الكتابة والمقهى / نسائيا


الحديث عن الكتابة وطقوسها رهين بالفضاءات التي يكتب فيها الأدباء والمثقفون. فهي تلعب دورا كبيرا على مستوى حالتهم النفسية المرتبطة بنوعية الفضاء، والمدة الزمنية التي يقضونها بين أحضان الكتب، وحضور تحركات  القلم، إما بين أيديهم أو تحت ركام المسودات أو بين رحابة الأوراق البيضاء. إضافة إلى نوع العلاقة بينهم وبين بيوتهم أو المحيط الخارجي لها.

فالكثير من الكتاب والأدباء عالميا، وبأريحية تامة، وعن قناعة فكرية عميقة، اختاروا الكتابة في بيوتهم كخلوة نفسية ، يدخلون من خلالها إلى عزلة أخرى، تأخذهم بصفاء ذهني إلى وحدة الانكباب على القراءة، وتحلق بهم في عوالم التخييل،حتى يصلوا إلى مرحلة الألق التام. هذا الألقيدفعهم إلى الإحساس بنشوة الرغبة في تفريغ صرخات إبداعاتهم على الأوراق البكر، والتحمس أكثر إلى رغبة دفينة تتوهج  بين يدي القارئ.

كما نجد أن العديد من الكتاب ارتبطوا ببيوتهم نظرا لعلاقتهم بأثاثها وديكوراتها، ومكتبتهم ومكاتبها، أما الموسيقى التي يحبون الاستماع إليها فهذا له دوره كذلك. إضافة إلى شرفات البيوت المطلة على فضاءات خضراء لهم ذكريات جميلة فيها كما فعلت الكاتبة كارين بيلكسون حينما طلبت دفنها تحت شجرة في حديقة بيتها. كما استقبلوا أصدقاءهم فيها بكل حرية، ونسم نوع عطرهم هواءها كبيوت إميل زولا واونوريه دي بلزاك،  ومارغريت دوراس وفرجينا وولف، وسلمى لاجيرلوف وغيرهم …

وفي مقابل ذلك هناك من اعتبر بأن البيت أو المكتب أماكن تقيد حريته الإبداعية، وتحاصر مخيلته، وتجعله أسير جدرانها الباردة،  فوجد ضالته المنشودة  إبداعيا  في فضاءات أخرى خارجية، خلقت له التوازن النفسي ومكنته من  التأمل والتفكير والكتابة بدون قيود المكان، ومن ذلك الحانات والمقاهي.

فالمقاهيبصفة خاصة، ساهمت بشكل كبير في جميع الدول بخلق حركة ثقافية وإبداعية مهمة، منفتحة على العالم الخارجي المرتبط بمختلف شرائح المجتمع. وبالتالي شكلت مكانا خصبا وحميميا لإبداعات هؤلاء الكتاب. وأحيانا جزءا مهما من فضاء شخصيات رواياتهم أو قصصهم وقصائدهم أو عناوينها كما عند نجيب محفوظ ومحمد شكري وبدرشاكر السياب والبياتي وغيرهم من الكتاب…دون أن ننسى أن هناك من المقاهي من ارتبط اسمها بالعديد من أسماء الكتاب عالميا، وأصبحت ملتقى المبدعين من كل صوب.

الجالسون في المقهى يختلف وجودهم من شخص إلى شخص لا على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو مستويات أخرى. أما الكاتب فهو شخصية متفردة لا يشغل نفسه بصخب الضجيج والإزعاج الذي تحدثه بعض عينات المجتمع الموجودة باستمرار هناك. فأفكاره يحتك بعضها ببعض في عالم أخر بعيد عن واقع المقهىالصاخب  إما بالموسيقى أو حديث الزبناء أو مباريات كرة القدم على شاشات التلفزة وغير ذلك…بمعنى أنه يكون في عزلة تامة داخل بوثقة الضجيج، إذ يصبح بينه وبينهم حجاب متين لا يستطيع أي صوت اختراقه أو التشويش عليه،إلا عندما ينتهي من سفره الفكري برغبة منه وبحذر تام.

فهو يكون دائم الاحتكاك بأفراد المجتمع. لأن المقهى تمكنه من مشاهدة اليومي، والتقاط تفاصيل الشارع،ورصد حركته بطريقة مباشرة. حتى أن منهم من ينسى نفسه زمنيا ولا يفكر في العودة إلى البيت، إلى درجة  الرغبة في التحرر من كل مسؤوليات الحياة وتبعاتها. فمتعة الكتابة في المقهى  تساهم في غزارة إنتاجه، تنأى به عن الضغط والألق الدائم الذي كان يعيشه سابقا، أي قبل تفريغ شحنة أحاسيسه وأفكاره في عمل إبداعي جميل  يحس القارئ بأنه جزء منه.

عندما تحدثنا عن الكتابة وفضاءاتها كتوطئة لهذا الموضوع تحدثنا عن علاقة الكتاب ببيوتهم، وذكرنا أسماء بعض الكاتبات، والتاريخ الأدبي  يشهد على ذلك في  المجتمع الغربي. أما في المجتمع العربي فالأمر مختلف تماما نظرا لتركيبة هذا المجتمع، وتميزه بالمحافظة واعتبار الفضاء الخاص بالمرأة هو البيت، وبالدرجة الأولى الاهتمام بالأسرة والعائلة. فهناك مثقفات تبتعدن عن الكتابة مكرهات، وتتفرغن لمسؤولية تربية أطفالهن، حتى يكبرن  ثم تعدن إليها  من جديد. لتبقى الكتابة في المرتبة الأخيرة بعد هذه الأولويات الضرورية.  إضافة إلى غياب مقاهي يمكن لهذه المرأة الجلوس فيها دون إحساس بالإحراج.

أما نظرات الناس التي تراقب المرأة في الشارع، وغياب الأمان في بعض المناطق،والتقليل من احترامها، فهي عوامل ساهمت في غيابها عن المقهى الذي يبقى في الأصل مكانا للعموم، وليس حكرا على الرجال وحدهم. 

هذا كان إلى عهد قريب. أما الآن، فنسبة من النساء اخترقن فضاء المقاهي،خاصة مع التحولات التكنولوجية التي يعرفها المجتمع العربي، كاختراق الهاتف النقال والحاسوب أغلب البيوت .وجعلن منه فضاء لتهيئ بعض أعمالهن المهنية واللقاءات الشخصية والعائلية. إضافة إلى أنه تحول إلى فضاء للحوار بين مختلف شرائح المجتمع، حول أهم القضايا التي تهم البلد. ولم يعد في جلوس المرأة في بعض المقاهيأي إحراج، لانتشارها ونشوء منافسة قوية بينها حول جودة فضائها الداخلي من أجل إرضاء زبنائها.

ورغم كل هذه التغيرات الاجتماعية والثقافية ،فهناك نسبة كبيرة من النساء المثقفات،لم تتمكن من  الكتابة في المقاهي كالرجل المثقف الذي يحمل هم الكتابة مثلها، نظرا للعوامل التي ذكرناها سابقا. كل ذلك يكون حاجزا قويا بينها وبين المكوث وقتا طويلا فيها من أجل الكتابة، والعودة مرة أخرى لاستكمال ما بدأته من جديد أو في أي لحظة مخاض إبداعي جديد. لذا فالكثير من الكاتبات يكتبن في بيوتهن وأنا منهن .

أما الحديث عن المقاهي الأدبية، فهو حديث بنكهة أخرى. لأن أغلب مدن المغرب تعيش هذه النهضة الثقافية بامتياز، سيرا على منوال ما هو منتشر في أوربا. فهي بادرة طيبة وفكرة محمودة. لكونها تساهم في تحريك الركود الذي يعرفه المشهد الثقافي في عدة مدن، وتخلق نوعا من التواصل بين الكتاب والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي.

أما حضور المرأة المثقفة في هذه المقاهي الأدبية كضيفة مبدعة أو مكرمة،  فهو حضور مشرف لها لأنه يعرف بها ككاتبة، ويخلق ديناميكية معرفية،حول آرائها وإصداراتها أثناء التوقيعات. وتخلق نوعا من التواصل بين الكتاب والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، إضافة إلى التعريف بإصداراتهم، ولفت انتباه الجالسين في المقاهي إلى أن هناك شيئا جميلا سوف يتقاسمه الجميع ساعتها ثقافيا، مع رائحة القهوةالمنسمة بعبير كلمات الأدب، وشذى أحلام نون النسوة.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“القضيّة الفلسطينيّة بحاجة إلى احتفاء شعريّ عربيّ” د.سامية غشير ـ الجزائر

لقد كانت القضيّة الفلسطينيّة تيمة رئيسة في الأعمال الأدبيّة العربيّة (الشّعريّة والنّثريّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات