجي الغازي والزاحف على مختلف مناحي الحياة – هذه الشخصية هي شخصية ” البراح” التي ارتبط ذكرها بالأعراس والحفلات والمواسم والمهرجانات بشكل كبير، فتحفظ له الذاكرة الشعبية الشفهية كثيرا وقليلا الذاكرة المكتوبة، جملة من المرتجلات الشعرية والمواويل والأراجيز،
وتسمه بقوة المحفوظ والحافظة وسرعة البديهة وحسن سبك الكلام ومواءمته مع تيمات الحدث وتطلعات وتوجهات وخلفيات أصحاب الحفل والمحتفى بهم، إذ كان دور البراح يتجه ناحية تنشيط فقرات الحفل والعرس واستنهاض همم الأقرباء المحتشمين للمساهمة في إشعال فتيل الحفل وإضفاء طابع جو من المرح والاحتفال بما تستلذه الأعين والآذان من رقص وكلام موزون مرموز مرة ومباشر أخرى… وهنا استوقفتني فكرة أن أميط اللثام بمقاربة بسيطة عن بلاغة الحكي الشعبي في هكذا مناسبات وكذا علاقته بالسلطة من ناحية ثانية.”
بلاغة المحكي الشعبي وحضور السلطة
على مر العصور والأحقاب وانسيابيتها، كانت العلاقة بين المرء والسلطة أحد المواضيع التي اهتم بها الأدب الشعبي العربي عامة والمغربي والمحلي عامة، لذلك لا مُشَاحّة إن قلنا إن كلّ شبر من هذا العالم يحاول الحفاظ على تراثه، لما فيه من معـالم قويـة وثابتة لشخصيته، بحيث يعتبر التّراث الشعبي أصلا لكلّ الشعوب وجواز سفر لكـلّ مسافر عبر بقاع المعمور، وانه ” الحكي الشعبي” خلف ذخيرة أدبية ثرية تندرج ضمن أنواع أدبية عديدة من قبيل: الحكاية الشعبية، الأمثال الشعبية، المواويل، السير الشعبية والأغاني الشعبية. وعبر هذا المحكي الشعبي نستطيع أن نتقرب من الطريقة التي يدرك بها العربي السلطة ويتعامل معها ويصورها في قالب بليغ عماده الكلمة الساحرة المخضبة بروح الكناية والتورية والرموز واللفظ الساخر والفاضح.
بلاغة المحكي الشعبي
لماذا بالضبط الجانب البلاغي؟ ذلك أن تعريفات البلاغة اصطلاحيا تتماشى والمبحوث فيه، فقد عرفها القزوينيّ في كتابه (الإيضاح في علوم البلاغة) بأنها: “مُطابقة الكلام لمُقتضى حال السّامعين مع فصاحته”، وأشار ابن الأثير في كتابه (أدب الكاتب والشّاعر) إلى أنّ الكلام البليغ سُمّي بذلك؛ لِما يحمله من الأوصاف الّلفظيّة، والمعنويّة، فالبلاغة تشمل المعاني لا الألفاظ فقط،وعرّفها الرّمانيّ في كتابه (النّكت في إعجاز القُرآن) بأنّها استخدام أحسن الصّور من الألفاظ لإيصال المعنى وتوثيقه في قلب المُتلقّي. لذا آثرنا الحديث عن الجانب البلاغي للمحكي الشعبي، لجملة من المصوغات الموضوعية نجملها في اثنين هما:
- أولا: ان البلاغة تمكننا من فحص الفرق بين الحكي الشعبي المتسم بالبساطة والاقتصاد والارتباط العضوي بتفاصيل الحياة اليومية والقابلية اللانهائية للتجدد.
- ثانيا:إن البلاغة تميز بين المحكي الشعبي والرسمي من زاوية وسيط التداول، فالشق المرتبط بالحكي الشعبي يعد جزءا من بلاغة التواصل الشفهي في قاعات المقاهي وخيام الأعراس وبهواتها المنفتحة على فضاءات لا متناهية من المتعة تولدها مرافقة ومصاحبة الغناء أو الرقص أو الموسيقى، ذلك أن الحكاء الشعبي في عمله يرتبط مزامنة بشكل قوي بجمهوره، فيكون هذا المتلقي أثناء الحكي ليس مجرد طرف سلبي يستقبل ما يلقى على مسامعه، بل إنه يعدّ طرفا مشاركا وفاعلا مؤثرا في صياغة موقف الحكي ومادة الحكاية عينها، فالحكاء هنا يستجيب بكل أريحيته لاختيارات الجمهور وتفضيلاته ويلبي عن طيب خاطر توقعاتهم ويسعى دوما إلى إقامة علاقة ترابطية وتواصلية قوية معهم، بمعنى آخر، إن الحكي الشعبي الشفهي يظل حيا ويتشكل على نحو متجدد دوما حتى انتهاء فعل التلقي .وفي دخلانية هذه المادة المحكية تتمظهر السلطة بكل تلاوينها في علاقتها بالإنسان.
وعليه، فان من يتتبع خصيصات هذه المحكي الشعبي ويقف على فصاحة وجسارة الحكائين لاشك انه سيلمس بلاغة المحكي وقدرته على تصوير الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والبيئي بكلمات دالة بقدر ما لا تحتمل تأويلات عدة، بقدر ما تلقى استجابة فورية من طرف المتلقي فيتفاعل معها ويهتز لبراعتها وقد يتأفف ويستاء من فظاعة المشار إليه.
الحكي الشعبي وحضور السلطة
لاستكناه العلاقة بين الانسان المغربي والسلطة في التراث الشعبي، لا بد من العودة إلى فحص الأمثال الشعبية والمواويل والأغاني الشعبية، ذلك أن هذه الأشكال التعبيرية تتعرض إن بشكل مباشر أو غيره لعلاقة المحكي الشعبي بالسلطة، بحسب أن هذه الأخيرة كائن أثيري يوجد في كل أركان الحياة في المنزل في الشارع في الجامع في المدرسة وغيرها من الأفضية، فالسلطة تتجلى في كل شكل في الكلمة وفي الصمت والغياب والبندقية، لذلك لا غرو إن كانت لها صور عدة في المحكي الشعبي سواء في شخوصه أو أحداثه أو بيئاته، لا سيما أن المحكي الشعبي كثيرا ما يفتتح بمقدمات تعارف الناس عليها وتنطوي في نفس الوقت على خلفيات متباينة، بيد أن حكي السلطة لا يكتمل إلا بذكر شخصيات شعبية عادية مثل الفلاح والصياد والراعي والخياط… ومتصفح الأدب الشعبي دون جهد سيحصل على كميات هائلة من النصوص الشعبية الإنسانية التي تبرهن على سلطة البلاغة في الموروث الشعبي المحكي، أي أن الكلمة قادرة بحسبها تحوي قدرة سحرية لا محدودة تنطوي على إنجاز الفعل عبر الإقناع والتأثير في المتلقي، لذا نجد المحكيات الشعبية تعالج أبعادا عدة للعلاقة بين السلطة والشعب من أبرزها:
نقد السلطة وتوجيهها ، عبر المقاومة بالتهديد والإزاحة أو المقاومة بالسخرية الباطشة كآلية من الآليات المقاومة والوقوف في وجه السلطة وتخفيف القلق والتوتر الناشئ عن التعرض لجورها وبطشها التي نكلت بهذه الذاكرة سنينا عديدة، وهنا تكتسي الحكاية الشعبية المدعومة بالمعرفة وقوة الكلمة شجاعة الحق، فالكلمة بجبروتها تمسي أداة قلب لعلاقات السلطة التقليدية ووسيلة لسلب السلطة من أصحابها ونقلها إلى الشعب، وأداة تصحيحية لممارسات الحكومات إن كانت هذه الأخيرة تنصت لهموم الشعب وتستنير بنداءاتهم وتستجيب لتطلعاتهم ، أو كما أفصح عن ذلك الكتاب المغاربة والمشارقة الذين اهتموا بدراسة وسبر أغوار هذه العلاقة لما قالوا بأن الحكاية وسيلة لانتقاد السلطة وسوء تدبير الساسة أو توجيههم عن طريق الترميز والحيلة لردع الاضطهاد والدعوة إلى التحرر و نبد الظلم ، وطريقة لانتقاد الفساد في المجتمع ومظاهر التفسخ كل هذا عبر تبني نظام رمزي يستعمل الكثير من الرموز الدينية والعقائدية واللغوية والميثولوجية .
وخلاصة القول، أن المحكي الشعبي بكل أنواعه أمسى يتوارى للخلف وبشكل سريع أمام الانفجار المعلوماتي الذي يأتي على الأخضر واليابس فيما يخص التراث الشعبي فيلتهم كل هذه الكنوز المعرفية الأدبية رغبة في تذويب الهويات الوطنية وتشكيل فئات وهويات وعوالم استهلاكية لا غير.