“تمظهرات الرمز في الشعر العربي المعاصر”فدوى الحجوجي/المغرب

فدوى الحجوجي / باحثة بسلك الدكتوراه

  1. شكل الرمز نقطة تحول في مسيرة الشعر العربي نتيجة اعتباره حجر الزاوية في مكونات الحداثة الشعرية، وأيضا أحد الركائز الأساس للقصيدة العربية الحداثية، كالأسطورة، والغموض، والنزعة الدرامية، والقصصية وهلم جرا.
  2. المفهوم اللغوي:

الرمز: تصويت خفي باللسان كالهمس، ويكون تحريك الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بصوت، إنما هو إشارة بالشفتين، وقيل: الرمز إشارة وإيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم، والرمز في اللغة كل ما أشرت إليه مما يبان بلفظ بأي شيء أشرت إليه بيد أو بعين، وفي التنزيل العزيز في قصة زكرياء عليه السلام ” ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا”.[1]

1.2 المفهوم  الإصطلاحي:

الرمز في الاصطلاح الأدبي ظاهرة فنية لافتة للنظر في شعرنا الحديث، وتقنية من تقنياته الحداثية، التي أسرف الشعراء فــي اســتخدامها، للتـعبير عــن تجـاربهم وأفكـارهم ومشاعرهم بطريقة غير مباشرة. والرمز بمعناه العام هو الدلالة على ما وراء المعنى الظاهري، مع اعتبار المعنى الظاهري مقصودا أيضا “وهو بلغة أخرى عبارة عن إشارة حسية مجازية لشيء لا يقع تحت الحواس. وتحديده بمعناه الدقيق يستلزم مستويين: مستوى الأشياء الحسية. أو الصورة الحسية التي تؤخذ قالبا للرمز ومستوى الحالات المعنوية المرموز إليها. وحين يندمج المستويان في عملية الإبداع نحصل على الرمز[2].

يعرف مجدي وهبة الرمز بقوله :

كل ما يحل شيء أخر للدلالة عليه، لا بطريقة المطابقة التامة وإنما بالإيحاء، أو بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها وعادة يكون الرمز بهذا المعنى شيئا ملموسا يحل محل المجرد كرموز الرياضيات مثلا التي تشير إلى أعداد ذهنية، وهناك وجه أكثر تعقيدا للرموز هو الشيء الملموس الذي يوحي عن طريق تداعي المعاني إلى ملموس مجرد كغروب الشمس مثلا “.[3]

“الرمز ليس أداة تقرير ومقابـلة وانتخاب، فهو لا يقابل واقعا آخــر، ولا يفترض علـيه ولا يستعير منه ولا يكفي عليه، بل انه ينفذ في ضميره ونواياه ويطلع من قلب المادة الصماء أرواح الحقائق الكامنة فيها. وهو يتم في حالة من التخطف والذهول والرؤيا في أصقاع لا قبل للعقل بارتياده في أساليبه الإيضاحية، فالرمز ينقل الحقـيقة المـبهمة بإبهـامـها وليس من حقيقة إلا وهي مبهمة”.[4]

من خلال هذه التعريفات السالفة الذكر، يتضح أن الرمز أداة من أدوات التعبير الهامة التي لا يمكن أن يستغني عنها الإنسان في حياته. فالرمز يقوي اللغة ويريح المتلقي من عنت الحشو و الإطناب في التعبير عن أحاسيس الإنسان وانطباعاته تجاه الكون والحيـاة و تجاه كيانه الخاص. فالرمز يمتص الانطباعات المتشكلة في عمق نفسية الإنسان. ويكون التعبير عنها بواسطته أبلغ و أوجز من التعبير عنها بلغة مفصلة، انطلاقا مما يمتلكه من مقومات إيحائية تجعله كفيلا لحمل ذلك الإحساس أو الشعور الذي يعجز الأسلوب المباشر عن التعبير عنه. أو حتى إن عبر فإنه يطنب. لذلك يتبوأ الرمز هذه المكانة الهامة في التعبير، نظرا لقدرته على الإعراب عن الإحساس والشعور بكيفية لا تخل بالمعنى ولا ترهق الذوق بالإطناب، وتهز النفس بالإيحاء والإشارة.

2.2  الرمزية الغربية:

تعد الرمزية من أهم المدارس الأدبية التي احتلت مكانة سامية في سلم المدارس الأدبية، مرت بمراحل زمنية متتالية وعلى أيدي أدباء عديدين، قام كل واحد منهم ببلورة الأفكار والمبادئ التي شكلت فيما بعد المدرسة الرمزية.

ومن أهم أقطابها “بودلير” (charles baudelaire) (1821-1867) الذي كان رائدا لها في فرنسا، ويعد مع “فرلين” (paul verlaine) (1844-1896) و “ميلارمي” (stéphane mallarmè) (1842-1896) أشهر شعراء الرمزية.

والمدرسة الرمزية لم تنشأ من فراغ بل تظافرت ظروف وعوامل مختلفة. أدت إلى ظهورها، فقد جاءت كرد فعل ضد بعض المذاهب الأدبية التي ثبت عقمها وعجزها عن تفسير الكون بكليته، حيث بقيت عوامل أخرى غائبة ومجهولة عن المنطق والعلم، كما جاءت ثورة على البرناسية التي أخضعت الأدب للحقائق العلمية المفرطة في الوضوح حيث «إن المدرسة البرناسية قصرت همها على تصوير الحياة الواقعية فهي تنقلها ألواحا رائعات، ولكنها جامدة… أما الرمز وهو بطبيعته متحرك، لأنه انتقال مستقر، فيضع في هذه الجوامد الواقعية حياة لأنه يحولها إلى كائنات نفسية إذا صح التعبير تتدرج في تطور»[5] كما أنها جاءت تمردا على خطابية الرومانتيكية فظهر المدرس الرمزي كأسلوب أدبي جديد يسعى إلى الغوص في أعماق النفس الإنسانية واللاوعي الباطني وأن يعبر عن الانفعالات والأحاسيس اللاشعورية العميقة التي تكمن في أعماق الانسان عند احتكاكه بمظاهر الوجود، فالشاعر الرمزي يريد اجمالا الانطلاق بالقارئ من أجواء العالم المادي المحدود إلى عالم الغيب والمثال وعموما يمكن التمييز بين نوعين من العوامل التي ساهمت في نشأة المذهب الرمزي، عوامل غير مباشرة، أملاها المناخ الثقافي العام وعوامل مباشرة لها فضل كبير في نشأة المذهب ومنها استمد الرمزيون الأسس والمبادئ العامة، فبالنسبة للعوامل الغير المباشرة، يمكن إيجازها الفلسفة المثالية “الأفلاطونية” التي كانت تنكر حقائق الاشتياء المحسوسة ولا ترى فيها غير صور ورموز لعالم المثل: عالم الحق والخير والجمال، التي هي مقاييس لما يجري في منطقة الحس»[6] غير أنه يوجد اختلاف بسيط بين الأفلاطونية والرمزية فإذا كانت الأفلاطونية تنكر الواقع كلية فإن الرمزية تنكر الواقع فقط وتنفذ إلى حقيقة الوحدة العميقة التي تكتسحه نظاما وتنسيقا.

«كما كان لفلسفة كانط” (Immanuel Kant) تأثير بالغ في المذهب الرمزي سواء في أسسه الجمالية أو فلسفته الفنية، والتي تفسح المجال لعالم الأفكار وتصرح بتعذر معرفة العالم الخارجي إلا عن طريق معرفة صوره المنعكسة فنيا»[7].

وأهم ما أثر به “كانط” في فلسفة الفن الرمزي، تفرقته بين الجمال في ذاته والمنفعة، وأهم نموذج لتأثير الفلسفة المثالية في الرمزية يتجلى في أفكار “شوبنهاور” التي اكتست شعبية في الأوساط الفرنسية بسبب ما تتميز به من تشاؤم عميق، كان ملائما للوضع الاجتماعي والثقافي السائد.

إلى جانب هذه العوامل الغير المباشرة هناك عوامل أخرى مباشرة، ساهمت في ميلاد المذهب الرمزي تجلت أساسا في التأثر بأدب “إدجار آلان بو” وهو كاتب وشاعر أمريكي، من أول المجددين الذين ارتدوا عن الواقع، واستسلموا إلى الأحلام الغريبة التي تطل بهم على المجهول المنشود ويتجلى تأثيره الأساسي في مقاله المشهور “المبدأ الشعري” وفيه يحدد مبادئ الشعر لاسيما ما يتعلق بالتجريد الفكري واللاوعي والمثال وتصوير الجمال الحقيقي ويعود الفضل “لبودلير” في تقديم أدبه للقارئ الفرنسي من خلال ترجمة أعماله إلى الفرنسية، حيث وجد فيه أغلبية الشعراء المعاصرين تعبيرا عن ذواتهم الطامحة وثورة فنية خلاقة.

ويبدو أن “آلان بو” لم يؤثر في “بودلير” وحده بل أثر كذلك في “مالارميه” الذي يعتبره البعض المؤسس الحقيقي للمذهب الرمزي و “الشعر عند” ما لارميه” تعبير محكم للمجهود العقلي الذي يهدف إلى الجمال المحض وهو جمال لا يتحقق في عالم الواقع، إذ ليس هذا الواقع إلا رمزا لعالم حقيقي غير منظور»[8].

فالشاعر الرمزي يعتقد بوجود عالم مثالي فيما وراء الحقيقة أو الواقع، يستطيع الوصول إليه عن طريق الشعر ويخلق عوالم متكاملة، لها سحرها وصداها في نفس القارئ، فالقصيدة يمكن أن تشكل حافزا للقارئ للانطلاق من هذا العالم إلى الفردوس الأعلى، وبهذا يصبح الشاعر نبيا أو قديسا أو ملهما لأنه يستطيع أن يتخطى الواقع ويلج الجوهر المختبئ في العالم المثالي وبمعنى آخر يمكن القول «إن الرمزية هي محاولة لاختراق ما وراء الواقع وصولا إلى عالم من الأفكار سواء كانت أفكارا تعتمل داخل الشاعر أو أفكار بالمعنى الأفلاطوني بما تشتمل عليه من عالم مثالي يتوق إليه الإنسان ويحققه له الفنان بفنه»[9].

الرمزية إذن مدرسة واضحة المعالم، مرسومة الحدود مميزة السمات، محددة الأهداف، تنشد المثال وتنبذ الواقع المحسوس، تتخذ من الموسيقى مثالا وقدوة لها، تؤمن بعالم من الجمال المثالي.

  • خصائص المدرسة الرمزية الغربية:

تتأرجح المدرسة الرمزية الغربية بخصائص وسمات تجعلها تتميز عن غيرها، فهي تتوفر على أدوات وآليات فنية خاصة تنفرد بها، وكلما توافرت هذه الخصائص الفنية في العمل الرمزي يكون المبدع قد تشرب مبادئها وتمثلها خير تمثيل، ومن ثمة سيفلح لا محالة في التعبير عن مشاعره وأحاسيسه وتوصيلها للقارئ والتأثير فيه…                                             

                                                                      (يتبع)

الهوامش :


– ابن منظور (محمد بن مكرم)، لسان العرب ، دار الكتب العلمية،ط1 ، 2002 ص 417.[1]

[2]– جبر فريحات (مريم) ، النص الأدبي الحديث في صناعة الأحداث و مواكبتها. عجلون – الأردن – ط 2014 ص 693- 694.

– عمراوي (حسن): إشكالية الحداثة في الفكر العربي الحديث، ط 1 ، 2015، ص 229.[3]

[4]– الحاوي (إيليا)، الرمزية والسوريالية في الشعر الغربي والعربي، دار الثقافة، بيروت، ط 2، 1983، ص 142-143.

[5] ـ أ كرم (نطوان)، الرمزية والأدب العربي الحديث، رسالة دكتوراه، جامعة بيروت، ص: 7.

[6] ـ محمد فتوح (أحمد)، الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر، دار المعارف، القاهرة، ط 2 1970، ص: 48-49.

[7][7] ـ المرجع نفسه، ص: 49.

[8] ـ ـ محمد فتوح (أحمد)، الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص: 84.

[9] ـ لزتشادويك (تشا)، الرمزية، ترجمة نسيم إبراهيم يوسف، ط 1، 1992، ص: 12-13.

عن عبد العزيز الطوالي

شاهد أيضاً

المشهد

عبد الرحيم جداية| الأردن ضعفت خطايَ.. وخطوتي فوق التراب تجرني في إثرها أمشي ثقيلا كلما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات