“خريف التماثيل ” لعمار نعمة جابر : ثنائية هيكلة الفراغ وإحياء الهيكل
توطئة:
حين كتب داريوششايغان مؤلفه( الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية) في تصور علاقة الانسان بالحضارة ومفهوم الماضي العالق في الحاضر دون تفعيل منحى تطور في المثل الأخلاقية والمعالم الإنسانية والفهم الأيديولوجي المترف بالتَّحول البَنَاء للمُقومات الّتي تحافظ على القيم، كما تشملُ قصة (مغامرات تماثيل نابليون الستة) لمؤلفها(أرثر كونان دويل) منحى آخر حين يجتمع ليستراد مع هولمز حول جريمة تَهشِّيم سِتَّةِ تماثيل لنابليون والبحث عن الأسباب والدوافع، أدركت التقاطع المُهم في قراءة مسرحية (خريف التماثيل) للمؤلف (عمار نعمة جابر) بما تحملُ من طي للصُور، وانغماس تخيلي لوجود استثنائي يَنتُجُ في برودة وقشعريرة الواقع بجمالية خلابة ومترفة.
- مسرحية خريف التماثيل
في شتاء بارد تتشَّكلُ فانتازيا المشهد لتتسع مساحة التّلقي وتُمثل الفضاء الشُّعوري المُنعكس خارج حدود الواقع أو من خلال المُتَّوقع وهو اختلاف المحيط الخارجي عن السَّطح لِقاع المعنى، فالبرودة تسقيف الحالة العاطفية المنحصرة بالمكان الذي يُثير جدلية الانسان وما يلامسه بعد الموت حين يصبح الجسد قطعة للغسل وما يجول في حديث(غاسل الموتى) من تماثلات جيولوجية التَّفكير الإنساني نحو النهايات المصاحبة كأنها محاسبة الانسان للإنسان حسب العمل والفعل تأكيد الجزاء وطبيعة العقل في معاينة الجريمة و العقاب وطبيعة النفس البشرية المنغمسة بين دفتي الخوف والقوة، تتسرب مهارة المؤلف (عمار نعمة جابر) في تسليط تماثيل يجرفها الخريف مموهة بأشكال تتعدد ألوانُها وطقوسُ وُجودها.
- المكان ثلاثي الأبعاد:
يمتزج المكان في مُخيِّلة الكاتب بالتّوظيف الثُلاثي الزمن القابع في الذاكرة بين القوة والضعف وجغرافيا المكان الواصف لأدوات الغسل والمناخالّذي ينتجه الظاهر والباطن، الشّخصية التي توزع التأويل الخارجي للمُتلقي، هذه الأبعاد ناجمة عن بُنية تفكير اجتماعي يختزله في مواقف تتصف مكانيا أمام الجمهور “المكان قاعة لغسل الموتى ، يتوسط المسرح ( دكة غسل الموتى ) ، ترقد على الدكة جثة مغطاة بملاءة بيضاء . إلى جانب الدكة حوضين صغيرين ممتلئين بالماء” (مقطع من مسرحية خريف التماثيل) البرودة والماء والرغوة والجسد وفضاء مفتوح يمتد من المعاني الّتي تتخذها الألفاظ داخل الحوار فيتصور المُتلقي أمكنة متعددة قد تكون قابعة في ذاكرته إلى وضعيات الغسل وحقيقة الموتى فوق خشبة المسرح على (دكة غسل الموتى) أين تتوزع الحقائق وتتفرع جمالية الأبعاد.
- شخصية غاسل الموتى مركزية الذات وتعدد الآخر:
الانسان هو حالة من حالات التّعايش النافذ في التكوين السيكولوجي وأحادي التفكير المُتخم بالظواهر والعادات والسلوكات والأفكار التّي تَنبَنِي مِن الجماعة فتتكون بذلك العدائية أو الأخلاق أو الود أو الكراهية وكلُّ ذلك يتلخص في مفهوم الذات الّتي لا تنفصل باتفاقها او اختلافها عن الآخر فتكون ناتجاً او مُنتجاً.
يصف الكاتب (عمار نعمة جابر) شخصية (غاسل الموتى) “يدخل غاسل الموتى .. (رجل في منتصف الاربعين من العمر .. )”ولابد لهذا العمل أن يخلق صورة مكثفة يملؤها التعب والتشاؤم والتدمر…أحاسيس جعلها في حالات تضمين حواري أو خلفية لمشاهد متعددة اعتادت رؤية الموت وجثث الموتى، “غاسل الموتى : ( متذمرا ) دعوة اخرى لغسل الموتى .. دعوة لا تعرف كيف تباشر فعلها وسط هذه الليلة الباردة جدا ، فعلها المغمس بنكهة لا تنتهي من الموت ، وقد جاءت في غير موعدها ، حيث انتصفت هذه الليلة”( من مسرحية خريف التماثيل) يتضح الآخر عبر الشَّبح الذي يظهر بمختلف الصور ليعكس الايحاءات الملازمة للموقف لكن الغاسل لا يؤثر عليه بروزه من حين لآخر تسكنه كينونة الغياب عن الحياة وديمومة السَّكينة ترسو بأثرها على الأنا المهيمنة على معرفة الجسد وهو حفريات تترجم أحدها ذُلها ومعاناتها وحزنها حين اِلتطمت بالمخاوف في جوف الضُعف والمهانة يشير إلى تفاصيل الأجساد الهزيلة وهو يشير (للأوساخ الروحية) ثم يمنحهم (لحظات لائقة للرحيل) تجسيم للوعي الفني عند المؤلف في تكوين شخصيته “ورغم أن هذه المعاناة تصل بدقائقها إلى توهم الحياة الواقعية، فإن المشاعر فيها مشاعر مكررة وتختلف عن المشاعر الأولية، أي تلك التي نعرفها في الحياة الواقعية: أولا لأنها قد هذبت مع الزمن من التفاصيل الزائدة، وظلت في الذاكرة الانفعالية محتفظة بالشيء الجوهري فقط ثانيا: لأنها تحمل خاصية موهبة الفنان التي تعطي خلقها على خشبة المسرح عناصر النبل الجمال و الجاذبية وهذا ما يجعل من حياة النفس الإنسانية حياة فنية، شاعرية مهذبة مشبعة بصدق نموذجي”( إعداد الممثل في المعاناة الإبداعية، تأليف: ستانيسلافسكي، تر: شريف شاكر، الهيئة المصرية العامة،1997م، ص.12)الشَّخصيات البارزة في المسرحية (الغسال) والمضمرة الظاهرة في جوهرها(الشبح) في أداء دائرة الحوار مرتفعا لحالة الذهول بعد رؤية جسد (الزعيم) الذي كان يمثل عالماً من المخاوف، فينزع أوسمته والنياشين يعلقها فوقه ليعتلي تلك الهيبة والزعامة، لكن ما يترسب من خوف يقع موقع التردد والذهول بحوارات تنحرف بين الحكمة والسخرية والهجاء المنفلتة في عملية تطهير الزعيم من دنس ما اقترف مسترسلاً بين الوقائع (ما يديك هاتين يا سيدي .. يداك التي قتلت .. وانتهكت .. واقترفت .. وسلبت .. وقطعت .. وكتبت .. واكلت فيها .. ارواح الأخوة والأصحاب والوطن .. انها بحاجة الى رغوة أكثر كي تطهر ( يسكب الصابون السائل على يد الزعيم اليمنى ويبدأ بدعكها بهستيريا مفرطة ) يدك تحتاج الى صابون أكثر .. رغوة أكثر .. ودعك أشد .. واشد .. ( يتوقف وهو ينظر الى كل جسد الزعيم .. ثم يبدأ بدعك قدمي الزعيم ) وهذه قدماك هي الأخرى بحاجه الى أن ادعكها .. أدعكها .. حتى تتبخر كل الاماكن المظلمة والقاسية التي قدت أبناء هذه الأرض لها .. حيث الحروب والحصارات والمغامرات الخاسرة ، أقدامك التي حملتنا جميعا الى الضياع وفقدان الأمل) (من مسرحية خريف التماثيل) سرعان ما تتحول هذه العبارات و المشاعر لوجود مخملي وسطوح تحملُ نظرة السلام والخلاص، تتحول الأحداث من جديد في إعادة إحياء النموذج المجرم في حق البشرية إلى رجل يتخذ هيئة أخرى تتمثل في الورع أين تضمحل الحالة العسكرية إلى حالة دينية عابثة تنسلخ خلف الخُطَبِ والسَّيطرة على العقول بدل الأجساد ومن ذلك تزداد أكثر انتشارا ويصور المؤلف المسدس الذهبي الّذي لم يتخل عنه، تنتقل ضرورة الكائن هنا إلى مكانة تستقر بين ذهن البشر القابعين داخل تماثيل ما يمثل لهم القداسة دون فهم وضعية التمثيل الثقافي والسلوكي تنجرف أو تتحدى مقام الفعل الفكري ومواضع ما يحققه الانفعال الفني نحو مقصدية مسرحية(خريف التماثيل).
- كينونة البؤس وجمالية الشقاء:
بين زعيم يقع بين يدي غسال الموتى الّذي يدعوه الشبح (قشمر) يدلي بأحاديث يعبر فيها عن قسوة وسوء والعامل اللاإنساني عند أداء عملية الغسل وسرعان ما يعود بعدما يعطسُ إثر الماء البارد ليتحول من قائد قاتل ومجرم دمر إنسانية البشر إلى شيخ يخطب بعدما غير هيئته وترك الباطن متحللاً ينشر وجوده بماهية أخرى.
ينثني مبدأ الكينونة هي هياكل من الأجسام التي تتشكل عبر الموصوف اللفظي للغسال لكنها حاملة للأفكار التي يفرزها النص من خلال ذهن المؤلف، كثيرةٌ هي المواقف الارتباطية بين الايهام والاستيهام يكون (فعل التّوهم وفعل تحقيق الخيال الموهم بالواقع المختزل برابط الرؤية المشفرة بين المخيل والتفاعل الفني لبناء كينونة أقرب من الواقع عند المتلقي، وبهذا يحقق ( عمار نعمة جابر) لغة نص مسرحي يماثلُ الفن في مركباته ويركب فنية العمل بالحركة التي تحسها قبل العرض من خلال المنتج الكتابي “ونحن نؤمن بأن الفن هو الذي يصنع الموضوع ….والفن موهبة وثقافة ….ثقافة فنية…فإذا توافقت هذه الثقافة توفر النقد الموضوعي الذي لا يقوم على النقد الموضوعي بل على أساس من التحليل والمقارنة”( رشاد رشدي، فن كتابة المسرحية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1998م،ص.16)في هذه المسرحية يتخذ المؤلف من العنوان مجالا خصبا للدلالات العميقة والمحفزة للتراخي بين معاني الخريف انتظارا لفصول أخرى قادمة الشتاء و الربيع والصيف أين تقبع التماثيل ذاتها بفصول أخرى وتجسيم صور مختلفة.