لطالما كانت اللغة شأنا فلسفيا وعلميا وأدبيا ملحا، فقد تداولتها الفلسفة في مبحثي المعرفة والقيم، ونادرا في مبحث الوجود، ولم ينتبه نظارها إلى أهميتها القصوى إلا في القرن العشرين الذي كانت أغلب فلسفته حول اللسانيات والتواصل، وتأثير اللغة على الفكر، ومسارات الخطاب والحجاج…أما العلماء التجريبيون فقد كانت وسيلتهم لترميز وتبليغ مكنونات مختبراتهم ونتائج نظرياتهم.
وحدهم الأدباء والشعراء كانوا ومازالوا يعيشون في أكناف اللغة ويعتبرونها شرط وجود، وليس وسيلة تواصل فقط، قد يعد البعض ذلك وليد خيالاتهم الواسعة، وسليل نفاذ بضاعتهم مما سواها، بل قد يبالغ المادي الذي لا يؤمن إلا بما يشبع بطنه، ويملأ كيس مشترياته فيقول: إنها ترف الأدباء ومساحة لا جدواهم. وإني أستأذنكم معاشر أهل القصيدة والقصة والمقامة أن أحاول إعادة هؤلاء وأولئك إلى رشدهم، فأقول إن بضاعتكم هي فعلا شرط وجود حقيقي، فاللغة التي تنسجون بها قوافيكم وترصعون بها خطبكم تنسج وجودكم خصوصا إن كانت لغة الضاد.
في البدء كانت اللغة
ليعرف من لا يعرف في البدء كانت الكلمة؛ خلق الله تعالى أول ما خلق القلم وأول ما أمره به أن اكتب، فقد روى سيدنا عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، فقال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، ولولا أهمية اللغة لما أمر بالكتابة، وأول ما نزل من الوحي على أمة العربية “اقرأ”، والقراءة واللغة لا يوجدان إلا معا، والإسلام شرطه الأول كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ووعيد الله تعالى لم يلحق إلا من ترك هذه الكلمة، بل إن أمر الله تعالى نفسه كلمة “كن فيكون”، حتى قال بعض المتصوفة وهل نزل من السماء إلا الكلام؟
كون اللغة هي مساحة الوجود الحقيقية ليست بضاعة قاص حالم، أو استعارة شاعر هائم، بل هي أفق لازم، لوجود إنساني حائر، يبحث عن إنسانيته؛ فيه، في أشيائه، في صمته، فلا يجدها إلا في كلماته، إنها اللغة التي جعلت الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين يتربع على عرش الفلسفة في القرن 20 رغم أنه لم ينشر طيلة حياته إلا كتابا واحدا في حدود 70 صفحة “التراكتاتوس”، لكنه كتاب همه الأساسي “اللغة” وعلاقتها بالوجود، لقد ورث هذا الفيلسوف العالم كنزا من المعرفة كان غافلا عنه ملخصه: “كل شيء يحدث داخل اللغة”، “التفكير مسموح به في نطاق اللغة فقط وما سيقع على الجانب الآخر من هذا الحد سيكون ببساطة هراء”، بل لا أجمل من قوله “حدود اللغة هي حدود العالم”.
ولئن كانت اللغة هي حدود عالم هذا الفيلسوف فهي عند شعراء العربية ذاتنا نفسها، “إنما نحن سطور كتبت لكن بماء” هكذا قال جبران، و “أنا لغتي” كما قال محمود درويش، و “ما الدهر إلا من رواة قصائد المتنبي” فإذا “قال شعرا أصبح الدهر وراءه منشدا”.
محمود درويش يلخص القصة
اطلعت على كثير مما قاله الفلاسفة عن حدود امبراطورية اللغة وعلاقتها بالوجود، فرأيت منهم المقلين والمكثرين لمكانة اللغة في شأن الوجود، إلا أني وجدت لغتهم نفسها تخونهم أو يخونونها في التعبير، حيث لم تقف نفسي على ما يشفى غليلها في هذا الموضوع حتى قرأت قصيدة محمود درويش قافية من أجل المعلقات، فأدركت أن الشاعر العربي قد يتفوق على الفيلسوف ويتوفق في التعبير عنه أكثر منه، قال محمود درويش ملخصا سلطان اللغة:
ما دلني أحد علي أنا الدليل أنا الدليل
إلي بين البحر والصحراء من لغتي ولدت
…
من أنا؟ هذا
سؤال الآخرين ولا جواب له أنا لغتي أنا
وأنا معلقة… معلقتان… عشر هذه لغتي
أنا لغتي. أنا ما قالت الكلمات
لا أرض فوق الأرض تحملني، فيحملني كلامي
طائراً متفرعاً مني،
هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري.
حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى،
ومعدني الصقيل
…