…نشأ مصطفى في أسرة فقيرة جدا بأعالي الجبال، كان ذو أخلاقا رفيعة ويحبه الجميع، يعجبني كثيرا أنا أيضا، لأنه يقرأ باستمرار وبانتظام، كان يحب البسطاء والمقهورين، كان حلمه الوحيد هو أن ينصف الفقراء وكل سكان الهامش ويرفع الحيف عنهم.
ذات مساء شارك في تظاهرة في حي شعبي بإحدى المدن المعروفة بالنضال، وكان إلى جانب أخرون هم من يتزعموا هذا الحراك، كانت الحشود تتقاطر على التظاهرة لأنها تصرخ ضد الحيف والظلم والطبقية …وغيرها كثير من الشعارات. ظلت الشعارات تسمع في أنحاء المدينة تقريبا، وكل ذلك الصراخ العالي جدب العديد من الأفراد خصوصا الشباب منهم للمشاركة في التظاهرة.
كان مصطفى يرتدي في ذلك المساء معطفا بنيا، وعندما انتهت تلك التظاهرة قرأ مصطفى لتلك الحشود البيان الختامي لذلك العرس النضالي، بعد الانتهاء دعني إلى المقهى رفقة بعض زملائه، لكنني كنت خائفا من تبعات هذه التظاهرة فرفضت الدعوة، وقدمت لهم اعتذار.
بعد أن جلس بمعية رفيقته، وبعض الإخوة، كانوا يشاهدون بعض الصور التي صورها أحد زملائه، وفي رمشة عين وقف رجل ضخم بالقرب منهم، وبعد أن قدم التحية لهم، وضع يده على كتف مصطفى، وقال له:
– معذرة هل أنت مصطفى؟.
رد مصطفى على السؤال بالإيجاب، وقال له:
مرحبا أنا شرطي يمكنك القدوم معي، وهناك صديقين لي يجلسان في الركن بالقرب من التلفاز، ونحن نعرف أنك بعد الانتهاء ستأتي إلى هذه المقهى مع رفاقك، والآن يمكنك القدوم معنا دون أن يحدث ضجيجا في المقهى، نحن تلقينا أمرا بأن نعتقلك، وكما تعلم فكل عناصرنا تحيط بالمقهى التي نتواجد فيها الآن . بعد ذلك حاول رفاق مصطفى أن يتحدثوا معه لعل وعسى يتمكن من أن يهرب من قبضة الاعتقال، لكن دون جدوى، كان الضجيج والضوضاء يعم بالمكان.
لا أحد يستطيع التحدث. لأن الأمن له سلطة في البلاد تفوق كل واحد منا، وبعد اقتياد رفيقهم. وظل أصدقاءه ورفيقة دربه يراقبونه في تعقب وتركيز إلى حين دخوله سيارتهم تحت عنف وقوة، وصاحت رفيقته، وقد بدات عليها علامات الحزن:
– لك ولنا الله يا رفيقي، فالاعتقال شيء حتمي، فالآن حان دورك لتقدم ضريبة الدفاع عن عموم الكادحين وكل المضطهدين، وغدا لربما يأتي دورنا.
حوكم على مصطفى بخمس سنوات سجنا، كانوا أصدقائه وصديقاته يزورنه بين الفينة والأخرى، وذات مساء أخبره حارس السجن بأن زائرا ما ينتظره في غرفة الزيارة لم يفكر مصطفى قط في أن يحمل ذلك التقرير الذي كتبه عن السجن.
ظل صديقه سمير ينتظره في تلك الغرفة المخصصة للزيارات، وفجأة ظهر مصطفى، وبعد أن سلم عليه مصطفى، جلسا سويا وسأله سمير:
– كيف هي الأوضاع هنا بالسجن، وهل يتعاملون معك كباقي السجناء؟
ضرب عرض الحائط قلقا على نسيانه ذلك التقرير الذي أعده سلفا، وأخبره بأنه كتب تقريرا مفصلا عن السجن ومعاناة السجناء وأشياء أخرى، وأكد له بأن هذا التقرير يجب أن ينشر في الصحافة، وأن ذلك لن يكون إلا بالتنسيق مع أحد الأصدقاء ليأتي غدا ليزوره ومن ثمة سيعطيه له.
جاء “عزيز” في اليوم الموالي للزيارة، وضع مصطفى ذلك التقرير في حذائه مخافة من أن يكشف أمره، ويعاقب على هذا العمل المخالف للقوانين الجارية به العمل داخل السجن، ظل قلبه ينبض بدقات متسارعة، هكذا كان حال مصطفى حتى خرج من الباب المطل على غرفة الزيارات وقال في نفسه:
الحمد لله وأخيرا سينشر التقرير على صفحات الجريدة الأكثر مبيعا، وسيعرف جميع القراء الوضع الكارثي الذي يعيشه السجناء.
بعد التحية، تعانقا مصطفى وعزيز بعد غياب طويل واشتياق لبعضها البعض، كاد عزيز يذرف دمعا، تبادلا أطراف الحديث لمدة ساعة، وقبل أن ينسى مصطفى مد له ذلك التقرير باحترافية كبيرة وهمس له في أذنه:
-هذا التقرير أريده أن ينشر في كل الجرائد التي تعرف يا رفيقي، فلاشك وأنك لديك معارف كثيرة عن الصحفيين ومنشأتهم، هيا إلى اللقاء، هيا تصرف كما عهدناك دوما، فأنت شجاع وخلوق، وتعرف الجميع ويعرفونك أيضا، إذا تصرف باحترافية.
اتصل عزيز بصحفي معروف كان يتعامل معه في السابق وكان ذلك هو يوم الأربعاء، وأخبره عن وجود تقرير مفصل ودقيق يتحدث عن أوضاع السجن والسجناء، وهو كتب من طرف أحد معتقلي سجن المدينة، فأعجبه الأمر فوعده بالنشر في يوم الجمعة بعد أن يقوم بإرساله، وفي صبيحة الجمعة وعلى الساعة الحادية عشر صباحا، تم اقتياد مصطفى إلى السجن الانفرادي، ولم يعرف السبب في ذلك، لكن بعد مرور نصف ساعة تذكر التقرير وصرخ عاليا:
– من يفترشون الأرض لا يخشون السقوط، هكذا حالنا الكادحين.
بقلم : اوركو محمد
سلمت أناملك أستاذنا الغالي …