بالجسد يتحرك الإنسان ويحس ، وبالروح يدرك ويعي ويفكر ويعلم ويريد ويحب ويكره ويختار ، وأصل الجسد تراب ، وهذه قضية مسلم بها ،فإن الإنسان لا يكاد يموت حتى ينحل إلى عناصره الأولى التي لا تختلف عن باقي عناصر الأرض ، فلو أخذ الإنسان جزءا من تراب الأرض الخصبة ، وحللها تحليلا كيماويا لوجدها تتركب من هذه العناصر ، ولو أخذ قطعة من جسم الإنسان وأجرى عليها عملية تحليل ، لوجدها تتركب من هذه العناصر ذاتها ، وقد أحصى العلماء العناصر التي يتألف منها جسم الإنسان ، فقالوا أن به من الكربون ما يكفي لصناعة تسع آلاف من أقلام الرصاص ، ومن الفسفور ما يكفي لعمل ألفين رأس عود كبريت ، وحديد وجير وبوتاسيوم وملح ومغنزيوم وسكر وكبريت، وهي كلها من المعادن التي تتألف منها تربة الأرض.
أما الروح فإن أمرها كان ومازال مثار جدل ونقاش بين العلماء والفلاسفة ، ولم ينتهوا في شأنها إلى رأي حاسم بعد ، أما القرآن الكريم فقد أجاب عن التساؤل الذي أثار إجابة تعد معجزة من معجزاته الكثيرة ،يقول عز وجل في سورة الإسراء ، الآية85: ” ويسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا” .
فالروح من أمر الله ، لا يعلمه غيره ، ولم يطلع عليه أحد سواه ، ولم يعط للإنسان الوسائل التي توصله إلى هذا اللون من العلم ، والإحاطة به، فعلم الإنسان قليل ومحدود ،ولم يدرك حقيقة المادة ولا الكون المحسوس المحيط به ، فكيف يتطلع إلى إدراك سر من أسرار الله ، وغيب من غيوبه ؟.’
إن كل ما يمكن أن نعرفه عن الروح هو أنها تحلّ في الجسم فتدب فيه الحياة ، ويظهر فيه الإدراك والوعي والتفكير ، والعلم والإرادة والاختيار والحب والبغض ، وأنها تفارق الجسم فيتحول إلى مادة هامدة وجامدة كسائر المواد ، ومن ثم فقد كانت الروح هي المميزة للإنسان عن غيره في هذا العالم ، وبها صار عالما وحده ، وبالروح أسجد الله للإنسان ملائكته ، وسخر له ما في السموات والأرض جميعا منه ، وجعله سيد هذا الكون وخليفته في أرضه .
يقول تعالى ” وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ” ،الآيتين 28/29،سورة الحجر.
وقد عرفها العلماء من المسلمين بأنها ذات مجردة عن المادة ، وأنها جسم نواراني علوي حي ، يغاير هذا الجسم المادي ، ويسري فيه سريان الماء في العود الأخضر ، لا يقبل التحلل والانقسام ، ويُفيض على الجسم الحياة وتوابعها ، ما دام الجسم صالحا لقبول الفيض.
حدوث الروح
والروح حادثة وليست بقديمة بإجماع المسلمين ، ويظهر أنها تحدث بعد تسوية الجسم وتتصل به ، وتحل فيه وهو جنين ، فعن عبد الله بن مسعود رضي عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق ، أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون في ذلك عقله ، مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مضغة ، مثل ذلك ، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح ويؤمن بأربع كلمات ، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعا فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعا فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
الر وح والنفس
الروح والنفس معناهما واحد ، يقول الله سبحانه وتعالى : ” الله يتوفى الأنفس حين موتها ، والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل أخرى إلى أجل مسمى ” ، ويقول سبحانه ” ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ، والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ” ، فالأنفس في الآيتين ، المقصود بها الأرواح وقد ذكر القرآن الكريم النفس الأمارة بالسوء ، والنفس اللوامة ، والنفس المطمئنة ، وليست هذه بأقسام للنفس وإنما هي صفات ، فالنفس في حالة تسلط الغرائز ، وسيطرة الإستعدادات الفطرية عليها ، تكون أمارة بالسوء ، يقول تعالى ” وما أبرئُ نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء ، إلا مارحم ربي” .
فإذا تعلمت وتهذبت بالدين والتعاليم المثالية ، وجد الضمير ، وهو الشعور النفسي الذي يقف من المرء موقف الرقيب ، يدعو إلى الخير ، وينهى عن الشر ويحاسب بعد أداء العمل ، مستريحا للإحسان ، ومستنكرا للإساءة ، وإذا وصلت النفس إلى هذا الطور من اليقظة والمراقبة والمحاسبة، واستراحت للخير وضاقت بالشر ، كانت في هذا الطور نفسا لوامة.
يقول عز من قائل ” لا أقسم بيوم القيامة ،ولا أقسم بالنفس اللوامة ” .
فإذا واصل الإنسان جهاد نفسه ،فتخلص من الهوى وكبت شهوته ، وارتفع عن النقائص سمت نفسه إلى الحق والخير ، والجمال والكمال ، بلغ منزلة الرشد الذي يريد الله أن يصل إليه الإنسان في هذه الحياة ، ليكون أهلا لجواره في الدار الآخرة ، سورة الزمر الآية 42، سورة يوسف الآية 53 ، سورة الأنعام الآية 93، سورة القيامة الآية 1/2:يقول تعالى ” ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولائك هم الراشدون ” ، وحين يرتفع الإنسان إلى هذا المستوى الرفيع ، تكون نفسه قد اطمأنت بالحق والخير ،” يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ” ، وما لم يصل الإنسان إلى هذا المستوى ، يكون قد عرض نفسه لخسارة لا يمكن تداركها بعد ، ” ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ” ، سورة الحجرات الآية 7، سورة الشمس الآيتين 7ــ10 ، سورة الفجر ، الآيتين 27 ــ 30.