يقول:
- لا تفكر، بل اكتب، فعند الكتابة لا مجال للتفكير.
- اسمع، ألا ترى معي، أنها دعوة للكتابة بالدم. ألم يقل نيتشه: “اكتب بدمك، فتعرف عندها أن الكتابة حياة”. ( ص38 ) كتابة – الحاجة إلى البحر.
ويقول أيضا في لذة الألم:
السكون لا معنى له، والتحجر يعني الموت.
حلاوة الدنيا تهوي في حضن البلهاء، وما ظل لنا إلا الألم.
أواه كم أتلذذ بألمي!
إنه ينادي:
- أنت لا تعرف قيمة اللذة، دون ألم، أليس ذلك صوابا؟
المرأة لا تعرف قيمة الأمومة إلا بعد المخاض، والشعوب لا تشعر بالنشوة إلا بعد الانتصار في الحرب.
- أيها الألم اللعين. هل علينا تبرير القتل؟
- القتل كما الحب. هو المرض وعلاجه.
- حزن فقدان الأحبة، ومتعة الانتصار.
- بدأت تفكر إذن.
- لكن، لدي أطفال، والقتال ليس من أولوياتي.
- فلسفة بيت العنكبوت.
(ص 48 الحاجة إلى البحر)
فما بين الوجود والفناء يجري احتدام العنف والسلام، صراع المتناقضين. إيمان بقوة داخلية. قوة لن تتيحها إلا الحواس الداخلية.
على هذا المثنى يظل السرد عند أمين دراوشة وفيا لمبدأ ثنائية الخير والشر.
لتسير كتابته دوما بمنحيين دلاليين محتفية بازدواجيتها.
يقول في قوس قزح:
كان قوس قزح يبهر الأطفال، حتى أصابته قذيفة في قلبه، فتهاوى وسقط، وأضاء إضاءته الأخيرة، وتناثرت أشلاؤه في الشوارع والزقاق والحارات، ولفظ أنفاسه.
الطفل المشاكس والعنيد، رفض تصديق الأمر.
وحدد موعدا لظهوره من جديد.
(ص 117 وجه في ظل غيمة).
هل هناك وجع أكثر من وجع الكتابة؟
ما أقسى الكتابة بدم القلب حين لا تفكر كيف تكتب..
كتابات أمين دراوشة أحلام، كل فلسطيني مغترب وتائه فوق أرضه، كل فلسطيني في غربة المنافي.
كتاباتك تحطيم المسافة بين الحلم واليقظة داخل وخارج المحارة (فلسطين السلبية الممزقة).
أنت والكتابة ذات واحدة يتقاسمان هَمَّ ظلم الأخوة الدين أرادوا ضياع المحارة.
لا تسأل لماذا اختير هذا العنوان “القصة القصيرة ومساحة الظلمة الضوء. اخترته لأن أمين دراوشة ذاتان في ذات واحدة يتقاسمان لغة الظلمة والضوء كما قرأتها في المجموعتين القصصيتين.
- الحاجة إلى البحر
- وجه في ظل غيمة
هكذا قرأت هذه العلاقة الوطيدة بين ذات الكاتب والمحيط الذي يعيش فيه. لأن جدلية الظلمة والضوء في كتابة القصة القصير والقصيرة جدا تسأل الحواس في بناء النص القصصي الذي يجعل من القصة صورة الواقع المعاش والمحتمل أن يعاش. في هذا السياق التفاعلي مع الواقع المعاش لا يبقي الكاتب إلا الفاعلين الأساسيين ليحوزا السبق السردي (الظلمة والضوء).
قال الأديب الفرنسي أندري جيد – André Gide : (إن من فقد بعض حواسه، قد يكون أكثر سعادة من الآخرين، لأنه لن يدرك كل صور القبح في الحياة ، ولن يسمح له خياله بأن يتمثلها ويتعامل بها مع الآخرين).
يقول أمين دراوشة :
جاء بعد طول انتظار. هرول إلى الدنيا باكرا فلم يقض في بطن أمه سوي سبعة أشهر، قذف به إلى الدنيا وهو لا يزال بحاجة إلى المزيد. (ص 5 الحاجة إلى البحر).
وكأن أصوت قنابل العدو المحتل تعجل بولادة الجنين قبل الموعد ليخرج من الظلمة ليرى الضوء… لكن أي ضوء؟
تدل هنا الممارسة في الكتابة على مساحة الظلمة الضوء في قصة بلاد العقلاء، كل واحد منهما يمتلك مغامرته الخاصة.
يقول:
وبينما كنت ألقي محاضرة في إحدى الجامعات، اتصلت معلمة الطفل، وهي تجهش بالبكاء، قائلة: ابنك يا دكتور، صعد إلى أعلى شجرة السنديان. حاولنا بالترغيب والترهيب أن نجعله يهبط دون جدوى، وما يزال يرفض. ضحكت وقلت لها: دعوه، سيهبط حين يشعر بالحاجة إلى البحر. ص7 الحاجة إلى البحر.
الكاتب أمين له نظرة واضحة و دعوة صريحة إلى تحطيم مسافة التفكير بينه وبين قارئه ليصبح القارئ والنص المقروء صورة واحدة لزوبعة في مراتع صفحات مجموعته القصصية، فيعيش أحلام اليقظة في صورها الشاعرية.
يقول:
في هذا الصباح لا يتمنى سوى أن يكون كالريح تهز الجبال، والمنازل، والنفوس المريضة، يرغب في إلقاء الأفكار السوداوية والرديئة بعيدا. يحاول أن يلقي حمولته الضخمة في البحر كي يستطيع التحليق نحو الجبال، وصوب السماء المضيئة، فمنذ كان طفلا لا شيء شده مثل التحديق في الغيوم التي تحمل في أحشائها الندى والخير.
يبحث عن التخلص من مدينة يباب وقلب يعوزه الحب.
يبحث عن حق ضاع ونهب فلا يمكن للحق أن يعود بالأماني وأيدي الغير، الحق المسروق يستعاد بأظافر أصحابه لا بالضعف. فإن هزمت لا ينظر إليك أحد، وستموت قفرا دون مدد، لا تكن بطيء الحركة، وسريع الخلل. والخراب، لا تنظر إلى الوراء الذي يشدك نحو سراب بل كن كأسراب الطير ترحل أنى شاءت، وتحمل أفكارا سعيدة تطلقها بحرية لتملئ الفضاء.. (نبض: ص80 – 81 وجه في ظل غيمة)
كاتب لا يكتب إلا عن الظل، ظل الإنسان الذي يعيش تحت ظلم الاحتلال.
إنها شذرات الحقيقة المؤلمة مجسمة في صور صغيرة وكبيرة يعيشها الإنسان الفلسطيني.
يكتب بما تمليه عليه الظلمة والضوء و صدى الصور. فتتمرد المشاعر على كل الحقائق المعاشة بلغة شاعرية جميلة غير جافة. حكيه ليس عاديا. لقد تجاوز القالب الكلاسيكي القديم. يكتب من خارج الحلقة المغلقة إلى عالم جديد.
كتابة تائهة بين الدم والماء ومعلقة بين المتعة والألم.
يقول:
كان الطلاب داخل الغرفة في حالة هيجان، يغنون ويرقصون ويتنططون.
دلف إلى الغرفة، عاد الطلاب إلى مقاعدهم، ونظروا باندهاش إلى القادم الجديد.
أمسك الطبشورة، وكتب وسط اللوح
- الجوع…
سأل الطلاب عما توحي به الكلمة إليهم.
ارتفعت الأصابع طالبة الإجابة.
- الجوع يعني الحلم باللحم الأحمر.
- الجوع هو الحاجة إلى النوم.
- الجوع كفر.
- الجوع مذلة.
- الجوع نهاية الطريق.
- الجوع بداية السير على الدرب الصحيح.
- الجوع فلسفة الأغنياء.
- الجوع كنز الفقراء.
………
رن الجرس معلنا نهاية الحصة، صرخ الطلاب بصوت واحد:
- ماذا يعني الجوع يا أستاذ؟
قال:
- الجوع.. الجوع.. الجوع.
قال الطلاب بصوت واحد:
- نعم يا أستاذ.
أجاب:
- الجوع يعني أن لا تكون نفسك.
(ص 49) مدرس
إنه لا يكتب إلا ما سوف يعطي للقارئ قوة التمرد على كل الحقائق المزيفة، في خلط متقون للواقع والمتخيل. تمردا يدفعه دفعا لطرح الشيء ونقيضه، وهو تفكير عقلاني وإحساس وجداني.. للبحت عن أجوبة قد يضعها القارئ. إنه الذات الحائرة تستدعي كثيرا من الأفعال وردتها.
يقول في وقت متاح:
بعد أن عجز عن معرفة ذاته، لف نفسه كسيجارة حشيش، وامتصها حتى غاب عن الوعي، عندها مرت سنوات حياته كشريط سينمائي طويل ومضجر وبلا نهاية… تخللته لحظات غضة…
قال لنفسه الطائرة:
- مازال هناك وقت، أجل. وأخد يجهز حقيبة السفر…
عندما وصل لم يجد سوى قبرها الصغير ورسالة له، مكتوب فيها جملة واحدة تتكرر:
مازال هناك وقت متاح
مازال هناك وقت متاح
مازال هناك وقت متاح
لا أحد يكتب لنفسه. الكاتب أمين دراوشة يكتب لمن يتقاسمه هاجسه الإنساني قبل الفلسطيني لأن الفلسطيني جزء من الإنساني. يصنع الكلمات لتصل المبتغى في شساعة المعنى وقدرتها على تجاوز ضيق الفهم.