“تقديم للانتهاك لميشيل فوكو” محمد العرابي / المغرب

نعتقد عن قناعة أن الجنسانية، في التجربة المعاصرة، قد عثرت على حقيقة الطبيعة التي ظلت قابعة زمنا طويلا في الظل، تحت مجموعة كبيرة من الأقنعة، وأن حدَّة فكرنا الوضعية هي التي سمحت لنا اليوم أن نميط عنها اللثام، قبل أن نتمكن من التعبير عنها بوضوح بواسطة اللغة.

فلم يسبق مع ذلك أن حازت الجنسانية على معنى أكثر طبيعية وبلا واسطة، ولم تعرف بدون شك أكبر “سعادة في التعبير”عن نفسها، إلا في عالم الأجساد الساقطة والخطيئة المسيحي. وهو ما تؤكده كل نزعة صوفية، وكل نزعة روحية، لا تعرف أبدا كيف تفصلبين الأشكال المحتدمة للرغبة، وللسكر، وللإيلاج، وللوجد وللبوح الذي يسقط خائرا؛ كان الإحساس بهذه الأشكاليتلاحق، دون انقطاع ودون حدّ، وصولا إلى قلب حبٍّ إلهي يعتبر الانفتاح الأخير ومعانقة المنبع من جديد.  وما يميز الجنسانية المعاصرة، ليس هو عثورها، منذ ساد حتى فرويد، على لغة منطقها أو طبيعتها، ولكن لأنه تم حرمانها، وبواسطة عنف هذه الخطابات، من “مشروعيتها”، وإلقاؤها في مكان فارغ لا تصطدم فيه إلا بالشكل عديم الجدوى للحدّ، وحيث لا يكون لها من جانب آخر ومن تمديد إلا في السعار الذي يقطعها. فنحن لم نحرِّر الجنسانية، ولكننا، في الحقيقة، أوصلناها إلى أقصى حدِّها: حدّ وعينا، ما دامت تملي علينا في النهاية القراءة الوحيدة الممكنة، بالنسبة لوعينا، عن وعينا؛ حد القانون، ما دامت تبدو بمثابة المضمون الكوني الوحيد بالمطلق للمنع؛ حد لغتنا: من خلال رسمه لخط الزبد لما يمكن بالضبط أن يبلغه على رمل الصمت. فليس بهذا الحدِّ إذن نتواصل مع عالم الحيوانات المنظم والمدنس لحسن الحظ؛ إنه على الأصح شقٌّ: ليس حول مسعى عزلنا أو الإحاطة بنا، ولكن من أجل رسم الحد فينا ورسمنا نحن أنفسنا كحد.

لربما يمكننا القول إن الحدَّ يعيد تأسيس المشترك الوحيد التي قد لايزال ممكنا في عالم لم تعد فيه موضوعات، ولا كائنات، ولا فضاءات يمكن تدنيسها. ليس لأنه يمنح مضامين جديدة لسلوكات دامت آلاف السنين، ولكن لأنه يسمح بتدنيس بلا موضوع، تدنيس فارغ ومتقوقع حول ذاته، والذي لا تتوجه أدواته نحو أي شيء آخر غيرها نفسها. هو إذن تدنيس في عالم لا يعترف بأي معنى إيجابي للمقدس، أليس هذا هو ما يمكننا أن نسميه انتهاكا؟ وهذا الأخير، في الفضاء الذي تمنحه ثقافتنا لسلوكاتنا وللغتنا، يوجب ليس فقط الطريقة الوحيدة للعثور على المقدس في مضمونه الفوري، ولكنه يوجب أيضا إعادة تشكيله في شكله الفارغ، في غيابه الذي يجعله مشعا من هذا الجانب بالضبط. إن ما يمكن أن تقوله لغةٌ انطلاقا من الجنسانية إذا كانت قوية، ليس هو السرُّ الطبيعي للإنسان، وليس هو حقيقته الأنثروبولوجية الهادئة، بل إنه موجود بدون إله؛ إن الكلام الذي أعطيناه للجنسانية يتزامن من حيث الحقبة والبنية مع تلك التي أشعنا فيها بيننا أن الله قد مات. إن لغة الجنسانية، التي عمل ساد، منذ أن لفظ حولها كلماته الأولى، على جعلهاتدرع بخطاب واحد كل الفضاء الذي أصبح فجأة سيده بلا منازع، قد قامت برفعنا إلى غاية ليل أصبح فيه الإله غائبا، وحيث كل سلوكاتنا تتوجه نحو هذا الغياب من خلال تدنيس يعيِّن الغيابَ في آن، ويتآمر عليه، وينهك نفسه فيه، ويجد نفسه محمولا بواسطته نحو صفائه الفارغ من الانتهاك.

هناك بالفعل جنسانية معاصرة: إنها تلك التي إذ تأخذ على عاتقها وفي الظاهر خطاب حيوانية طبيعية وصلبة، فإنها تتوجه بغموض نحو الغياب، نحو هذا المكان السامي، الذي خصَّص له باتاي، من أجل ليلة لا يبدو أنها تريد أن تنتهي، شخصياتِقصته إبُّونينEponine: “في هذا الهدوء المشحون، وعبر الأبخرة المتصاعدة من سُكري، تهيَّأ لي بأن الريح تهدأ، وانبعث سكون طويل من اتساع السماء. جثا القس بهدوء على ركبتيه…وغنَّى على إيقاع مرعب، ببطء كما لو كان بمواجهة الموت: “فلتغفر لي يا إلهي، ولتشملني برحمتك الواسعة”   miserere meiDeus,misericordiammagnamtuam…،

هذه الأنة الصادرة عن نغمة شهوانية كانت مبهمة للغاية. إذ أفصحت بغرابة عن القلق أمام ملذات العري. كان على القس أن يهزمنا بإنكار نفسه وحتى المجهود الذي بذله ليستتر كان يفضحه أكثر؛ كانت نعومة غنائه في صمت السماء تسجنه في وحدة تشهيه للإثم…أغمي عليَّ على هذا النحو في نعومتي، بواسطة تهليل مبتهج، لا متناه، لكنه قريب بالفعل من النسيان. وفي اللحظة التي أبصرتْ فيه إبونين القسَّ، يخرج بوضوح من الحلم الذي ظلت منذهلة فيه، أخذتْ في الضحك، وبالسرعة التي دفعها فيه الضحك بقوة، استدارت، وبانحنائها على عمود الدرابزين، بدت مرتعشة كطفلة. كانت تضحك ورأسها بين يديها والقس، الذي قطع همهمة لم تُخنق جيدا، لم يرفع رأسه، ويديه إلى أعلى إلا أمام مؤخرة عارية: ولم تهبِّ الريح على المعطف إلا لحظة جرَّدها الضحك من أسلحتها ولم تستطع أن تظل محتفظة بانغلاقها”.

لم تأخذ الجنسانية أهميتها ربما في ثقافتنا إلا عندما تم ربطها في الغالب منذ الماركيز دي ساد بالقرارات الأكثر عمقا في لغتنا، والمتعلقة بالضبط بموت الإله. موت لا ينبغي بأي حال النظر إليه كنهاية لسيادته التاريخية، ولا كواقعة تحررت أخيرا من لا وجوده، ولكن كفضاء ثابت لتجربتنا. إن موت الإله بنزعه الحد مما هو لامحدود من وجودنا، يعيد توجيهنا نحو تجربة لا يمكن لشيء فيها بعد أن تعلن عن خارجية الكائن، نحو تجربة داخلية وسيادية بالنتيجة. لكن تجربة من هذا القبيل، ينفجر في ظلها موت الله، تكشف كنوع من سرِّها ومن نورها، عن تناهيها، وعن الهيمنة غير المتناهية للحد، وعن الفراغ الذي يتركه هذا التجاوز حيث تسقط وتخفق. وبهذا المعنى تعتبر التجربة الداخلية في شموليتها تجربةًللمستحيل (المستحيل باعتباره الشيء الذي يكون موضوع التجربة وعمادها في آن). ولم يكن موت الله هو وحده ال “حدث” الذي أيقظ التجربة المعاصرة بالشكل الذي نعرفها به: بل إنه يرسم بلا حدود العصاب الهيكلي الكبير.

وقد كان باتاي يعرف جيدا الإمكانات الفكرية الكبيرة التي قد يفتحها هذا الموت، وكذا حجم الاستحالة التي أدخل فيها الفكر. وأي معنى فعلي سيكون لموت الله إذا لم يكن هو التناغم الغريب لوجوده الذي يتصدع مع المسعى لقتله؟ لكن ما معنى قولنا قتل الله إذا لم يكن له وجود، أي قتل الله الذي هو غير موجود؟ ربما يعني قتله التأكيد في آن على أنه غير موجود وحتى لا يوجد: وهذا هو معنى الضحك. أو قتل الله من أجل تجاوز وجود هذا الوجود الذي يحدُّه، ولكن أيضا من أجل إعادته إلى الحدود التي يمحوها هذا الوجود غير المحدود: وهذه هي التضحية. أو قتل الله من أجل حمله إلى هذا العدم الذي يوجد عليه ومن أجل إظهار وجوده في قلب النور الذي يجعله يشتعل كحضور: وهذا هو الوجد. أو قتل الله من أجل إضاعة اللغة في ليلة صمَّاء، ولأن هذا الجرح عليه أن يجعله ينزف إلى حين انبثاق ” هللوليا (مناجاة) عظيمة ضائعة في الصمت الذي لا نهاية له”: وهذا هو التواصل. إن موت الله لا يعيدنا إلى عالم محدود وإيجابي، ولكن إلى عالم ينحلُّ في تجربة للحد، ينبني وينهدُّ في الإفراط الذي ينتهكه.

ودون شك هل إن الإفراط l’excès هو الذي يكشف، لنا الجنسانية وموت الله مترابطين داخل نفس التجربة؟ أو أيضا هل هو الذي يبين لنا، كما في “الكتاب الأقل لياقة من بين كل الكتب”، بأن “السماء غانية”؟ على هذا الأساس، فإن فكر الله وفكر الجنسانية، لا يواجهان منذ ساد بلا شك، ولكن قطعا ليس في أيامنا هذه، هذا الكم الهائل من الجدل والصعوبة مثلما يواجهانه مع باتاي،الذي يقدمهما مترابطين في شكل مشترك. وإذا كان لابد من إعطاء معنى محدد للإيروسية، في تعارضها مع الجنسانية، فلن يكون من دون شك إلا هذا: إنها تجربة الجنسانية التي تربط من أجل ذاتها تجاوز الحد بموت الله. “ما لم تقدر النزعة الصوفية على قوله (لأن لحظة تريد قوله، تقع في العجز)، فإن الإيروسية تقوله: إن الله ليس شيئا إذا لم يكن تجاوزا لذاته بكل معاني الكائن العادي، الغارق في الرعب وفي الفسق، وفي النهاية بمعنى اللاشيء…”

وعلى هذا المنوال، في عمق الجنسانية، وفي عمق حركتها التي لا يحدها شيء (لكونها، ومنذ بدايتها وفي كليتها، لقاء ثابتا للحد) وخطابها حول الله الذي اعتمده الغرب منذ زمن طويل – دون أن نفطن بوضوح إلى أننا “لا نستطيع أن نضيف للغة بلا عاقبة الكلمة التي تتجاوز كل الكلمات” وبأننا بواسطته نقع على تخوم كل لغة ممكنة – ترتسم تجربة فريدة: تلك الخاصة بالانتهاك.    

فوكو، أقوال وكتابات I، 1954- 1975.

غاليمار، كواترو، 2001.

تقديم للانتهاك (من الصفحة 261 إلى 266) “تقديم للانتهاك” مجلة نقد 195 -196: إهداء لجورج باتاي، غشت – شتنبر 1963. الصفحة 751- 769.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“الخَرَّوبة” لرشيد عبدالرحمن النجّاب.. بداية عهد جديد

عمَّان- رواية “الخَرَّوبة” لرشيد عبدالرحمن النجّاب.. تعدَّدت الأحداث والقدر واحد، إنه البطل؛ جد الراوي والمجنَّد.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات