أحمد الشيخاوي|
بين الحقيقة والوهم ، تظل الذاكرة ترعى رموز النكت والطرائف ، والمخيال يضيف إلى موروثهم أو يحذف منه ، حسب ما تقتضيه الحاجة وتفرضه خصوصية تعاقب الأجيال، وليتماشى في صيغته الجديدة مع متطلبات التّعصرن و حتمية التطور البشري.
لكنها الروح ذاتها وإن تلوّن اللبوس وتدثرّت شخوص الفكاهة في امتدادها للنواة أو الشخصية الأم والتي تعود من حيث الظهور وتبعا للنسب، إلى تفرّعات ثلاث : المدعو أبو الغصن دجين الفزاري الأموي، والشيخ نصر الدين خواجة الرومي، وأبو نواس البغدادي الجليس الشخصي لهارون الرشيد في الشعرية والتنكيت.
إن غرائب جحا لا تحصى،وأتباع شخصيته الاستثنائية في أسلوبية وإضحاك العالم ، كثر أيضا ،توفقوا إلى حدّ بعيد في تقمصه دونما تكراره أو اجتراره أو بعث جحا الأصلي وترجمته حرفيا.
كما أنها شخصية أسطورية تبنت ثيمة الفقر لتطعن في نزاهة المناخات السياسية السارية وتدين الحكام ، وتوظف سائر ضروب التلاعب والتحايلات فيما يعطي انطباعات زائفة وكاذبة وغباء مفتعل ممكّن من تحقيق المآرب الذاتية دون عناء أو مجهود يذكر.
على سبيل المثال، نجد كتمظهر لأسطورة جحا ، في أدب الكوميديا السوداء المغربية الكلاسيكية ، شخصية “حديدان”، والتي تروي سيرة رجل لم يجد غير طاقته الذهنية وذكاءه الحاد كسلاح لمجابهة حياة الفاقة والعوز والنظرة المجتمعية المتسمة بالدونية والازدراء.
هكذا انطلق في ممارسة شيطنته على خلق الله، تحت غطاء المزاح اللذيذ ، وإشاعة روح النكتة في طبقات مجتمعه على مختلف مشاربها وتوجهاتها ،وقد تأكد في محطات عديدة كيف أنه أفلح ككائن خارق في استغلال كل من يصادفه في طريق ترحاله الطويل وتجواله وهجرته من بلاد لأخرى،شريطة أن يبادر الطرف المستهدف بالإساءة و فضاضة الجانب وقناع البغي.
إنها لعبة فكاهية محبكة جدا ، وقد انطلت على الساسة والحكام أنفسهم فعرّتهم وأبانت عن عجزهم وساديتهم ،بقدر ما أثلجت صدور البؤساء وأدخلت السرور إلى قلوبهم اليباب الفارغة إلا من سخطهم على الوضع ، و خولتهم الضحك ملء ثغور وهامات لطخها راهن الاستعباد والجهل والغبن والتعسف.
بيد أن ما يسترعي اهتمامنا من مرام تسليط الضوء على مثل هذه الظاهرة الأبدية البروز والتجليات، ويحفّز نخوتنا ،هو كمّ التناولات الموبوءة وغير الواعية في ارتباطاتها بالصناعات السينيمائية والتلفزيونة وحتى الإذاعية،حين يكون المحفز الأوحد ودينامو بعث الموروث من رماده ،جني الأموال الطائلة والاتجار في أدب الرموز فقط.
كون ما ينشر إذا استثنينا النزر القليل جدا، لا يراعي ولو قطميرا ، الذائقة المسهمة في بناء الإنسان السوي والمتحضر، ومن ثم إنتاج الجيل القوي والمثقف والسليم.
لوحة الفنان والشاعر العراقي المغترب مهدي النفري