Exif_JPEG_420

“المؤسسة الروائية العربية الأولى..تأملات في مجلة الجنان”حسن لمين /المغرب

   سأحاول في هذه الدراسة المتواضعة الرجوع أدراجا إلى الوراء، قصد النبش في المحاولات الجريئة الأولى التي قامت بها بعض المجلات العربية القديمة، وقصد استعراض بعض القناعات حول تاريخ تشكل أول مؤسسة أدبية عربية احتضنت ذلكم الجنس الأدبي الجديد الذي بدأت بوادره آنذاك تلوح في الأفق العربي،  بعدما تم الانفتاح على الغرب عن طريق ترجمة أول كتاب شبه روائي عام ،1867 وهو ” تيليماك “لكاتبه فنلون الذي ترجمه رفاعة الطهطاوي. وهذا يعني أن اطلاع الكتاب والقراء العرب على الرواية الأوربية كان في ذلك التاريخ . وبعده بثلاث سنوات أي سنة 1870 سيبدأ التأليف الروائي العربي على يد سليم البستاني على صفحات مجلة “الجنان”، حيث سينشر روايته الأولى ” الهيام في جنان الشام ” متسلسلة في أعداد تلك السنة، فكانت مجلة “الجنان” بذلك المجلة العربية التي يمكن اعتبارها أول مؤسسة فتحت أحضانها لهذا الجنس الأدبي الجديد الذي بدأ يتكون .

   كيف اشتغلت إذن مجلة “الجنان”؟ ومن هم روادها؟ وما وظيفتها وأهدافها؟ هذه بعض من الأسئلة التي تحاول من خلالها هاته الورقة البحثية الاقتراب من تلكم المجلة الرائدة .

   بطاقة تعريفية بمجلة “الجنان” ومحررها

   مجلة “الجنان” أصدرها بطرس البستاني في أول سنة 1870، وكانت مجلة نصف شهرية واتخذ لها شعار ( حب الوطن من الإيمان ) وكانت “الجنان” أول مجلة عربي فرضت نفسها بشكل كبير في الساحة الإعلامية آنذاك. ويقول الدكتور محمد يوسف نجم بأنها ” كانت منارا يعشو إليه بصر كل من تحدثه نفسه بإصدار مجلة علمية أدبية في القرن الماضي كأصحاب المقتطف والهلال والضياء ” (1). وكانت أغلب مقالاتها ينشرها سليم البستاني، وخاصة السياسية والأدبية، وكانت مجلتنا هذه أول مجلة في العالم العربي أولت اهتماما واضحا ودقيقا للقصص والروايات. ومن أجل ذلك خصصت بابا لنشر الكتابات القصصية، كما أنها حملت العالم العربي رسالة ثقافية وإصلاحية فاعتبرت بذلك منبرا تتنافس فيه أقلام الكتاب الكبار، ولعل أهمهم إبراهيم اليازجي وسليم البستاني وإبراهيم الحوراني وإبراهيم سركيس وجميل مدور وغيرهم كثير. ويذكر محمد يوسف نجم أنها نشرت عددا من الكتب منها “تاريخ حرب فرنسا وألمانيا” لجورجي يني و”تاريخ عام قديم” و”تاريخ فرنسا الحديث” وسواها (2).

   بعد وفاة بطرس البستاني سنة 1883، انتقلت إدارة المجلة إلى ابنه سليم البستاني، وبعد وفاته سنة 1884، تولى إدارتها أخوه نجيب البستاني، ثم توقفت نهائيا عن الصدور سنة 1886.

   أما عن محرر المجلة، فقد ولد في “عبية” سنة 1848، ودرس العلوم على كبار الأساتذة في أيامه، ومن أهمهم الشيخ ناصف اليازجي زعيم المحافظين في عصره، وتعلم اللغات التركية و الإنجليزية والفرنسية، وفي سنة 1862 التحق بقسم الترجمة في القنصلية الأمريكية بدلا من أبيه الذي انتدبه لنيابة رئاسة المدرسة الوطنية التي أنشأها سنة 1863، وأسند إليه تدريس اللغة الإنجليزية للصفوف العالية .

   وعندما أنشأ أبوه مجلة “الجنان” تولى هو تحرير مقالاتها المهمة، وكان يلحق بكل عدد جزءا من قصة طويلة تكفي المجلة طوال العام، كما أنه أسهم في تحرير صحيفتي “الجنة” و”الجنينة”، فكان في أعماله الصحفية والتعليمية مثال الشاب الناضج المكتمل المواهب. وقد ساعد أباه في إنشاء دائرة المعارف، علاوة على أنه ألف قصصا وأقاصيص كثيرة وعددا من المسرحيات منها ” الإسكندر” و ” قيس وليلى “، غير أن الموت أوقف مسيرة سليم البستاني وهو شاب، حيث توفي بسبب احتقان القلب في قرية “بوارج” سنة 1884 .

النشاط الروائي لمجلة الجنان

   كما ذكرنا في مستهل هذه الورقة البحثية كان سليم البستاني من أنشط كتاب الرواية في المجلة فكان بذلك صاحب الريادة في هذا المجال، حيث نشر وحده تسع روايات هي على التوالي (3) :

1- الهيام في جنان الشام : نشرت متسلسلة في أعداد المجلة لسنة 1870   

2- زنوبيا : نشرت كذلك متسلسلة في أعداد 1871   

3- بدور : نشرت متسلسلة في أعداد 1872

4- أسماء : نشرت متسلسلة في أعداد 1873

5- الهيام في فتوح الشام : نشرت متسلسلة في أعداد 1874   

6- بنت العصر : نشرت متسلسلة في أعداد 1875

7- فاتنة : نشرت متسلسلة في أعداد 1874   

8- سلمى : نشرت متسلسلة في أعداد 1878-1879

9- سامية : نشرت متسلسلة في أعداد 1882- 1883- 1884

ولم يكن أحد في ذلك العهد يأخذ على عاتقه مهمة وضع القصص والروايات على هذا النحو الدؤوب المتواصل كما فعل سليم، ومن هنا يحق لنا القول إن مجلة الجنان ومحررها سليم البستاني، أول من رسخ أمر الاهتمام المتواصل بالفن القصصي والروائي في شكله الحديث المستورد من الغرب. وقد أدى الدور الكبير الذي قامت به الصحافة في مساندة المدارس والمطابع إلى ازدهار فن الرواية وتطوره وانتشاره وإثارة الاهتمام به وجعله محور التقاء القراء المتعطشين لمعانقة هذا اللون الأدبي الجديد .

   إن مجلة الجنان من أولى المجلات التي حاولت أن تنشر ما يشد القارئ الجديد إليها، ولذلك نجد سليما البستاني يسعى إلى جلب القراء نحو قراءة الروايات، حيث يقول في مقدمة روايته الأولى : ” كم من فائدة تاريخية يحصل الإنسان عليها بواسطة الروايات، فيكون قاصدا الوقوف على خير المتحابين، فيعثر بحقيقة تاريخية أو نتيجة حكمية أو إصلاح أو تنكيت يلزمه أكثر من غيره، فالضجر في الكلام عن هذه الأمور في بلاد ظروفها كظروف بلادنا خطأ عظيم ”  .

   وفي مقدمة روايته الثالثة نجده يرد على الآراء التي كانت تحرم هذا الجنس الأدبي الجديد بدعوى أنه يفسد أخلاق الشباب بالحكايات الغرامية، واعتبره بعضهم مضيعة للوقت، يرد البستاني قائلا : ” وفي هذه الروايات كتابة موافقة لمشرب الشبان مع المحافظة على الآداب، ومجانية كل ما يهيج الأميال الفسادة، والتحريض على ما يحملها إلى طلب الغرام الطاهر ” .

   لقد كان نشر الرواية إذن أهم وسيلة لجلب القراء إلى صفحات “الجنان”، هذه الوسيلة التي قاومتها بعض الصحف الجادة الأخرى، ولم تعرها أي اهتمام، ولكنها سرعان ما أعادت النظر في ذاتها فاستجابت للذوق العام ورغبة القراء، فبدأت تخصص للرواية أبوابا كما تفعل “الجنان” التي أرصت الأصول وقعدت القواعد لمحتويات تلك الصحف .

   إن مجلة “الجنان” مؤسسة روائية تخرج منها إلى جانب سليم البستاني مجموعة من القصاصين والروائيين نذكر منهم : نعمان قساطلي وسعد البستاني ونجيب البستاني وإدليد البستاني وجميل نخلة وخليل سعد …وقد ظلت هذه المؤسسة تحتضن أمثال هؤلاء الرواد في فنون القصة والرواية طيلة فترة صدورها، الشيء الذي جعلها نموذجا يحتدى به حتى بعد توقفها عن الصدور ووفاة صاحبها . وكان رواد هذه المجلة هم أول من اقترح مصطلح “رواية” لهذا الجنس الأدبي الجديد، وتشبثوا به وفضلوه على مصطلح “قصة” هذا الأخير الذي يرى بعض النقاد العرب أنه أدل على المعنى في التراث الإسلامي العربي بينما مصطلح “رواية” هو وقف على الأحاديث النبوية والشعر والتاريخ. ويفسر هؤلاء النقاد هذا التشبث بمصطلح “رواية” بنشأة أولئك الرواد وتربيتهم المسيحي وبعدهم عن التراث الإسلامي.

   وقد سار على نهج مجلة “الجنان” مجلات مثل المقتطف والهلال والضياء والمشرق وغيرها، حيث كرست بدورها الاهتمام بالرواية، وهكذا لا يسعنا إلا القول إن مجلة الجنان هي ” الأم الرؤوم التي احتضنت هذه الناشئة الصغيرة (الرواية) وتعهدتها وأنمتها..وطافت بها في مجالات ضيقة حينا وواسعة أحيانا.. حتى فرضتها بملامحها الجديدة على الجيل الجديد ” (6) .

   إن اللبنانيين هم أباء الرواية الشرعيين منذ ظهرت على صفحات “الجنان” سنة 1870، هذه المجلة التي يمكن اعتبارها أول مؤسسة أدبية في العالم العربي زرعت البذور الأولى للرواية العربية في لبنان من خلال روادها الذين حملوا هذه البذور إلى أرض مصر. حيث كانت الانطلاقة الحقيقية، وحيث عرفت الرواية سبيلها إلى التطور والارتقاء .

هوامش

(1) محمد يوسف نجم.القصة في الأدب العربي الحديث.دار الثقافة.بيروت. الطبعة الثالثة.1966 صفحة 42 

(2) نفس المرجع . صفحة 43

(3) عبد الرحمن ياغي. في الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ.المؤسسة العربية للدراسات والنشر.الطبعة الثانية. 1981. صفحة 29-30   

(4) علي شلش.نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث.مكتبة غريب.1992. ص19

(5) نفس المرجع. صفحة 25

(6)عبد الرحمن ياغي.المرجع السابق. صفحة 38

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات