” الزيارة “عبد السلام كشتير/ المغرب

كان سي حسن معلمنا في القسم الثاني إبتدائي ، وكان فظا غليظ القلب قاسيا في علاقته معنا ، لا يتوانى في معاقبة التلاميذ على أبسط فعل يقترفونه، وبكل ما أوتي من قوة . كان ساديا بمعنى الكلمة ..
خلال حصة الإملاء وبينما كان معلمنا يتأهب للشروع في إنجازها ، إذا بزائرين يلجان الفصل …
وقفنا لهما باحترام وأدب ، ورددنا ذلك النشيد الذي تدربنا عليه للترحيب بالضيوف …
جلسنا في مقاعدنا بعد الانتهاء من مراسيم الترحاب ، وانشغل المعلم بضيوفه . إلتأم الجميع بمكتبه ، فبدأ يعرض عليهم عددا من الأوراق ، وحاله كما لو أنه يخضع لمساءلة أو إستفسار حول ما يقوم به من دروس وإنجازات .. طالت مدة النقاش بينهم وبصوت منخفض ، وهم يتفحصون الأوراق التي بين ايديهم .. ثم أشار إليه الضيفان لإتمام حصة الإملاء .
وقف تلميذ وراء الجزء الصغير المتحرك من السبورة ، يكتب مفردات الإملاء التي يمليها المعلم ، بالتزامن مع ما يدونه التلاميذ الآخرون في دفاترهم …
لكنني لم أكتب ما كان يمليه المعلم علينا ، ولا حتى زميلي . بل انشغلنا بالنظر إلى ضيوف معلمنا وتتبع حركاتهم ونحن في لحظات شرود وتيهان واضحة ..
أنظر إليهما وأنا كمن كان على عينيه غشاوة وفي أذنه وقرا .. لا أسمع ولا أرى حقيقة الأشياء من حولي …
رجلان في حدود عقدهما الرابع .. يرتديان بذلات سوداء كسواد شعر رأسيهما المصفف بعناية فائقة ، نظيفة جدا وأقمصة بيضاء ناصعة .. تتدلى من أعناقهما ربطة عنق سوداء تختفي تحت أزرار البذلة نحو الأسفل .. أحدية سوداء لامعة لا غبار ولا تراب عليها …
بدا لي الضيفان كما لو أنهما نزلا لتوهما من كوكب آخر .. فنحن لم نألف رؤية مثل هذه الكائنات في بلدتنا من قبل …
أنهى معلمنا حصة الإملاء ورجع إلى ضيفيه ، تحدثا معه وهما يحركان يديهما بهدوء ويشيران إلى ما كتب التلميذ الواقف وراء الجزء الصغير من السبورة .
ثم أخذا حقيبتيهما وهما بالخروج …
وقفنا مرة أخرى نودع ضيفي معلمنا .. أغلق وراءهما الباب ثم استأنف الحديث عن حصة الإملاء .
أدار المعلم الجزء الصغير من السبورة حتى نرى جميعا مفردات الإملاء التي كتبها زميلنا ، ثم قرأها فتبين أنه لم يرتكب أي خطإ .
كما هي العادة في حصص الإملاء والأنشطة الكتابة والتمارين التطبيقية ، يقوم التلاميذ بتبادل دفاترهم فيما بينهم . كل تلميذ يصحح ما في دفتر زميله ، حتى تتم العملية بكل موضوعية ، و يستفيد الجميع من عملية التصحيح .
يقوم المعلم أثناء سير العملية ، بالتنقل بين الصفوف ليلاحظ عن كتب سير التصحيح وهو يطرح الأسئلة على التلاميذ ، ويستفسرهم حول ما كتبوا .
وصل إلى طاولتنا فاندهش مما رأى ، دفاترنا فارغة !
لم نكتب الإملاء في حينه .. صاح فينا ، والقلق ظاهر على محياه :

  • أين الإملاء ؟
  • لماذا لم تكتبا ؟
    وهو يصيح ، تسمرنا في مقاعدنا ولم نتمكن من تقديم جواب عن أسئلته .. لأننا نحن كذلك لم نفهم لماذا لم نكتب الإملاء ..؟
    لقد كنا في حلم أو في غيبوبة ، ونحن ننظر إلى ضيفي معلمنا . تهنا عن واقع حصة الإملاء ولم نستفق من سهونا إلا بعدما أغلق الباب ، والمعلم يودع الكائنات الغريبة التي حلت بفصلنا ..
    أكمل جولته وهو يراقب ويتابع إنجاز التلاميذ ..
    لما انتهى من مهمة المراقبة ، رجع إلينا فأشار بيده بأن نقف أمام السبورة .. إمتثلنا للأمر وأنا أحس بحلقي يابسا لا ريق فيه ، وأن لساني تحجر وأصبحت لا أقدر على النطق .. بل تزايدت دقات قلبي الصغير الذي أصبح يشتغل أكثر من طاقته بفعل الخوف من العواقب التي تنتظرنا على فعلنا ..
    لا شك في أن زميلي كان هو الآخر يعيش نفس الحالة …
    لاحظ معلمنا أننا ننتعل ما تبقى من “حذاء الكاوتشو ” المخصص للفصل المطير ، وكان يكره بشدة هذا النوع من الأحذية .. فطلب منا أن نخلع ما بأقدامنا ونرمي به خارج الفصل ، ثم وقفنا حفاة وجلين مضطربين ، ننتظر بطشته بنا والتي ستكون قوية بدون شك ..
    نادى على تلميذين وطلبا منهما إحضار الفلقة لمعاقبتنا ..
    إنطلقا الى حارس المدرسة فأحضراها على وجه السرعة …
    أمسكا بطرفيها ، وهما ينفذان وبدقة متناهية تعليمات المعلم . جمع المعلم رجلينا الصغيرتين على شكل رزمة واحدة داخل حبل الفلقة حتى يسهل عليه الأمر.
    أشاح التلمذان بوجهيهما إلى الناحية الأخرى ، ربما لكي لا يشاهدا عملية العقاب ، وقد يتأثرا بما يشاهدان ..
    إنهال المعلم على راحة أقدامنا الصغيرة الطرية ، بعصا يضرب بما أوتي من قوة ، فانفجرنا باكيين وبصوت مرتفع في البداية ، ثم بدأت أصواتنا تخف وتتلاشى حتى انكتمت ، وأصبحنا في حالة بين الإغماء والوعي …
    توقف المعلم بعدما أنهى عمله ، وأسكن فوران ساديته ..
    أمر التلميذين بفك الفلقة من أرجلنا . ثم أمرنا أن نعود إلى مقاعدنا .. إلا اننا لم نستطع الحركة من فرط الضرب على أسفل أقدامنا التي انتفخت وتورمت .. فبدأنا نزحف ونحن نئن من شدة وهول العقاب الذي تعرضنا له .
    تغيرت ملامحنا من كثرة البكاء والأنين ، وأنهمار الدموع على وجهنا الصغير ، ومن شدة الألم الذي نحس به .
    لم يتماسك أحد زملائنا نفسه حينما رآنا على هذا الحال ، فانتابته حالة بكاء هستيري هو الآخر . لم يستطع المعلم إسكاته ولا رفاقه ، ربما تأثر حينما لاحظ حالنا وما نحن فيه ..
    ساعدنا زملاؤنا على الإلتحاق بمقاعدنا بشق الأنفس ، ونحن كمن فقد أطرافه السفلى . استلقينا بأجسامنا الصغيرة المنهكة على الطاولة ، وأقدامنا تؤلمنا بشكل لا يستحمل .. فبقينا على هذا الحال ولم نتمكن من رفع رأسينا إلا عند انتهاء الحصة ..
    خرجنا من الفصل نحاول استعمال قدمينا في المشي. إنما صعب الأمر علينا خاصة في البداية ، ثم بعدها تطوع رفاقنا لمساعدتنا على الوصول إلى منازلنا ..
    لم يغضب والدي من ما حدث لي حينما رٱني على الحال الذي كنت عليه ، ولم ينتفض ضد قساوة المعلم علينا ، بل سأل فقط عن السبب الذي دفع المعلم إلى معاقبتنا بهذه الطريقة ؟
  • علاش ضربك المعلم ؟
    أجبته بكلمات تفهم بالكاد ، تخرج ممزوجة بشهيق ، ما بين نحيب وأنين ..
  • لم أكتب الإملاء .!
    لما عرف سبب ما تعرضنا له أنا وصديقي ، حملني مسؤولية ما حدث ، ونبهني من أنني إن عاودت الخطأ سيكون لي نصيب من عقابه هو أيضا .
    سقطت مغشيا علي مستلقيا على الأرض …
    لم أستطع الوقوف من شدة ما أعانيه ، فقدماي الصغيرتين تؤلماني كثيرا وجسمي الصغير منهك ، وكل أطرافي ومفاصيلي توجعني … ووعيد أبي زاد من حدة معاناتي .
    أسرعت أمي لتهيء لي فراشا يؤويني ويدفئني بعدما لا حظت ما انتابني من ارتعاش ووهن . نمت وأنا أئن من شدة أثر العقاب الذي تعرضنا له .. ارتفعت حرارة جسمي بشكل ملفت ، وبدأت أهدي بوثيرة مستمرة آثارت إنتباه أفراد أسرتي الذين انزعجوا ، وتحلقوا حولي في مشهد جد حزين …
    جلبت لي أمي مشروب أعشاب حضرته بسرعة عسى أن يخفف عني ما أنا فيه ، وهي تحثني على تجرعه .
    قضيت أسبوعا كاملا في فراش المرض جراء هذا الحادث المؤلم ، ثم استأنفت الدراسة بعده ..
    بينما كان هذا الحادث هو آخر عهد زميلي بالمدرسة .!

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“توت أحمر” لهند سليمان.. قصائد تصور الحالة النفسية العميقة للإنسان

عمّان- تتدفق في قصائد “توت أحمر” للشاعرة الأردنية هند سليمان، روح الطبيعة العذبة، فالاستعارات والصور …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات