السرد القصصي و الروائي مطلوب حتى يلتحق الأديب العربي برواد التيار العالمي
الرّواية والقصّة العربية عرفتا تطوّرا كبيرا خاصة في بداية القرن الجديد وأواخر القرن المنقضي. لانفتاحها على الرّواية الغربية خصوصا والعالميّة عموما. فقد استفادت من تلك التّجارب في مستوى تنوّعها (الرّواية النفسية، الاجتماعية، العاطفية، الذهنية…)، أو في مستوى فنّياتها من جهة السّرد وطرق تنظيمه، والرّاوي ومواقع ظهوره، وكيفية هندسة المكان والزّمان وبناء الشخصيات… لقد قدّم الرّوائيون والقصّاصون العرب أعمالا لا تقلّ قيمة عن نظائرها في الأدب الغربي. ويكفي أن نذكّر بأعمال عبد الرحمان منيف والطيّب صالح وحنّامينا وغيرهم كثير.
* لم تختفي الرّمزية التراثية من السّرد العربي المعاصر. فتقاليد الحكي على امتداد قرون ومنذ القصة المثلية في كليلة ودمنة، ونوادر ” البخلاء” ومقامات الهمذاني وطوق الحمامة لابن حزم وحكايات ألف ليلة وليلة وما تبع ذلك… ظلّت أصول الحكي حاضرة وإن سعى أصحابها في العصر الحديث إلى تطويرها بما يتناسب وإنجازات الحداثة. * أنا ضدّ القطع مع تقاليد القص العربية التّقليدية، بل أراها أطرا ومرجعيات مهمّة يمكن بعثها وبث الحياة فيها وهي غنية بالرّموز والإيحائات التي بمقدورها أن تعبّر عن روح العصر. ويمكن هنا أن أستشهد بأعمال الأديب التونسي محمود المسعدي في رواية ” حدّث أبو هريرة قال…”، حيث تمثّل هذه الرّواية أنموذجا على كيفية تطوير الشكل السردي القديم. والرواية كانت دليلا على غنى التّراث وكثافة قصصيته. وفي نفس الوقت يجب أن لا نرهب من فزّاعة المسّ بالهويّة والخصوصية عند الحديث عن الانفتاح على التّجربة العالمية وتوظيف الروائيين العرب لشخصيات عالمية، فليس في ذلك تهديد للثقافة العربية، ففكرة عالمية الأدب تظلّ من القيم الثابتة في عالم الإبداع. * لا شكّ وأنّ بيئة التّلقّي موصوفة بالتّشظّي والتّفكّك القيمي، وليس هذا مردّه انفتاح القص العربي على الغربي. بل هو مرتبط أصلا بحالة التّخلّف الشّامل للبلاد العربيّة وعجزها عن تحقيق النّهضة المرجوّة. والتّلقّي هو وجه من وجوه الأزمة. فإذا توفّرت شروط تهذيبه تطوّر تلقائيّا وللرواية والقصة العربية مهمّة لعب هذا الدّور من خلال تقديم أعمال من شأنها أن تؤثّر في المتلقي العربيّ وتفعل فيه إيجابيّا. * من المؤكّد والضّروري جدّا أن ينفتح السّرد العربيّ على نظيره في العالم. فالعالم اليوم قرية وفكرة الانفتاح صارت اضطرارا لا اختيارا في الأدب وفي غير الأدب، ولكن مع الحرص دائما على التّمسّك بالخصوصية الثقافية التي تميّز حضارتنا العربية الاسلامية. * هذا صحيح. يعرف حقل النّقد السّرديّ العربيّ هزالا وضعفا، على عكس المنجز الروائي. فالأعمال الرّوائيّة العربية سبقت بكثير حقل النقد العربيّ الذي مازال يعاني من عديد الوجوه. فهو من ناحية غير قادر على الابتكار والإبداع ويقنع بالاتباع والتقليد فهو عالة على النقد الغربيّ، وهو من ناحية أخرى غير قادر على التخلّص من الإيديولوجيا سواء عند التنظير أو عند ممارسة فعل القراءة والتحليل لعمل إبداعيّ ما. نضيف إلى ذلك عدم حصول النّاقد العربيّ على التكوين اللازم لممارسة هذا العمل، وقفز كلّ من هبّ ودبّ إلى عالم النقد ورغبة الغالبية العظمى في طلب الشهرة والمال. ولهذه الأسباب لم يستطع النقد العربي الرّقيّ بنفسه.
أثر السرد الروائي في الأدب العربي
الأمة العربية هي الأمة التي تميزت بفن الحكي منذ الجاهلية وحتى الآن، فقديماً قيل الشعر ديوان العرب لأنه كان المعبر عن البطولات والملاحم والسير الشعبية، ومن يومها أصبح الشعر ديوان العرب، وكانت ألف ليلة وليلة في سردها العميق والرائق، تعبيراً عن الحياة والحكي فأصبحت الرواية هي الأخرى معبرة عن الآمال والآلام، والأدب منذ أرسطو وحتى الآن ما هو إلا محاكاة للواقع وتعبير عن الحياة. وإذا كان الشعر – كما قلت – مدوناً لحياة العرب، فإن الرواية الآن أصبحت هي المدونة لحياة العرب ، وهذا لا يعني أن نجم الشعر قد خبا ولكن قد توارى حياء بعض الوقت في هذا الزمن لأنه قد أخذ حظه بما يكفيه، حيث ظل مهيمناً على الساحة الأدبية قرابة سبعة عشر قرناً من الزمان تقريباً ثم جاءت الرواية مع الدكتور محمد حسين هيكل ” زينب ” في القرن الماضي أي منذ أكثر من مائة سنة بقليل فأصبحت الرواية هي المسيطرة والمهيمنة على الساحة حتى الآن، وكان لحصول أديب مصر والعالم العربي نجيب محفوظ على جائزة نوبل الأثر الكبير في تثبيت عبارة ” زمن الرواية ” فمنذ أن حصل على تلك الجائزة الرفيعة وحتى الآن والرواية في تقدم مذهل فنحن نرى يومياً أعمالاً روائية تظهر على الساحة تفوق ما قبلها أي أن هناك كتاباً عبروا بصدق فأصبحت أعمالهم في القمة والدليل الكتب النقدية التي تكتب عن الفن الروائي.
لذلك؛ سأحاول أن أصطحبكم في رحلة الرواية منذ ظهورها في مراحلها الأولى وحتى الآن لنرى المعاناة وفترات المخاض ثم القوة والوصول إلى العالمية ثم تثبيت مقولة ” زمن الرواية “، فقد مرت الرواية بأربع مراحل حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن، المرحلة الأولى وهي المحاولات الأولى للأعمال الروائية، فضلاً عن المعرَّبة التي دخلت إلى العالم العربي من هذا الطريق، مثل تعريب حافظ إبراهيم رواية البؤساء لفيكتور هوجو. وقد كان لحافظ إبراهيم روايته ” ليالي سطيح ” وهي من المحاولات الأولى للفن الروائي، وفي تلك المرحلة كان لأمير الشعراء أحمد شوقي دور في ذلك حيث له بعض الأعمال الروائية التي لم يسمع بها أحد، وهي في حد ذاتها بداية حقيقية لذلك الفن مثل رواية ” عذراء الهند ” والتي ظلت مفقودة إلى وقت قريب بعد أن عثر عليها الدكتور أحمد الهواري وله أبحاثه عنها. ورواية ” دلّ وتيمان ” و” لادياس ” و “حوارات مع شيطان بنتاؤر” وإذا سألنا أنفسنا سؤالاً لماذا كتب أمير الشعراء الرواية رغم أنه كان متوجاً أميراً على عرش الشعر؟ والإجابة بكل بساطة أراد أن يكون رائداً في النثر كما هو رائد في الشعر، حيث كان ينظر من بعيد للكتاب الكبار من الفرنسيين الذين كانوا رواداً في الاثنين معاً الشعر والنثر كما كان الحال عند ألفريد دي موسيه وفكتور هيجو فضلاً عن ذلك، كان مولعاً بشاعر وكاتب فرنسي عملاق هو تيوفيل جوتييه، وإذا تذكرنا جوتييه لا بد وأن نعلم أنه كان شغوفاً بالحضارة المصرية العظيمة القديمة فقد كتب عدداً من الروايات والتي أعتقد أن شوقي كان قد تأثر به فقثد كتب تيوفيل جوتييه رواية ” قدم الممياء ” ورواية ” حنين المسلات ” ورواية ” حكاية الممياء ” ولا بد أن نعرف حقيقة مهمة هي أن الأخير جوتييه كان قد قرأ كل ما كتب عن الحضارة الفرعونية القديمة من كتب العلماء والباحثين بعد معرفة رموز حجر رشيد. وفي المرحلة الأولى أيضاً لا ننسى ما قام به الرائع مصطفى لطفي المنفلوطي في ” العبرات والنظرات” وما قام به الكاتب جورج زيدان في كتاباته حول الدين الإسلامي رغم أنه رجل مسيحي إلا أنه له إبداعه عن الدين والشخصيات الإسلامية كما في الأمين والمأمون وعبدالرحمن الناصر وهذا يؤكد أن الإبداع لا يفرق بين الأديان، ولكن من الممكن أن نطلق عليه لفظة مؤرخ أفضل من روائي لأنه كان ينظر للأحداث من هذه الزاوية، والفرق بينه وبين توفيق الحكيم أو حتى نجيب محفوظ ويحيى حقي أن الآخرين كانوا روائيين ينظرون إلى الأحداث من زاوية الفن وعلم الجمال، بينما جورج زيدان كان ينظر لها من زاوية التاريخ أي كيف كان الحدث عبر التاريخ وكيف صورته كتب التاريخ، تقريباً كان ذلك هو الفارق بين جورج زيدان وبين الروائيين الآخرين .
والمرحلة الثانية من مراحل تطور الفن الروائي كانت مع الدكتور محمد حسين هيكل في كتابة رواية ” زينب ” والتي تعتبر سيرة ذاتية للكاتب. وقد خطها وقت وجوده في فرنسا كي يحصل على الدكتوراه في القانون، فقد كان والده من الإقطاعيين الكبار الذين يمتلكون حيازات واسعة من الأراضي الزراعية، الأمر الذي ساعده على السفر، وبعد أن اطلع على الأدب الفرنسي في فترة وجوده هناك بدأ ينظر إلى مشرقه الذي تغرب عنه وحاول أن يكتب ما كان يراه في إقطاعيات والده وزراعة القطن وكيف كان عمال التراحيل وبالأخص زينب التي عشقها، تلك الفتاة الفقيرة المعدمة التي لا تملك شيئاً من هذه الدنيا سوى جمالها. ومن هنا كانت رواية زينب البداية الحقيقية للرواية العربية رغم الاقتباس الواضح من الأدب الفرنسي، وبالتالي فإن الميلاد الحقيقي للرواية العربية وعلى أرجح الأقوال مع رواية زينب للدكتور هيكل ومع ظهور هذه الرواية عام 1914 بدأ الكتَّاب الكبار في الكتابة الروائية مثل العملاق عباس محمود العقاد في روايته ” سارة ” والتي كانت سيرة ذاتية له، ثم عميد الأدب العربي طه حسين يكتب ” الأيام ” وهي أيضاً أيام حياته ومراراته التي لاقاها في حياته نتيجة فقدانه للبصر وهو صغير. وتوفيق الحكيم يكتب ” عودة الروح ” وحين سافر إلى فرنسا كتب ” عصفور من الشرق ” وبدأ في المسرح لأنه كان يعشق المسرح فكتب ” يا طالع الشجرة ” وأهل الكهف ” وغيرهما وكان جل اعتماده على الذهن فبات مسرحه يعرف بالمسرح الذهني المعتمد على العقل والفكر، ولكن أحداً من هؤلاء لم ينل منزلة نجيب محفوظ الذي ظل وفياً للفن الروائي وظل يجود فيه إلى أن حصل على جائزة نوبل. وهنا لنا وقفة، إذا كان نجيب محفوظ قد حصل على نوبل فهذا راجع إلى انغماسه في الرواية ولم يحد عنها بينما العقاد وطه حسين وغيرهما كانوا منشغلين بالأعمال النقدية وقراءة الأدب، فقدموا إلى المكتبة العربية أفضل ما كتب في النقد والثقافة العامة في وقتهم، لذلك كان إنتاجهم في الرواية قليلاً، ومن ثم استحق نجيب محفوظ تلك الجائزة الرفيعة.
بينما المرحلة الثالثة من مراحل تطور الفن الروائي فكانت على يد نجيب محفوظ وهنا أصبح هناك إكتمال للنضج الروائي إذا ما اعتبرنا المراحل السابقة هي بداية للنضج والتفتح الروائي فإن مرحلة نجيب محفوظ هي الإكتمال الحقيقي للكتابة الروائية والتي أصبحت مثالاً سار وراءه الكثيرون محاولين التقليد والإضافة الأمر الذي جعل للرواية مكانتها العظيمة بين الآداب الأخرى. ولا بد وأن نعي ونعرف أن نجيب محفوظ كان قد تأثر بالكاتب الإنجليزي الشهير ولتر سكوت في كتابة تاريخ بلاده حيث ولتر سكوت قد كتب تاريخ بلاده روائياً وأراد نجيب محفوظ أن يحذو حذوه وبالفعل كتب نجيب محفوظ مسودة كبيرة لموضوعات تاريخية عظيمة أراد أن يدون تاريخ بلده عن طريق الرواية وهو تاريخ فرعوني عريق إلا أنه وعلى الرغم من ذلك لم يكتب من الروايات التاريخية سوى ثلاث روايات وهي عبث الأقدار والتي كانت أول رواية له كتبت عام 1939 ثم كفاح طيبة ورادوبيس، وبعدها تطرق نجيب محفوظ إلى موضوعات شتى من التاريخية والرومانسية إلى الواقعية، وينتقل من عبث البحث في الواقع إلى عبث البحث في الوجود، فقد تناول العديد من القضايا الوجودية مثل الخوف والعجز واليأس كما في رواية السمان والخريف واللص والكلاب، والطريق. لقد حرص نجيب محفوظ على تصوير الواقع المصري بكل دقة، وبكل ما أوتي من قدرة على ذلك، ممسكاً في يده كاميرا دقيقة تستطيع أن تلتقط تفاصيل الأشياء، محاولاً في الوقت ذاته التأكيد على الفكرة التاريخية للأحداث من خلال الوصف والسرد اللذين يمتلك ناصيتهما جيداً، ونلاحظ أن نجيب محفوظ وإن استدعى جزئية من جزئيات التاريخ، فإنه يأتي بها من أجل بث قيمة معاصرة وهي الصراع من أجل الحرية، وهو في طريقه إلى ذلك لا ينسى أن يُخضع ذلك التاريخ للفن الروائي الذي جعله يسهل قراءة التاريخ حين أدخل عليه عنصري الزمان والمكان، فضلاً عن الحدث والعقدة والشخصيات الرئيسية والثانوية. وهذا الأمر نراه بوضوح أكثر في رواياته التاريخية الأولى.
وتاريخياً يصور تلك الأحداث التي مرت بها مصر قبل وبعد ثورة 1952وهو ما رأيناه في رواية ” السمان والخريف ” والتي كتبت عام 1962، وهي من الروايات الواقعية التي انتقل فيها من الواقعية الطبيعية إلى الواقعية الوجودية، حيث سار فيها نجيب محفوظ على منوال الرواية الواقعية التي تصور الواقع الذي عاشه المصريون في تلك الحقبة التاريخية كما كان الحال في القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق والسراب وبداية ونهاية فضلاً عن رواية الطريق التي بحث فيها البطل صابر السيد الرحيمي عن المخلص ولكنه لم يجده وكأنه يناشد الله فهي أزمة من أزمات الوجودي؛ ذلك الرجل الذي يبحث في حياته عن مجهول بعيد المنال يبدو في نهاية الطريق. إنه يبحث عن حياة فيها الإنسان ما زال إنساناً، عن ضوء نور ينير له دروب حياته المظلمة، بل والمعتمة من الظلمة الحالكة، إنه يبحث عن والده الذي ينكره حتى في المنام. إنه القلق الوجودي بكل أشكاله، والكينونة البشرية التي يراد لها أن تظل في بحث دائم عن كرامة قد ضاعت وحرية سلبت وعدل أصبح مفتقداً وسلام بعيد المنال.
أما المرحلة الرابعة هي مرحلة ما بعد نجيب محفوظ التي نحياها الآن والتي تعتبر امتداداً له ولفكره لأنه هو من أرسى قواعد الفن الروائي حتى نلاحظ أن معظم الروايات لا يوجد لها مقدمات والسبب أن قواعد هذا الفن كانت قد أرسيت وقد عرفت وعرفها الجميع، فلا حاجة للتنظير الأمر الذي جعل مقولة “زمن الرواية” قوية، وهو الأمر الذي بات واضحاً حين تفجرت ثورة يناير 2011 من كل حدب وصوب وجاء الكتاب كي يعبروا عنها إلا إنهم لم يستطيعوا التعبير عنها لأن منجزاتها لم تتحقق بعد وما وجدناه من كتابات هنا وهناك ما هي إلا بذور قليلة من أعمال ننتظر ظهورها. فثورة يناير أكبر من أي عمل روائي حتى الآن وما عبر عنه عمار على حسن في ” سقوط الصمت ” ما هو إلا جزء يسير من تضحيات عظيمة حدثت في هذه الثورة العظيمة التي راح فيها زينة شباب مصر الأبرار الذين طالبوا بالحرية المفتقدة والعدل الضائع، ورغيف العيش الذي مات الكثيرون من أجله، وإذا كان عمار على حسن قد صور واقع الثورة والذين قفزوا عليها بهذه الصورة الواضحة فإن هناك بعض الكتاب قد صوروا هذا الواقع وما تلا الثورة بطريقة عجائبية غرائبية وهو الكاتب منتصر أمين في روايته ” يحيى وصحف أخرى ” فهذه الرواية تغوص داخل أعماق النفس البشرية لتبحث في عوالمها وتنقب عن مكنونها وعن اختياراتها الصعبة لتكشف لنا الجوانب الخفية في تلك النفس في زمن غير معلوم ومع أشخاص مهزومين في معظم الأحوال ونراهم دائماً بين بين لا هم بالأشرار أو بالأخيار وكأننا في تيه من الأمر حيث اختلط الصالح بالطالح فأصبحت شخصياته مهزومة وتائهة، تعيش مع هياماتها، وقد عدد الكاتب الأصوات في الرواية واتخذ شكل السرد المباشر ليحكي هو عن كل شخصية من الشخصيات ويعطي رأيه أحياناً بداية من الإهداء ومروراً بالعمل حتى أنهى الرواية، يذكرنا الكاتب في هذه الرواية بالكتابة الأسطورية وكأننا في عالم عجائبي وغرائبي و نراه يعرض لحوادث التاريخ المشهورة مثل طوفان نوح عليه السلام، وهو ما يمثل ثورة يناير العظيمة وعزف الكاتب فيها على الشباب الذين لم يحصلوا على شيء منها وعادوا بخفي حنين واستولى عليها من استولى من اللصوص والانتهازيين الذين هم موجودون في كل زمان ومكان.
ولا ننسى الشرارة الأولى التي أيقظت الشعوب من ثباتها إنها الثورة التونسية وجاء الأدب معبراً عنها أو منذراً بحدوث تلك الثورة وهو ما عبر عنه الكاتب التونسي شكري المبخوت في روايته ” الطلياني” وكان الوطن في هذه الرواية هو اللغة العربية التي تعرَّت عن المحرمات لتصف الجسد والعشق والثورة والهياج الوطني مع عبدالناصر الطلياني اليساري في الجامعة ومحبوبته زينة، حيث تحكي الرواية قصتهما معاً فعبدالناصر هو ذلك الفتى الوسيم وسمي بالإيطالي لوسامته وهي تلك الفتاة الثائرة، التي عشقت فكر الحبيب بورقيبة الباحث عن الحرية والذي أعطى النساء حقوقاً أكثر من الرجال، جاءت تلك الفتاة من الجنوب متأثرة بذلك الفكر الثوري، فأصبحت الرواية تسرد مرحلة فاصلة في تاريخ تونس وهي المرحلة التي تلت الحبيب بورقيبة وصولاً إلى إنقلاب بن علي، وهو ما وصفه الكاتب حين حدث الانقلاب شبهه بانقلاب العاهرات وكانت شخصية نجلاء هي المحور في ذلك فقد كانت تعشق عبدالناصر البطل وقت أن كان متزوجاً من صديقتها زينة والغريب أنها تتركه لتصبح عاهرة في الوقت الذي يأتي فيه بن علي للحكم. وقد تناول الكاتب في هذا العمل الخالي من الخيال طموحات جيل كامل نازعته طموحات وانتكاسات ما بين صراع الإسلاميين واليساريين، علماً بأن فكرة الرواية قد استلهمها الكاتب من ثورات الربيع العربي والتي بدأت ببلده تونس وظلت مشتعلة حتى الآن، والرواية من الوجهة الفنية هي رحلة في عالم الجسد والثورة والانتهاك والانتهاز وكانت لغتها لغة مدهشة صورت المشاهد تصويراً رائقاً.
لحظة اغتصاب زينة في رواية ” الطلياني ” هي اغتصاب للوطن فالوطن لم يدر من يخطط لإسقاطه، كما الحال عند زينة لم تدر من فعلها معها وهي في ظلام الليل” أحست ليلتها أو فجرها أو قبيل الفجر بسكين من لحم يخترقها من الخلف متجها نحو الدبر مرة والقبل مرة أخرى. كانت السكين ينزلق بفعل الزيت الذي دهنت به أو بفعل ماء آخر سال من السكين أو بفعل الدم الذي نزف منها ووجدته على ملابسها وفوق الحصير حين استفاقت. لم تصدق. أرادت أن تلتفت، أن تصرخ، أن تبتعد بجسمها ولكن السكين كان صلباً قاطعاً يتحرك داخلها كالمنشار. يد على فمها تكتم أنفاسها تمنعها من الصراخ والأخرى تلصق رأسها بالحائط حتى تشل حركتها”.
قد يكون هذا المشهد أو المقطع السردي من أصعب مشاهد العمل على القارئ المتعاطف مع زينة/ مع الوطن؛ حيث كانت الصاعقة الشديدة على تلك الفتاة الضعيفة والتي لم تستطع الصراخ أو الاستغاثة، ولم تدر من فعلها معها لأنه هرب ولم يمكنها من التعرف عليه، أفاقت على ذعر مشلولة حركتها كحال الوطن حين يموج بالأفكار الهدامة التي تهدم ولا تبني، فيغتصب من أقرب الناس إليه يقول الكاتب :” فهمت أن أمراً معيباً حدث. يا للفضيحة! هل تصرخ؟ و من وراءها، من صاحب السكين؟ أبوها؟ أخوها؟ شخص آخر. لكن الرائحة تعرفها، رائحة السنابل والتراب. مزقها الألم. أصبحت كالبكماء أحست بدمع حار يسيل على خديها، غابت عن الوعي من شدة الصدمة. لم تصدق. أكابوس هو أم حلم يقظة؟ “
نلاحظ أنها تعرف الرائحة فالمغتصب تعرفه، تعرف هويته ولكنه أحياناً يختبئ وراء الحائط حتى لا يراه أحد يعمل دائماً في الظلام مثل حال اللصوص وسارقي الأوطان، أفقدها أغلى ما تملك مثل أولئك الانتهازيين الذين أرادوا السطو على الوطن واقتلاعه من جذوره إنهم الخونة الذين يعملون لصالح الغير وهم موجودون في كل مكان وزمان. يقول الكاتب :” زهرة خسرت بعض بتلاتها ويضوع منها الوجع والقهرو..” ما هذه السوداوية لقد انتهى كل شيء لا بد من الانطلاق من جديد معي.. معاً” . وكانت مواساة عبدالناصر لزينة مثل من يريد لوطنه النهوض ويحاول بقدر المستطاع أن يساعده خاصة في تلك الأزمة الخانقة، ويحدث حوار وكأنه بين الوطن والمخلصين للوطن، تقول له زينة :” هذا من باب الشفقة… على البروليتاريا الجنسية”. ” من أين تأتين بهذه الأوهام. لا احتقار ولا شفقة. أنا أحبك، والحب سخاء وعطاء .. علينا أنتِ وأنا، أن نعيد كتابة تاريخ جسدينا.. سنكتبه معاً بإرادتنا، بقوتنا الروحية.. أنت قوية يا زينة، صمدت وأرى الأفق واسعاً ممتداً”.
من هنا فإن الرواية العربية في المرحلة الرابعة أصبحت أكثر قرباً من الحياة ومعبرة عنها بكل أطيافها وكذا الأحداث العضال التي تعيشها الأوطان بطريقة أدبية رهيفة وأصبحت الرواية هي الديوان المعبر عن الآمال والآلام، فكان حقاً علينا أن نحكم على هذا الزمن بأنه ” زمن الرواية “.
التوازن الموضوعي في النص الروائي
أدب الرواية أحد أشكال النصوص الأدبية ، التي تتميز بالعديد من العناصر المتفردة بين أشكال النصوص الأدبية الأخرى ، منها النص السردي المطول ولغته ، ولغة الحوار ، كما تميزت الرواية بتعدد شخصياتها ، وتعدد وتنوع مجرى الأحداث بطريقة نثرية مطوله ، يهتم فيها الكاتب بتجانس حبكة الحوار ، وخطة سير الأحداث بطريقة منطقية متسلسلة ، تخدم الحبكة والفكرة الرئيسية للرواية ، يتخذ الكاتب اللغة العربية الفصحى للسرد والحوار ، أو يتخذ الفصحى للسرد والعامية للحوار ، أو تكون عامية سرداً وحواراً ما لا أحبذه شخصياً ، أما عن الوصف سواء للشخصية أو للأماكن أو الأزمنة ،
فيتميز النص الأدبي الروائي بالاهتمام الدقيق في وصف مشاهد الرواية ، ووصف الشخصيات بطريقة جسدية ونفسية ، بطريقة تتيح للقراء رؤية المشهد رؤية العين ، وكأنه في وسط شخصيات الرواية وأحداثها ، غير القصة القصيرة التي تهتم بخدمة موقف وموضوع معين ، وخط سير موحد يخدم هذا الموقف فقط بطريقة مختصرة ، لا تعتمد على الخوض في الدقة سواء في الإسهاب بوصف الشخصيات أو الأحداث بصمة عامة ، فهي محدودة الشخصيات ومحددة الأحداث تماما ، عكس الرواية وعناصرها من شخصيات محورية كأبطال العمل الروائي وشخصيات ثانوية تخدم العمل ، والحبكة وخطة سير الأحداث ، وموضوع الرواية الذي يتمثل في الرسالة المقدمة ، أو الحكمة والهدف السامي الذي تناقشه لتلقينه للقارئ ، والذي لابد وأن يكون متجانساً حد التوازن كبقية عناصر الرواية ، فالتوازن العامي أو الموضوعي في النص الروائي أحد أهم الجوانب ، التي يعتمد عليها الكاتب المتمرس للحفاظ على الترابط بين النسق في العموم ، كالنسق بين زمان ومكان الرواية مثلاً ، كالزمن العام والخاص ، والصراع والعقدة ، و تفاقم الأحداث والذروة ، ونهاية الصراع ، وبالنهاية فإن أدب الرواية أحد الفنون الراقية ، التي يعشقها الكثير والكثير من القراء سواء الهواة أو المتمرسين ، لأنك تحيا بزمان ومكان مختلفان عن واقعك ، تأخذ روحك لترفرف بين شخصيات الرواية وأماكنها وزمنها ، فهي تمكنك من السفر عبر أزمنة مختلفة وأماكن يكاد يكون زرتها بروحك ، فيهيئ لك العقل تفاصيل التفاصيل ، لتصبح أنت كقارئ أحد أبطال الرواية ، بل ومخرجها ومدير التصوير والإضاءة والمُشاهد بالطبع ، فتستمتع بوجبة دسمة غنية بالمواقف والمشاهد المؤثرة ، التي تثير المشاعر وتوسع المدارك وتشكل الوجدان ، فيغوص القارئ بين طيات الرواية ، لا يستطيع التخلص من الاستمتاع إن عند إغلاق الدفة الأخرى للكتاب .
بصيص أمل
الرواية يتضح مفهومها الإبداعي أكثر حينما نكشف الفارق بينها وبين القصة القصيرة ، فالرواية لا يقتصر بيانها على أنها سرد نثري طويل يصف شخصيات خيالية أو واقعية وأحداثاً على شكل قصة متسلسلة بل هي أيضا متسع الإضاءة الغير مركزية أو بلا إطار تحجيمي لحرية النبض وإسقاط المعاني والدلالات بحسب الناطق بحروفها والقيم والمعارف التي شكلت شخصيته التى منها إفساح الأوراق بهل من مزيد ، بينما الأخيرة وإن كانت تحمل ما قل ودل وبالأغلب لا تسترق وقت القارىء وإن كانت لا ترويه بالقدر المستهدف ؛ فالإبداع بحاجة أكثر بكثير من ضوء الشمعة التى بالقصة القصيرة .. جولة سريعة لنتأمل الرواية ..
فعناصر بناء الرواية تتكون من الشخصيات (البطل_ محوري _ ، الخصم _ شر سواء شخص أو خطيئة وموضوع مراد تعريته _ ، وتعدد شخصيات أخرى لاكتمال الأحداث وتشبع الواقع والوقائع ) ، والحبكة والحوار ( طبيعية متعارف عليها حدث ومشكلة ومحاولة حل ، والحبكة العكسية التي تبدأ بالعقدة ثم تختم بالحل أو محاولة الحل ) ، أما عن الموضوع فهو الكنز النافع أو بصمة العمل للقارىء/ المشاهد إما خيرا يره أو شرا يره ، الزمان والمكان ( الزمان نعرفه وهناك زمان يعرفه الكاتب الذي يخصه ويخصصه بالأحداث ، والمكان يخصه أيضا إلا وصفه وإشاراته يمتلك الكاتب نوع المفتاح الذي يفتح به جغرافيا صادقة تواكب تاريخ الفترة . الروايات متعددة للغاية ، وبعض أنواع الروايات ، وما ننصح به : الرواية التاريخية ، الرواية الوطنية ، الرواية البوليسية ، الرواية العاطفية (الرومانسية) ، الرواية الواقعية … ، وهناك أنواع أخرى : الرواية الفانتازية ( عن الأشباح والخوارق ) ، الرواية الجنسية ، الرواية الملغزة ، الرواية الرخيصة التي لا نفع بها ، الرواية التعليمية … . وننصح بأن يطلق الكاتب رصاصته للجمهور القارىء لانتعاشه بمحو الظلام والتيه والأوهام لا وضعه بالنعش ؛ لنساهم جميعا بممارسة إنسانيتنا ، فالحقيقة تحتاجنا بقوة طالما نحن بحاجة إليها ، بالرغم أنها قد تتأخر عنا أو يُصيبها النقص ، لكن وصولها بحد ذاته متعة لواقعنا وإن كانت مؤلمة فهي ؛ مُعْلِّمَة – مخبرة – ، ومُعَلِّمَة – ملهمة – .