المعرفة الأدبية : الخصوصيات والوظائف

د.حسن بوعجب| المغرب

إذا ما اتفقنا على أن المعرفة من حيث التصنيف مقسمة إلى ثلاثة أنواع: المعرفة الحسية التجريبية والمعرفة الفلسفية والمعرفة العلمية، إذا ما على هذا اتفقنا فإننا نكون قد اجمعنا على أنه لا وجود للمعرفة الأدبية بالشكل الأكاديمي والعلمي المتعارف عليه، إلا أنه ألا نلاحظ اشتمال الأعمال الأدبية على المعرفة بشكل من الأشكال؟ بلى فالنصوص الأدبية حبلى بالمعارف والمدارك الإنسانية وان كانت غايتها تحقيق متعة خالصة أو خدمة إيديولوجية خاصة، ولنأخذ على سبيل المثال كلا من الشعر والرواية، فالأول إذ نتفحص بعضه نجده محتويا على بعض الشذرات  الفلسفية مثلما نلفيه في شعر المعري وغيره من الشعراء المتفلسفين، لكن دون  أن ترقى به إلى درجة المعرفة الفلسفية المنظمة ، وكذلك الأمر بالنسبة للرواية التي حتى وان قصدت إلى تحقيق متعة خالصة فإنها لا تنفصل عن المعرفة  بحيث تكمن في الجوانب الجلية والخفية للنص الروائي سالكة المنعرجات مازجة العقلي بالأسطوري   والتجريبي بالمقروء.

          وهكذا تتجاوز المعرفة الادبية  المنطق العادي للمعرفة العلمية المنظمة باسم الغايات الجمالية والايديلوجية التي ترومها ، ولذلك فان حضور المعارف في الرواية خاصة وفي الأدب عموما غالبا مايطاله _ ليس بالمفهوم القيمي القدحي_ التشويه والتشتيت بحكم ما تمليه غايات واكراهات وإغراءات الكتابة ،فعلى سبيل المثال كثر ما وجدنا في رواية من الروايات حضور الوثيقة التاريخية لكنها في الأغلب تأتي معدلة  أو مبتورة، ذلك لان الروائي لا يكون هدفه وهاجسه الأسمى  أن يوثق أو يؤرخ، بقدر ما يكون التفنن في طريقة إيصال فكرة معينة في قالب جمالي متميز مثير للنشوة الفنية، مهما كلف ذلك من تلاعب بالمادة المعرفية  الأصلية المستوحاة .

          إن أي عمل أدبي بهذا الشكل يستهدف على كل حال ومنذ البداية اللذة والمعرفة معا، أي اللذة معرفة والمعرفة تستطيع ويجب أن تفضي إلى أشكال من اللذة، والموازنة بينهما بين اللذة والمعرفة أو التضحية بإحداهما في سبيل الأخرى أمر يحتاج إلى كثير من الاحترافية وسعة النظر، كما يستدعي قارئا قادرا على تلمس العلائق الموجودة بينهما لما تخدم أو تخذل إحداهما الأخرى.

     وعلى أية حال فانه وكما قال الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه الأدب وفنونه،  واضح اختلاف القطعة الأدبية عن بحث متخصص في علم البيلوجيا أو علم الفلك أو الاقتصاد السياسي أو الفلسفة أو حتى التاريخ لأنها:

-أولا :لأنها لا تتصل بطبقة خاصة من القراء فقط بل بالناس من حيث هم أناس رجالا ونساء.

– ثانيا: بينما نجد موضوع البحث يكتفي بأن ينقل المعرفة إذا بالقطعة الأدبية  كيفما كان نقلها للمعرفة يبقى  من أهدفها المثالية إحداث الرضا الفني وذلك بالطريقة التي تنقل بها المعرفة وتقدم بها موضوعها، فالمعرفة في العمل الأدبي لا توظف لذاتها في حد ذاتها كإفادة علمية صرفة بل كوسيلة لبلوغ الغايات الفنية والفكرية، وذلك كأن نصفف مثلا  مجموعة من الفواكه على طاولة لا للأكل بل للتزيين فقط ، زد على هذا أن المعرفة في الأدب يقع أن ترد فيه دون قصد الأديب من خلال الأبعاد السميائية والدلالية لبعض الأوصاف والكلمات ، كما أن هذه المعرفة لمثل هذا السبب وغيره  ليست دائما تكون بادية للعيان بل تحتاج في كثير من الأحيان قارئا  أو ناقدا ، لينقب عنها أو يستشفها أو يستنتجها انطلاقا من    جزيئاتها الخالصة أو مؤشرات مستحاثاتها وضلالها،  محاولا تصفيتها وربطها بمنابعها المعرفية الأصلية بعد ما طالها  من التعديل و التشذيب، توائما مع الموقف الفني الذي استدعى حضورها الرمزي .

 وعلى الرغم من ذلك تبقى محتفظة بقدر لا يستهان به من الصلاحية العلمية إذ تكون رهن إشارة القارئ الناقد ومادة خام في متناول العلماء كالمورخين والانثربلوجيين  وعلماء الاجتماع وغيرهم، لغربلتها وإعادة إنتاجها وفق شروط الحقل العلمي المنظم.

        وعموما فإنه لا يمكن الحديث في هذا الإطار إلا عن “معرفة في الأدب” بدل تصور معرفة جاهزة وصرفة بالمفهوم العلمي،ثم إن هذه المعرفة ليست موحدة بل هي مجموعة من المعارف المتنوعة على هيئة خام وركام لا على شكل نظام كما هو حال المعرفة العلمية ،وإذا كان هناك من نظام فإنه لا يعدو أن يكون سوى التناسق والتناغم الجمالي والفني بين المعارف المقدمة الذي  هو أساس  العملية الإبداعية في الأصل.

       إن المعرفة الأدبية إذن ليس معرفة جاهزة وجامدة بل هي معرفة مفعمة بالحياة تنتج عن ذهن الأديب كما تنتج أيضا عن قلبه، لتكون بذلك أقرب من هذه الناحية إلى المعرفة الصوفية المعتمدة على القلب، إذ تتعطل الحواس وينسحب العقل في غمرة الخمرة الصوفية، فالأديب نجده أحيانا مثل المتصوف باعتماده في تشوف الأمور على الخيال والعاطفة اللذان يعدان من أهم مكونات الأدب، أضف إلى ذلك أن ما يحتويه هذا الأخير من بعد عاطفي يخاطب في الجمهور القارئ قلبه ووجدانه   وروحه بالدرجة الأولى قبل أن يخاطب عقله وأفكاره.

           وإن الأديب كما يستعمل اللغة العادية ليصنع منها تحفة أدبية ذا جمالية وذا سحر جذاب بعد أن ينزاح عن قواعدها ويطوعها ويشذبها أو يفجرها، فإنه كذلك يستغل المعرفة ويعيد إنتاجها مخرجا إياها في حلة وهيئة جمالية أخاذة متلونة بالذات وبالسياق الإبداعي والأدبي، في إطار ما يمكن تسميته ب”الانزياح عن المعرفة الاصلية”- لكن دون ان ينفي هذا امكانية ورود المعرفة في الادب على شكل شذرات وجزيئات أصلية خالصة.

       لكن أذلك يعني ضياع هذه المعرفة وبالتالي عدم جدواها؟ كلا فهذه المعرفة إذ تمر من قناة الأدب العجيبة تصبح أسمى وأرقى بل أجدى نفعا في ولوج العقول لما فيها من دسم يثير القراء ويجذبهم   على عكس كتب العلم التي تصدمهم صرامتها و يقهرهم عنادها ، إذ قليل من يستطيع اقتحامها والعثور على مفاتحها  لفهم عوالمها الدقيقة .

      ويقودنا هذا إلى الحديث عن وظيفة المعرفة التي يقدمها الأدب أمفعولها مثل المعرفة العلمية؟

          هنا بالفعل يحق التساؤل ليس فقط تحديدا لوظيفة الادب التي أسيل عنها الكثير من المداد، بل أكثر من ذلك توضيحا لموقعه في عالم اليوم الذي طغت فيه   بشكل كبير مختلف انظمة العلوم، التي أتت على كل مناحي الحياة دون أن يكون لها ما يرسي طمأنينة االانسان العصري، ذلك لان القلق أصبح من أهم سماته، مما يستدعي الزاد الادبي لتحقيق التوازن للشخصية الإنسانية،خصوصا إذا كنا متفقين  على المثل الفرنسي القائل :  “العلم بدون وعي  ليس الا تدميرا للذات”،وليس بخاف علينا جميعا  أشكال التفرقة والدمار والخراب وأهوال الحروب التي تحيط بالإنسان في حياتنا المعاصرة،  وهنا يأتي دور الادباء في بث وغرس القيم الانسانية في النفوس  والانتصار لقيم السلم والتعايش .

         إن للمعرفة الادبية مفعولا إيجابيا، وإن كان لا يظهر بسرعة وبشكل أتوماتيكي للعيان، ذلك لأن الأدب كثيرا ما كان فرشة للمشاريع الانسانية وتنويرا للعقول وتهذيبا للأذواق، وتعزيزا للمواقف الايجابية في الذوات بل ومظهرا من أرقى صور الاحساس بالحياة والاحتفال بها.

         وفي كل الأحوال يبقى الأدب مفيدا للبشرية سواء بالإمتاع او بالإقناع، لأن أوجه إفادته ليست تنحصر في دائرة الالتزام بمفهومه الحرفي، بل هو مفيد نفسيا أولا وقبل كل شيء، بما يحققه من نشوة تجدد طاقة الانسان، وتنقله الى عالم من الجمال والانفعال، ليتحرر من قيود الحياة من جهة، ومن انفعالاتة من جهة اخرى كما ذهب الى ذلك أرسطو.     ثم إن المعرفة الادبية بما تحبل به من خيال، كانت ولا تزال تمد العلوم بطاقة الابداع والغوص في اعماق التجريد قبل مباشرة الإنجاز، فما قد يتخيله الشاعر قد يصبح يوما ما حقيقة علمية، ولنأخذ تبيانا لذلك قول الشاعر مجنون ليلى:

أسرب القطا هل من معير جناحه     لعلي إلى من قد هويت أطير.    

     فإذا كانت الحاجة أم الاختراع فان الأدب يحصل له أحيانا أن يكرس الوعي بها، ويرسم لنا الاحلام في الفضاء لسدها، وتحقيق المنجزات التي كانت يوما ضربا من الخيال وضربا من المعجزات..

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

«الأردن وغزة.. عام قابل للزيادة» لسميح المعايطة.. قراءة تحليلية

عمَّان- يقدّم الكاتب السياسي، وزير الإعلام الأردني الأسبق، سميح المعايطة في كتابه «الأردن وغزة.. عام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات