كانت الحياة تمر بشكل هادئ و أحيانا ببطء وملل، عشت في قرية نائية ذات طبيعة ساحرة، أتمتع بصحبة أبنائي فهم أحب وأهم ما في الوجود بالنسبة لي، أبالغ في حبهم، أفضلهم عن كل الموجودين ومن مسهم كأنه مس عيني وأظلم حياتي، سارت الحياة بعدلها معي نسبيا لا نجاحات كبيرة ولا إخفاقات مهولة.
ذات يوم سافرت إلى المدينة لحضور مناسبة احتفالية، تثيرني هذه الحفلات ولقاء الأهل والأحباب، فهي تكسر ذاك الروتين القروي وفرصة لقضاء جملة من الأشغال.. وفرصة أكبر لأزور ابني وحبيبي الذي كان يدرس هناك عند عمته وأمه الثانية، فلا أنكر أن حبها يفوق الوصف وعطاءها لا حدود له. إنها امرأة قل نظيرها، قلبها يسع الكون وبيتها يضم كل مكروب، أما ابني فهو شاب وسيم جميل وودود محبوب.
يعامل الصغار بعفويته ويجالس الكبار برزانته، مطيع إلى أبعد الحدود، ليس كباقي الشباب لا يحملنا ما لا قدرة لنا به لأنه يرى قصر أيدينا فيكتفي بما تتيحه الظروف، وجوده بالبيت يبعث الأمل ويحقق الاستقرار فلا أحتاج الصراخ مع إخوته الصغار فكانوا يحسبون لوجوده ألف حساب فيتم ضبطهم بسهولة، بدا أكبر من سنه، عاقلا متزنا حكيما عفيفا….
انغرس في قلبي سهم حين أن رأيته وقد فقد من وزنه الكثير، كنت أعلم أن مغصا ببطنه يزوره من حين لآخر ولم أكن أتوقع أن يؤثر على صحته بهذا الشكل، وبعد إقناعه زرنا أقرب طبيب عام، كنت أظن أن الأمر عادي ستكون هناك بعض المشاكل في الجهاز الهضمي ستنتهي بالكشف عليها وأخذ الدواء المناسب…
ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة ولا كما اعتادت الحياة أن تجري أيامها بيننا، أخبرني الطبيب أنه يجب زيارة اختصاصي ليحدد مرضه بدقة، فعلنا ذلك وكلي أمل أن ينتهي هذا الكابوس على خير، فلا أمر على قلب أم أن تحمل شاب يافعا إلى الطبيب وقد كان كله طاقة وحيوية وفي غضون شهر تدهورت صحته وتبدل حاله، ولكن القدر كان أقوى وجاءت الفحوصات بالخبر اليقين والألم الكبير والانكسار المميت والسواد العظيم، فكيف لي أن أعي أن هذا الألم البسيط هو سرطان نادر وقاتل لا ينفع معه علاج ولا دواء.
ضاقت علي الأرض بما رحبت، شعرت بالغثيان أردت أن أصرخ بكل ما في من قوى وأقول ياااارب اشفه فلا حياة بعده تستقيم، كان ذلك اليوم هو أسوأ ايام حياتي وأسودها وأطولها، ضيق شديد يجثم على صدري أذبلني أفرغني من الحياة ومن كل أمل، وفي المقابل كان هو ما يزال يتسم برزانته وهدوئه وبدل أن أواسيه أصبح هو من يواسيني ويصبرني وأن هذا أمر من الله فلا اعتراض عليه.
شاهد أيضاً
قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي
د.حسن بوعجب| المغرب لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …