من العدم إلى الإيجاد ، ومن المستحيل إلى الممكن ، ومن الذبول إلى البياض ، هذا هو التحول الذي أنتج صراع الأضداد.
يكتسي عنصر البياض أهميته من قدرته على خلق الترتيبات الكونية ،تكون أقرب إلى أصل الكائن الصلصالي ومنبته السماوي ، كلما أوغلت في مفاهيم الثقافي وتكيّفت مع عوالمه ، وتفادت الاصطدام مع الإيديولوجي والديني .
تعترف المدرسة الفشارية بقدسية هذا الدال ،وتمجّد كل ثقافة تنحو أو تنزع النزوع الذي يصبغه ، أي هذا المفهوم ، بالحضور الإنساني ، ويجعل منه صوتا روحيا بامتياز ، يناهض كل شذوذ قد يجور على الإنسان باعتباره مركزا ،لا هامشا ،وجب بالتالي بناؤه ، أي هذا الإنسان ، البناء الصحي السليم ، والاستثمار فيه على نحو يكون فيه التشبث بالحرية الأكثر استحواذا ، والأدعى للاستنطاق والمساءلات الفلسفية والوجودية والحضارية ، وشغرا لحيز الهواجس الإنسانية المجمّدة والعالقة .
إن ما تترعه الثقافة في أي مجتمع من المجتمعات ، بصرف النظر عن التصنيفات والمفاضلات الدولية ، لهو من أبرز ما ينقل الغائية الإبداعية إلى مستوى الرمزية والمثالية ، التي تظل الشعوب مهما كانت ، متقدمة أم متخلفة ، في أمس الحاجة إليها ، من أجل تطوير الحال واستشراف المآل ، وفي الحقيقة أنا ضد الفكرة القائلة بأن الفكر إنما تنسج ملامحه المعدة الممتلئة ، ومن السهل جدا أن نجد ما يفند ذلك ويدحضه ،بشكل أميل إلى خطاب العقل ،وصدق من قال أن البطنة تذهب الفطنة …
ما الذي قاد إليه هذا الفراغ في بياضات الهوية العربية مثلا ، وفق التاريخ الاستعماري الطويل والممتد في حضورنا السطحي ، لأننا بتنا نغزى بشكل ذكي جدا ، يقلص مساحات وحظوظ الاستفادة من ثروات أوطاننا لصالح وصاية وغطرسة ونفوذ القوى العالمية العظمى ،من قبيل أمريكا..؟
غالبا ما نحمل التاريخ مسؤولية أخطائنا ، علما أن التاريخ إنما يكتبه المنتصر ،أما المنهزم فيلعب دور المستهلك والمتفرج ، مضطرا بذلك ، إلى المشاركة في جريمة كونية كبرى تتحكم في الدورة الحضارية .
هكذا شكل الذبول منعطفا للتحول أو الخروج من حالة إلى أخرى ، غير أن ما يحدثه الثقافي في البياض الذي تتسبب به مثل هذه الاختلالات والثغرات ، لا يبرز إلا مقترنا بالبراءة التي ما ننفك ننوّمها فينا ، معطلين جوانب النوراني في دواخلنا ، مانحين السلطة لآليات الاستعباد والاستبداد وتغريب الكائن عن هويته الأصلية والنابضة بمشاتل الجمال والهشاشة والإنسانية والكمالات البديهية والفطرية .
في الأخير ، لن تحكم على مجتمع إلا من خلال ثقافة تلون بياض امتداده في هويته .
ما الذي جناه علينا الانفتاح الأعمى ؟ ثقافة هجينة أخفقنا ونحن نحاول إسقاطها على هذا البياض ،ورهناها بخلافات أيديولوجية وعقدية ،من صنع أنانياتنا وارتباطاتنا المصلحية ، وجعلناها فوق القوة العقلية المتيحة لكافة أضرب التأويل والتمحيص ، في محاصرة الحالة التي يغلفها بياض زيغنا عمّا رسمته لنا الحضارة العربية ، في غمرة تحرير العقل وتقديس الفلسفة وانتعاش الاجتهاد .فعشش في العقول خطاب التفاهة ،وتم تبني ثقافة سطحية حققت عبرها ومن خلالها الدوخة التي تخدم التقاطعات المصلحية بين التابع والمتبوع ، وبمنتهى النفعية التي تكرّس تجهيل وتجويع وتفقير الشعوب .
إنه بياض متوقف على تثقيف من داخل شرخنا العربي العميق ، وليس من خارجه . تثقيف يقول للتفاهة كفى ، ويتحلى بشجاعة الإصغاء إلى صعاليك الأمة النبلاء .
ذلكم التثقيف الذي ينتهك سياقات بياض هويتنا ،على نحو مُلهم ، وموح بأن بناء الأجيال إنما يمرّ عبر تحرير العقل أكثر فأكثر .
من خلفية فشارية ،نستشفّ كيف أن البياض، ليس مجرد محطة للبعث والإحياء ،بقدر ما هو وقفة صريحة مع الذات ،تعرّي زيف الأقنعة، وتجدّد مقاربات البشري والتاريخي ، في أبعاد عقلية ، بما يُتيح تجاوز احتواء الآني ومعالجاته ولملمته ، إلى آفاق الاستشراف واقتحام المجهول .