إن ما يثير انتباه كل متتبع للشأن التربوي التعليمي بالمغرب، وخلال كل سنة بشكل أصبح عاديا جدا نظرا لتكراره كل موسم دراسي، هو امتحانات الباكالوريا والأجواء المشحونة المكهربة التي تمر فيها.
فمختلف الحوادث التي تقع خلال اجتياز المترشحين لامتحانات الباكالوريا لا تعد ولا تحصى فمنها الصغيرة والكبيرة، ومنها المحزنة والطريفة، إلا أنه ما يستأثر باهتمام الرأي العام هو تلك التي تطفو إلى السطح وتظهر للعموم بفضل وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي. فبالرغم من التشديد الذي تحرص عليه الوزارة الوصية على القطاع بخصوص إنجاح محطة الباكالوريا، وخاصة في جانب زجر الغش ..، فرغم كل الاحتياطات التي تتخذها كي تمر هذه الاستحقاقات في ظروف آمنة وجيدة، إلا أننا نرى حوادث جمة مؤسف وقوعها في المدرسة المغربية تجعل فترة امتحانات الباك مهزلة بامتياز حسب تعبير العديد من المهتمين تتوج مهازل شتى تقع على ركح الفصول الدراسية والمؤسسات التعليمية طيلة السنة. ويبقى السؤال المطروح : لماذا تتكرر الأجواء المشحونة المحتقنة، وحوادث العنف اللفظي والبدني خلال امتحانات الباكالوريا كل سنة وفي مختلف ربوع الوطن الحبيب؟
إن الجواب عن هذا السؤال هو من دواعي التشخيص فقط، و الذي تعرفه الوزارة الموقرة وكل المسؤولين على القطاع، وكافة المتدخلين فيه والمتتبعين لشؤونه وقضاياه.
فبصفتي مدرسا شارك في حراسة مترشحي الباكالوريا، والثالثة إعدادي أيضا لقرابة خمس عشرة سنة، يمكنني القول أن ما يقع ليس بالأمر الغريب، فما هو إلا نتيجة للسياسة التي انتهجتها الوزارة ابتداء من نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة إلى الآن، تلك السياسة المسؤولة عن تردي قطاع التربية والتعليم والوصول به إلى الهاوية إلى درجة أن الغش في الامتحان أصبح حقا مشروعا، وإلى درجة تمرد مترشحي الباك واحتجاجهم أحيانا على واضعي الامتحان، وأطر الحراسة كل سنة، وانسحابهم من قاعة الامتحان، واعتدائهم على الأطر التربوية والإدارية بالسباب والشتائم، وشتى أشكال العنف في خرق سافر للقانون، علاوة على تعبيرهم عن جرأة احتجاجية وقحة لا تنم على أنهم أبناء المدرسة؛ بتكسيرهم لممتلكات المدرسة العمومية وتخريبها؛ وقس على ذلك من حوادث يندى لها جبين المدرسة كمؤسسة للبناء والتمدن والتقدم الحضاري. كل هذا وغيره من مهازل بقطاع التربية هو ثمرة مرة مرارة العلقم في حلق الوطن، ساهمت في وضعها سياسة التعليم الهادفة إلى:
1- تنجيح المتعلمين ودفعم من مستوى إلى آخر دون امتلاكهم للحد الأدنى من القدرات والمهارات اللازمة، مما جعل المتعلم يألف النجاح المجاني دون أي مجهود يذكر، وبالتالي فهو يأتي إلى الفصل مكرها مدفوعا من الأسرة فلا يركز ولا يهتم ولا يكترث للمدرس والدرس، فلم يتعب نفسه ويشغل باله بهمِّ التحصيل العلمي؟ فالنجاح مضمون والغش فنون وقوانينه صار يراها مجرد 3ضحك على الذقون.
2- اعتماد الوزارة مقاربة كمية عددية زاد الوضع التعليمي انحطاطا، وذلك بداعي محاربة الهدر المدرسي وإبقاء المتعلم أطول مدة ممكنة داخل المدرسة، فالمتعلم بالنسبة لها مثل مدرسه مجرد رقم لا غير تحتاجه خلال إحاصاءاتها الدورية والسنوية فقط، وهذا أمر خاطئ يسير عكس التنمية البشرية الحقيقية، والطامة الكبرى أنها تراهن على الجانب الكمي دون مراعاة توفير الإمكانات المادية والبشرية لينال المتعلم حقه في ظروف جيدة تشعره بالكرامة والمواطنة الحقيقيتين، لا المزيفتين اللتين يتلقى عنهما دروسا في مادة التربية على المواطنة ولا يجد لذلك أثرا في واقعه المعيش.
3 – انتهاج سياسة نشر حقوق الطفل دفعة واحدة من لدى المجتمع المدني، والمجتمع الإعلامي والمجتمع المدرسي، وذلك باستنساخها من المواثيق الدولية دون إعداد وتأهيل مسبق تدريجيا للمجتمع كي يساهم بكل فئاته في استنباتها من داخله ورعياتها، فتسير الأسرة والمدرسة بشكل متواز في النهوض بالمجتمع كمؤسسين أساسيتين للتنشئة الاجتماعية تربيان الطفل معا على حقوق الإنسان، والمواطنة الصالحة الحقيقية والانخراط الإيجابي في خدمة المجتمع، فانتهاج الوزارة لهذه السياسة أثر بشكل سلبي كبير على سير معظم المؤسسات التعليمية، فالمدرس الذي كان في السابق يراقب المتعلم ويعاتبه ويعاقبه إن أخل بواجب من الواجبات، ويحفزه بالمقابل إن التزم بها وتميز في آدائها، أضحى اليوم مسلوب الإرادة ، أضحوكة في المجتمع، ومحط نكتة واحتقار وازدراء، من الصعب بما كان أن يقوم بأدواره مع المتعلم، فالظروف – بسبب هذه السياسة المقصودة – أصبحت مزرية جدا لا تسعفه إطلاقا على بناء أطفال الوطن ورجالات غده وتربيتهم أحسن تربية وحفز فكرهم وتنمية عقولهم.
فالمتعلم الذي اعتاد أن النجاح مجاني مضمون لمدة إحدى عشرة سنة دراسية، والمتعلم الذي يجد نفسه منذ أول سنة دراسية محشورا وسط فصل دراسي يضم بضع عشرات المتعلمين، فهو يحس منذ أول لحظة تطأ خلالها قدماه الفصل الدراسي أنه مهان مهضوم الكرامة لا قيمة له في الحياة المدرسية، فهو تماما كخروف باصطبل ضيق ينتظر ساعة الخروج وساعة الدخول ولحظة الذبح كباقي الخرفان وهي لحظة مؤجلة فقط، فيُحطَّم حلمه وأمله وينهار طموحه وينطفئ حماسه المتقد، وخاصة عندما يفهم أن فرص النجاح المستحق الحقيقي قليلة أو منعدمة، ولما يتشبع بالثقافة الحقوقية مند صغره دون الثقافة الواجباتية، وهي ثقافة – الحقوقية- فرضتها مذكرات الوزارة فرضا، حيث يفهم المتعلم حق الحرية بشكل مغلوط منذ صغره ، فيفتقد إلى ثقافة احترام الآخر والقانون والنظام العام داخل الفصل الدراسي ثم المدرسة، ثم الشارع، خاصة وهو يشهد على حالات متعلمين آخرين ارتكبوا أخطاء تمس بالأخلاق وسير النظام العام للمؤسسة كمجتمع صغير، ومنها ما يدخل ضمن الجناية لكن لم يُحرك في حقهم ساكن سواء قضائيا أو تأديبيا على مستوى المؤسسة.
فانطلاقا من هذه النقط الثلاث التي تتميز بها السياسة التعليمية بالمغرب – وطننا الغالي – وهي نقط سوداء إلى جانب نقط أخرى طبعا، يمكننا أن نفهم جليا لماذا تمر امتحانات الباكالوريا جحيما على المترشحين أولا وعلى أطر الحراسة ثانيا باعتبارهما الطرفين الواقعين بين مطرقة السياسة التعليمية بالمغرب وسندان الواقع المترتب عنها.
فنساء التعليم ورجاله يعلمون حق العلم أنه لو يتم اتخاذ إجراءات حقيقية ملموسة لزجر عملية الغش وينخرط فيها الجميع لكانت النتائج كارثية، خاصة على مستوى المترشحين الأحرار والشعب الأدبية ، وبدرجة أقل منهما بالشعب العلمية والتقنية. لأن الغش ظاهرة خطيرة اجتاحت المدرسة العمومية لأسباب شتى ، منها ما سقناه سابقا. فأطر الحراسة صار همهم هو العودة بسلام إلى أسرهم، عملا بالقول الدارج عندنا” الله يخرج سربيسك على خير”، ولذا صار عملها هو توزيع الأوراق على المترشحين وجمعها وترتيبها،وتسجيل المتغيبين، وإثبات الحضور، وإخبار المترشحين بجمع وسائل الغش عند قدوم “لجنة مراقبة” ما، والقول هنا تستثنى منه فئة قليلة جدا تحاول أن تشارك في المهزلة مع تفادي وخز الضمير، فتقوم بواجب الحراسة بذكاء وفي حدود الممكن. إنه لوضع كارثي، يدمي القلب، ويحير العقل، ويؤنب الضمائر المهنية المسؤولة حقا!!.
هكذا فقد صار الغش في امتحانات الباك منظما من طرف المترشحين خاصة مع استغلالهم وسائل التكنولوجيا في هذا الاتجاه، وبذلك نحن- المسؤولين على القطاع والأسر- نخرِّج جيلا عديم الضمير والمسرولية، يطبع مع الغش ويراه وسيلة شرعية فضلى لتحقيق النجاح والمكاسب، وهذا الجيل هو من سيتحمل المسؤولية في مختلف القطاعات بعد سنوت قليلة، وبهذا يكون الفساد وضعا محتما مستقبلا. فقد ضاعت أهم القيم التي ترومها المدرسة ويقضي المدرس المسؤول سنوات في تربية المتعلم عليها. ضاعت الثقة في النفس والاعتماد عليها والمسؤولية واحترام القانون والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص والعدالة الدراسية والمساواة وغيرها من القيم التي لا يخلو منها أي مقرر دراسي.