لسنا نورد مفهوم الهامش ، هنا ، على نحو قدحي ، يفيد الاستصغار أو ما شابه،بقدر ما نحاول مقاربة الموضوع بكيفية تصون للهامش رمزيته وتتماهى مع عوالمه ، باعتبار هذه الأخيرة حاضنة للإبداع الحقيقي المنفلت من رحم المعاناة ،والنابض بإيقاعاتها.
إذ الإنصاف ، يكمن في تزكية علاقة تكامل وتلاقح ما بين المركز والهامش ،كمقابل له ، بمعزل عن الترجيحات الجائرة والمعمقة للهوة بين هذين الغريمين.
فالانبثاق الثقافي يجدر أن يتم من وإلى هذا الهامش الثري والمفتقر إلى التحفيزات الضرورية التي قد تساعد على مزيد من العطاء والتوليدات ،بدل الانتصار لهيمنة مركزية ،مجسّدة لكافة أشكال المفاضلة والإقصاء.
المثل في ذلك كحالة من التناقض ، يمثلها الإغواء الظاهري ، أو أقنعة التسطيح ، ما بين شخصيتين متباينتين ومتضاربتين جملة وتفصيلا : ” البوهالي” فيما ينطوي عليه من أسرار وقطوف كامنة لا تعلق بالطرف العابر ، والحكم على الشكل الخارجي ، إلا كمثل ما تعود به أصابع الفضول ،من ماء بحر لجي هائج مضطرب ومتلاطم الأمواج ، فعين العقل ألا نخدع بأسمال ” البوهالي ” أو أعقل المجانين حسب التعبير الفصيح ، بل ينبغي التوجه والنفاذ إلى ما وراء ذلك ، أي إلى رحاب شعرية مثل هذه الحالة الإنسانية المترعة بحقول الدلالة وفراديس الحكمة والنموذجية والتصوف.
في أغنية ملحمية تليق بسياق ” الجدبة ” أو الشرود الذي يحتفي بسدنة الباطن والاستبطان هذه ، مناورة بخطاب الحكم والزهد والتشبع بالرؤى والحمولات الروحية المختمرة ، وفقا لتيار ذاكراتي موغل في تفاصيل الموروث ،نلفي ما أنشده بقوة وعذوبة صوت الفنان المغربي الكبير عبد الهادي بلخياط ، بحيث تترجم الأغنية رسائل مشفرة وغاية في التلغيز واطراد المعادلات الصعبة ، والتناغم مع نوبات الباطني في فخاخه المشرعة.
[جيتك قاصد وصغا لي و سمعني يا البوهالي
الكية عميقة وانت وحدك عارف عارف مالي
نشكي لك همي والهم سبابو لحبيب الغالي
عشقتو وكواني و رماني للثلث الخالي
وش مكتوب عليا لهبال كلو يا البوهالي
ولا كان هبال ما ينفع لا طبيب و لا والي
ولا بوهالي يالبوهالي] .
متيم محروم يتأمم صومعة ” بوهالي ” متخيلا ، ناشدا الخلاص على يديه ،في قالب يتسع لحوارية متناسقة قادرة على تشرّب ذلكم الصعود أو التفاقم العاطفي الذي يميله شذوذ هذا العاشق ،وقد ضاقت به الأرض بما رحُبت ، جراء هذا الحرمان الناجم عن سمو وترفع المحبوب ،بل إنها سماوات تمنع الحضور الجسدي غير معني به ، تماما ،لأنه وببساطة سمو وجداني ــ ربما ــ لاختبار مصداقية الحبيب وتجريبية حسن نواياه وعذرية مشاعره.
ثم صاحب الشكل الأنيق فيما يتستّر عليه أو يواريه من فراغ ،و من خبث ونتانة وجهل وحقارة وخسة وبهيمية وانحطاط.
من هنا ، لا قيمة للتقدم البشري ، متى صاحبته أعراض جانبية ، ووازته جوانب مرَضية ، مثل التفريط بالأخلاق ،وتغريب الروح إلى آخره من المكامن التي يتمحور عيها جوهرنا الإنساني.
في اعتقادي ، إن بناء الإنسان ، البناء الشامل ، هو الجسر إلى قلب هذه الموازنة التي يصدق فيها حضور شخصية ” البوهالي” منطويا على ثقافة الهامش الملغومة بأسئلة الإحراج والاستفزاز ، كضرب من أبجديات الدروشة الحكيمة ،وآبار النفس الثرية بفلسفة الزهد وأسرار الحكمة والتصوف ، من جهة ، ومن جهة ثانية يُكذِّب فيها التطور والصيرورة البشرية المحلقة بجناح واحد أوحد اسمه المادية المتوحشة في صولتها الرهيبة واستئسادها وعصفها بمعطيات الروح التي هي مركز الكائن في صلته وصميم ارتباطاته بمن وما سواه. بالتالي ، هو بناء مثالي ، تحققه ثقافة الهامش منصهرة في ما يقابلها من ثقافات ، في غمرة تفاعل أفقي / عمودي ، مناهض لشتى أساليب الهيمنة والاحتواء والإقصاء.
بقلم رئيس التحرير ، افتتاحية العدد الورقي الأول لمجلة عبور