“تجربة أدونيس في ضوء المنهج التفكيكي” إكرام يحيى العطاري ـ الأردن

قصيدة “كلمات”([1])  لأدونيس .. مقاربة نقدية

                جاءت هذه المقالة محاولة لقراءة قصيدة “كلمات” لأدونيس قراءة تفكيكية؛ وهي تجربة تحاول تفكيك النص، وفهم العلائق القائمة فيه ضمن أدوات المنهج التفكيكي، ويعد جاك دريدا رائد هذا المنهج، وعمد فيه إلى تفسير النص ضمن ( مبادئ الاختلاف والغياب، والإنطلاق من مركز النص ضمن مراحل تعمل على نسف المعنى وتفكيك المدلول، والتركيز على الكتابة التي يغيب فيها المرسل وتنفصل عن السياق مما يؤدي إلى حضور التأويل وغياب المعنى الثابت؛ فالكتابة علامة ، وهذه العلامة المكتوبة تخترق السياق الواقعي وتقرأ في سياق مختلف بغض النظر عما نواه كاتبها([2].)

                (ويتم تفكيك النص عبر تحويله إلى أجزاء كلامية أو وحدات قرائية متتالية، ولكل منها مدلولاته الخاصة. ويهدف هذا التحليل إلى معرفة خبايا النص، وملامح التداخل بينه وبين نصوص أخرى، ولتحقق ذلك لابد من تقسيم النص إلى  شيفرات لكل منها مجاله؛ فشيفرة الأحداث تتناول كل ما ينبني عليه المحكي من أفعال وسلوكات وأحداث. أما شيفرة الإحالات؛ فتعد شيفرة الثقافة وتضم المعارف البشرية والآراء العامة، وهي شيفرة متشعبة في موضوعات عدة. بينما تعمل شيفرة التأويل على تأويل خفايا المتواليات النصية، في حين تقوم شيفرة الرمز بتناول الرمز بمعناه النفساني، وشيفرة السيمات التي تدرس المدلولات الخاصة بطبائع الشخص في النص.)([3])   

عتبة متحركة..

افتتح أدونيس قصيدته بعتبة شكلت بؤرة لطاقات النص ومركزا لها، وللمراحل التي تشكل البنية المتأرجحة فيه، فقد وظف “كلمات” في عتبة العنوان، وجعلها تنمو كأداة في محاور الانتقال من حالة إلى أخرى، ومن مرحلة إلى مرحلة تالية ضمن مراحل الصراع البشري من أجل إقامة عالم المثل أمام عوالم الشر، وجاءت “كلمات” في جميع أحوالها نكرة؛ ليؤكد الشاعر على عمق الأزمة والرفض المطلق للأحوال السائدة، وليؤكد ضبابية وغموض مشهد الصراع الذي تحاول البشرية تجاوزه؛ فخلق من تكرار هذه الكلمة مركزية أو لوغومركزية النص.

شيفرات..

يبدأ الشاعر نصه بتكرار “كلمات” في السطرين الأولين، ويأتي هذا التكرار لتأكيد اضطراب الحالة الشعورية الناجم عن اضطراب عام دفع الشاعر لتكرار هذه العلامة؛ والتكرار الأول يشير إلى محاولة للرسوخ والثبات في مواجهة تناقضات الحياة المتعددة. وتظهر الحركة المتوترة في بنية النص بالانتقال إلى حالة الموت/ الاستسلام، وهو نقيض هذه الحياة/ المقاومة. ورغم حالة الموت هذه إلا أنها “حُبلى” إشارة إلى ديمومة أمل تواجه شرا كامنا في البشرية:

“كلمات لها أرجلٌ وبيوت

كلمات تموت

         وهي حُبلى…”([4]

ونلحظ أن علامة الحذف تخفي وراءها الكثير من المدلولات الغامضة؛ فهي حبلى بالأمل، والتجدد، والخير.

                وتتابع هذه الحالة الشعرية تدفقها بتشظٍ وتيه أمام متناقضات الحياة، فتسود في النص بنية متوترة ومتحركة بين الوصول واللاوصول؛ فهناك بحث عن استقرار جسدته القصيدة في أكثر من محطة؛ فالوطن/ الحبيبة/ الحلم، يتعرض لمحاولة اقتحام، والشاعر/ الحالم الذي يبحث عن ذاته يسعى إلى الإحاطة بالحلم، لكنه يجد عجزا يحول بينه وبين الغاية، حتى غدت الرؤى غير متحققة، والعيون تبصرها دون حراك، فهذا الحدث يمهد لمرحلة التحضير للغد بثوبه الجديد:

“… سكنًا

وَطنا راودته، شَرِدنا

في تقاطيعه، ارتسمنا

حول آفاقه غصونا

وارتسمنا رؤى وعيونا”([5])

                وتعود قصيدة “كلمات” بدلالاتها المتعددة المستويات في هَتك بنيان الحاضر الفردي و العام؛ غاية/ حبيبة/ وطنًا/ حلمًا، لتتصدر المقطع الثاني للنص، في محاولة للخروج عن المألوف، والتمرد على الواقع، فهناك حالة تأهب وتحدٍ لخوض التجارب، وتبدلات الحياة، لكن الموت يحيطها؛ فصراع البقاء يقود إلى موت محتم، فعندما قرر الإنسان خوض “طقوس المدينة” في إشارة إلى محاولة النهوض المجتمعي، ومحاولة التغيير/ “ودخلنا مقاماتها”، وقع (الشاعر/ الإنسان) الباحث عن النجاة في خضم هذه الصراعات في معمعان معركة وجودية هي صراع البقاء/ “احترقنا حلما” فتحركت الدلالات نحو زوال الحلم والتقدم لمشهد جنائزي عالمي في دفن جثة العالم، وكأن التجديد جهد عالمي ومنتظر من الجميع:

“كلمات رمت قشرها، رافقتني

في طقوس المدينه

ودخلنا مقاماتها، احترقنا

حُلُما- ها هنا دفنا

     جثة العالم اقتسمنا

     إرثه واستعدنا

لهب الفطرة الدّفينة.”([6])

ويبدو أن الشاعر عمّق تفكك النص من خلال التحكم في علامات الترقيم التي حددت مقدار التدفق الشعري، وتحكمت في رسم المعنى وتقديم إشارات لغوية كثيرة، كذلك فعل في تسكين بعض المقاطع بشكل عزز تفكك النص، وأكد على حالة الاضطراب المرافق للتغيير.

ترتفع حالة التأهب النصي من خلال حضور “كلمات” في مرحلة جديدة؛ حيث ينقلها الشاعر إلى حالة من المفارقة بين الواقع ومحاولات الخروج عليه؛ فقد جعلها في صرخات الطفولة، ليقودنا إلى ماض مليء بالألم والذكريات المريرة، ليصاب بردِّ فعلٍ قاسٍ عندما يرى جنون الكون، فالخُطى مُزِجت بالبطولة والجنون فكان الاحتماء ببراكينه، وهنا خروجٌ للإنسان عن ذاته للبحث عن الوجود الخالي من الألم، ليحتمي بالبركان/ الموت، وهذه إشارة ليأس عميق أكدها الحذف:

“كلمات تسافر في صرخة الطفوله

كم حملنا خطانا مزجنا البطوله

بالجنون، احتمينا

ببراكينه…”([7]

وتعود “كلمات” في مشهد جنائزي مغاير لسابقه، فحالة الهروب الجمعي للناس دفعتهم للتخلي عن أحلامهم قربانا بلا جدوى، ونلحظ هنا التناقل السريع بين شيفرات النص، في خطوات مضطربة تعكس الرغبة في الهروب من هذه الحالة؛ حيث تنخفض وتيرة مقاومة النفس لما حولها، يجاوره الحذف الذي يشير للكثير من الأمور التي يريد منا الشاعر أن نلم بها دون أن يذكرها:

” كلمات

خضت صمتها وماتت

… وحرقنا مناديلنا وقرأنا

سورة،

وذبحنا

حلما كالخروف

بين إيقاعها والحروف.”([8]

بعدها تنقلنا القصيدة إلى حالة امتزاج مؤقت مع الأحلام مثل حالة طائر الفينيق الذي تحول رمادا ثم نهض ليقاوم من جديد، فهنا تشتعل روح الثورة والتمرد في النص من خلال عبارات فاعلة تدل على رغبة جمعية للتغيير والثورة؛ “نهضنا، بدأنا، وعدنا.” ثم يعكس لنا حالة من التأهب للتغيير:

“… وامتزجنا بها ورقدنا

فوقها

ونهضنا

وبدأنا، وعدنا

والمدى جامح”([9])

ثم تَتَكرر “كلمات” مرتين في ثوب الثورة وما يُكابدها من خسائر من أجل الوصول للغاية، وتتجسد المعاناة في توظيفه لـ “اجترحنا” ضمن سياق مفارقي يهدم/ يخلق، في إشارة للصراع الوجودي المتأزم:

” كلماتٌ،

 كلمات هي الثورة-

 … اجترحنا

 كل ما يهدم المدينة أو يخلق المدينه.”([10])

وفي محطة انتقالية جديدة جاءت “كلمات” ضمن سياق مليء بالاضطراب، في بنى متعددة؛ فهناك حالة من الحنين/ الرغبة بالأفضل من كل شيء، يشوبها عدم الاستقرار فهي “شريدة”. ثم تتوالى سلسلة من البنى التي قادتها “كلمات” في دلالات متعددة؛ فقد ضج صوتها بالثورة ضمن مراحل تعكس ما يرافقها من أزمات؛ فهناك (هجرة/ تخلٍّ) للأرواح مجازا أو حقيقة، وهناك موت قد يكون بشريا حقيقيا، وقد يكون مجازيا لأهدافٍ أو مشاعرَ أو غايات. كأن “كلمات” في كل سياق جاءت حاملة مفاتيحَ للعبور للغايات التي أرادها الشاعر، في عدة محطات؛ فقد شكلت كذلك حالة (الضعف/ الأفول) بعد اندلاع الثورة، ثم ترتفع وتيرة النص في “الصعود ومعراجه”، ثم هبوط مفاجئ في “الحلول” في إشارة صوفية لحلول الغاية في كل العالم للتحرر من القيود وتحقيق الذات، وأسهم هذا التكرار لـ “كلمات” في تحقيق تميز للأثر الصوتي الناجم عن تكرار التتتابع وتعميق الغاية التي أرادها الشاعر:

“كلمات الحنين وأقواسه الشريده

كلمات تهاجر بين الغصون

كلمات تموت مع الحلم في آخر العيون

كلمات الحدود البعيده

كلمات الأفول

                والصعود ومعراجه،

الحلول

في الجذور وغاباتها،”([11])

ثم ينقلنا الشاعر إلى تناص ينطلق من بؤرة النص “كلمات”، حيث يقف أمام جثة الحسين/ عالم المثالية، الذي ضحى وعلم أن فقده لروحه لن يحقق ما يريد، ورغم ذلك قدمها في سبيل قضية تؤرق وجود البشرية، فيحمل هذا التناص المضطرب إشارة لتصاعد أزمة التحقق، فهذه التضحية سارت مع الرافدين، وضاعت تضحيتها سدى، وغمرت الشاعر بالمزيد من التشظي من خلال مفارقة الموت والحياة التي يعايشها الوجود، ويسعى لتجاوزها للوصول إلى الذات:

“كلمات

شهدت جثة الحسين

وهي تبكي وتجري مع الرافدين

مت في حضنها وعشت

وطمرت شرايينها ونَبَشتُ”([12]

وفي المشهد التالي تأتي “كلمات” في ثوب (تحقق الغاية/ المجيء)، فهنا يتجسد السعي والبذل في سبيل تحقيق الغاية/ الثورة/ الحلم، رغم المفارقات المحيطة؛ فنلحظ من خلال توظيف بؤر مبنية على المفارقة ارتفاعا لوتيرة النص، ووضوحا في التفكك:

“كلمات المجيء

سفر معتم خطوات تضيء

في الزمان المهرول في وجهه البطيء”([13])  

ثم تأتي لوحة الخلاص في سفينة نوح؛ فرغم كل الاضطرابات إلا أن الشاعر لجأ لهذه اللوحة الفنية علها تحرك الثورة وتؤكد النجاة من القادم الغامض، في محاولة للجذور/ الأحلام/ الأجيال القادمة/ الغايات المخبوءة للنهوض/ الثورة:

” كلمات سفينه

في البحار الدفينه

بين نار الغموض ومزماره، الدفينه

تحت رقص الجذور

الدفينه”([14]) 

ثم يحاول إغلاق نصه بكلمة أخرى تؤكد لا نهائيته فيمضي النص في حركية لا متناهية وانتقالات لا نهائية، وفي ثوب مفارقة لفظية قد تسكن أحيانا “مطرا هاذيا” ثم تمضي “لهبا هاذيا”؛ مما يؤكد أنها حال متفككة لا يمكن توحدها في البناء النصي غاية ودلالة، ويترك نصه مفتوحة من خلال الحذف… ليقيس عليه القارئ أحواله وانكساراته التي قضت على (دربه/ درب الإنسانية) أمام (النهوض/ الثورة) بكل أشكالها ومقاصدها في دعم الوجود الإنساني:

“حيثُ تمضي وتمضي وتمضي

مطرا هاذيا

                وتمضي

                لهبا هاذيا

                وتمضي…”([15])


[1] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، 1996: دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ص 333

[2] () العزري، أحمد، تلقي التفكيكية في النقد العربي الحداثي – علي حرب أنموذجا – جامعة مولود معمري، الجزائر، 2012، بتصرف ص 51 – 56

[3] () بارت، س/ز، ت. وتقديم وتعليق محمد بن الرافه البكري، ط1، 2016: دار الكتاب الجديد، بتصرف ص 25 إلى ص 26

[4] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، 1996: دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، ص 333

[5] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، مرجع سابق، ص 333

[6] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، مرجع سابق، ص 334

[7] () المرجع السابق، ص 334

[8] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، مرجع سابق، ، ص 334

[9] () المرجع السابق، ، ص 334

[10] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، مرجع سابق،  ص 334

[11] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، مرجع سابق، ص 335

[12] () المرجع السابق، ، ص 335

[13] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، مرجع سابق، ص 335

[14] () المرجع السابق، ص 335

[15] () أدونيس، أغاني مهيار الدمشقي، مرجع سابق، ص 335- 336

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات