“الموسوعية والاستشراف في خطاب المنجرة”أحمد الشيخاوي/ المغرب

إن محاولة مقاربة الإرث الفكري الكبير لعالم المستقبليات الراحل المهدي المنجرة( 1933/2014) لتضع حقا ،المهتمين والدارسين والمختصين ، إزاء إشكاليات كبرى ،وتعدد للنوافذ الفلسفية والوجودية والحضارية التي تلامس صميم هوية إنسان العالم الثالث.

من هذه الخلفية ، التي يحكمها خطاب العقل في التعاطي مع واقع الكائن المهمش والمهضوم والمفتقر لأبسط حقوق الحياة ، خاض المنجرة نضاله ،ذودا عن منبته الأنغلوساكسوني المترع بأبجديات مناهضة الإيديولوجيات الفرانكفونية ،الشيء الذي منح منجزه مصداقية وعلمية كبيرة ، على نحو خاص في حقل القضايا الاجتماعية والاقتصادية.

يثبت اكتشافه للعبة العالم السياسية القذرة، هروبه المبكر من مسؤوليات تقلّدها في العديد من المنظمات الدولية ، بوصفها مجرد أقنعة ،تربي ثنائية التخلف والتطور ما بين الشمال والجنوب،وتعمّق من وجع إنسان العالم الثالث.

بعد أن خبر دهاليز مثل هذه المؤسسات،مثل اليونسكو،  التي لا تحمل سوى الشعارات ،من منظومة مفاهيمية تدّعي الحضارة والرقي البشري ، وتتشدّق برهاناتها ، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة، غادرها إلى آفاق الممارسة الفكرية واستشراف مستقبل البشرية ، فلاقت إبداعاته العلمية الرصينة تجاوبا كبيرا،عربيا ودوليا، خاصة وأنه كتب باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية واليابانية ، فكان من الطبيعي جدا ، أن تترجم له العديد من الألسن ، للنهل والاستفادة من تجربته.

لذا فهو يعد عالما ومفكرا ،قد لا يجود الزمن بنظيره، وجب على الأمة العربية ، بدرجة أولى ، قطف الكنوز والدرر التي دونها ودوزنها بروح منتصرة لإنسان العالم الثالث، مشفوعة بجملة من الحقائق والنظريات،مناديا ومطالبا بتخليق راهن القيم والعدالة والحرية والكرامة،وفك لعنة العولمة الشرسة ،عن الشعوب المستضعفة والمستعبدة ، مثلما رفض الهيمنة الأمريكية والصهيونية والأحادية القطبية ، وغيرها من مفردات الأنانية والنعرات والإمبريالية التوسعية، المؤججة لهذه  الثنائية ، أي جدلية التطور والتخلف بين عالمين،شمال /جنوب.  

نقف عند قولته الشهيرة : [الغرب متغطرس ثقافياً لأن فضاءه الزمني التاريخي محدود. حين تذهب إلى العراق أو الصين أو إلى أمريكا الجنوبية ثمة ثقافة متجذرة ومتطورة. في الولايات المتحدة تجد بالمقابل الأكلات السريعة (الفاست فود). إن التقدم العلمي لا يعني آليا امتلاك ثقافة التواصل مع الآخر. أنا أعتقد أن العالم يعيش حالة انفجار، وهنا أعود لتعبير ‘الانتفاضة’. فالانتفاضة انفجار يحدث حين يبلغ السيل الزبى. ثمة ظلم هائل في العالم، ومن اللازم إيجاد الحلول كي يكون كل الناس رابحين وكي لا يكون هناك خاسر…](1).

ويقول أيضا  :

[إن عبارة «الحرب الصليبية» التي تبناها بوش الابن في خطابه وإن بصورة عابرة فهي تبين ما ذهب إليه من قبله ابن خلدون حين قال بأن القوي يفرض على الضعيف المنهزم قيمه وعباراته ولغته. وهذا الأمر ينطبق على دول الجنوب وينطبق أيضاً على نظام الأمم المتحدة الذي أثبت صراحة سيره هو الآخر صوب نهايته…] (2).

ومن أقواله الخالدة ، كذلك :

[عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان؛ بنوا سور الصين العظيم .. واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، ولكن..’

خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات.’

وفى كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه..’

بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب.

لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس..’

فبناء الإنسان .. يأتي قبل بناء كل شيء وهذا ما يحتاجه طلابنا اليوم…

يقول أحد المستشرقين:

إذا أردت أن تهدم حضارة أمه فهناك وسائل ثلاث هي:

1/اهدم الأسرة.

2/اهدم التعليم

3/اسقط القدوات والمرجعيات

لكي تهدم اﻷسرة:عليك بتغييب دور (اﻷم) اجعلها تخجل من وصفها ب”ربة بيت.”*

*ولكي تهدم التعليم: عليك ب(المعلم) لا تجعل له أهمية في المجتمع وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه.

*ولكي تسقط القدوات: عليك ب (العلماء) اطعن فيهم قلل من شأنهم، شكك فيهم حتى لا يسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد.

فإذا اختفت (اﻷم الواعية)

واختفى (المعلم المخلص)

وسقطت (القدوة والمرجعية)

فمن يربي النشء على القيم؟](3).

بيد أن ما يعنينا هنا ، أكثر ، تشبّع هذا المفكر الكبير بوصايا الإسلام السمحة ، كونه تنفس ذلك ملء الرئتين ،وهو برعم بعد، في باكورة العمر، في مدينة اقتصادية كبيرة كالدار البيضاء ، مثلما عكستها مرايا مغرب ثلاثينيات القرن المنصرم ، ما تشكل له نسيجا اجتماعيا يقدس المشترك الوطني والديني،ويقدمه على ماسواه، ساهم ذلك في بلورة سليمة لمفاهيم المقدس ، كالشهادة ،والتصاقها دلاليا بحس الانتماء ومقاومة المستعمر.

منظومة روحية تنبض بمعطيات الاعتدال والوطنية والمسؤولية وموسوعية الرؤى،غذت روح وعقل أمثال المنجرة ،وحددت بشكل كبير ، ملامح توجههم الفكري والسياسي، الذي أعطى ثماره لاحقا.

كشف خبث السياسة العالمية ، وكيف أنها تغطي وتعتم على اختلالات كبيرة ، أول من تدفع ضريبتها الدول النامية والسائرة في طريق النمو.

وعزى أسباب ذلك إلى العولمة والأمركة وفرو الصليبية المتجددة،وجميعها معوّقات تكرس للغطرسة الصهيوــــــ أمريكية من جهة ، وتصون مصالح أوروبا الصليبية، على امتداد مستعمراتها سابقا.

بحيث يرى المنجرة أن قوة الإسلام في التصدي للغزو الصليبي الجديد، إنما تستمدّ من مقاربات جديدة تثري الخطاب الديني، وتحرض على بذل المزيد من الاجتهادات المتبصّرة والمنفتحة،لأجل كسب رهان تضييق الخناق على أي ثقافة شاذة أو فكر متطرف ،تكون له انعكاسات سلبية وخيمة على مستقبل الأمة.

وما صور الداعشية التي استهدفت الاستقرار العربي وطعنت الهوية وأساءت إلى الإسلام ، إلاّ غيض من فيض مستقبليات المهدي المنجرة وجود فراسته كعالم استثنائي ، اعتقد بالخطاب العقلي الاستشرافي،أيقن بضرورة التسلح به، في زمن الخرافة والدجل، فأنفق العمر كاملا في توظيفه المحكم، لأغراض إنسانية تعميرية ، تتوسل عالمية الرسالة ،وتتخطى حدود الجغرافيا والألسن والأعراق.

وبهذا النبوغ ،شهد له الأعداء قبل الأصدقاء، إذ وصفه ميشال جوبير بــــــ ” المنذر بآلام العالم ” ،واعترف له المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون، بالمرجعية في مفهوم اصطدام الحضارات.

مراجع مساعدة:

(1)كتاب الإهانة في عهد الميغا / إمبريالية، المهدي المنجرة ،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء 2007، الطبعة الخامسة الصفحة30. 

(2)كتاب الإهانة في عهد الميغا/ إمبريالية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء2007،الطبعة الخامسة الصفحة 42. (3)عن جريدة الشعب الجديد المصرية.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

سردية مساءلة ثغرات الهوية في رواية” ولادة قيصرية”

أحمد الشيخاوي| المغرب لعلّ ما يحاوله الروائي الجزائري الدكتور وليد خالدي، عبر جديده المعنون: ولادة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات