عمّان –
صدر حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون” في عمّان كتاب “جماليات النص الأدبي” للكاتب الليبي يونس شعبان الفنادي يقرأ فيه مواطن الجمال في المشهد الإبداعي الأردني من خلال نماذج مختلفة في القصة والشعر والرواية.
الدراسة النقدية المهمة التي أهداها الكاتب إلى روحَي خليفة التليسي وعيسى الناعوري تُعنى بتجارب أدبية أردنية، وهو إهداء دالّ يشير إلى حقيقتين؛ أولاهما ريادة الرجلين في ربط جسور الأدب العربي في هذين القطرين الشقيقين، وثانيتهما أنّ ما أسساه لم ينقطع، فها هو كاتب مجتهد في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يتابع دربهما بهمةٍ واجتهاد.
ويطل الفنادي في هذا الكتاب على صنوف الإبداع الأردني في أبرز تجلياته، وهي القصة القصيرة والرواية والشعر، وبذلك يؤكد اهتمامه بتعبيد جسر غني متنوع مع هذا الإبداع. فيتناول «شبابيك» محمد عارف المشة، التي تعبر عن تجربة عريقة ولافتة في القصة القصيرة جداً، وبذلك يبدأ بهذا اللون الذي ما زال يثير الإشكالات في الساحة النقدية العربية.
ويرى الفنادي أن الأديب محمد عارف مشّه من الكتاب المميزين الذين يملكون تجربة جديرة بالاهتمام في مجال فن كتابة القصة العربية القصيرة جداً، فنصوصه في «شبابيك» هي عبارة عن التقاطات سردية قصيرة لمشاهد حياتية سريعة عابرة ومواقف تتسرب في زمننا ولا نحس بها إلاّ حين يقبض عليها غيرنا ويقدمها لنا باقة تحمل كل التنوع الجميل مثل الذي فاجأنا به الأديب محمد عارف مشّه.
ففي بعض نصوص «شبابيك» يظهر جلياً واضحاً أسلوب المخرج السينمائي الانجليزي العالمي «ألفريد هيتشكوك» المباغث والمفاجيء، والصادم أحياناً لكل التوقعات التي قد يحملها المشهد، ففي أقصوصته: (سلخَ فروةَ رأسِ الخروفِ. وضعَهُ في القدرِ. استيقظَ الخروفُ من نومهِ. ماتَ الرجلُ من الرُعبِ). ومن خلال هذا التصوير الانقلابي غير المتوقع في هذه القصة يشكل مفاجأة صادمة للمتلقي تتوقف عندها حواسه ويظل مبهوراً بهذه الالتقاطة الافتراضية الجميلة، والخيال الخلاب البعيد المدى والمتسع لكل غريب ومثير ومبهر.
ويؤكد الفنادي ان القاص “مشّه” يمتلك التقنيات السردية الفنية التي واظب عليها في «شبابيك» كاستعمال صوت الراوي في الخطاب السردي بدلاً عن تسمية شخصيات معينة أو إجراء حوارات متنوعة لإيصال فكرة ورسالة النص، وهذا أمر تفرضه طبيعة مساحة النص المحدودة ونوعية الجنس الأدبي القصير جداً، فظل الكاتب متوارياً عن الظهور يبعث رسالة المشوقة بكل خفة ولطافة وذكاء، ليذكرنا بأصوات مسرح العرائس التي يلعب فيها صوت الراوي دوراً مهماً في ترسيخ فكرة الرسالة المتحركة بذهن المتلقي.
ويقدم الفنادي قراءة معمّقة في نصوص “مشّه” حيث يرى أن السؤال ظل حاضراً في (شبابيك) بأدواته المتعددة (كيف، متى، لماذا، أين،…) إضافة إلى التكرار المتنوع، واستخدام مصطلحات من التراث القديم والتأثر بالتقنية الحديثة والانترنت والتواصل الإلكتروني بشكل واضح.
كما يتناول الفنادي تجربة الدكتورة نهلة الشقران المتميزة وذلك عبر مجموعتها «أنثى تشبهني»، وتتميز الشقران في هذه المجموعة بأنها تكتب القصة القصيرة حسب قواعدها الكلاسيكية العريقة، كما أنك تجد فيها رائحة البيئة الأردنية وطعمها ولونها. مستلهمة من جدتها جماليات السرد الشعبي أو الفلكلوري فنسجت قصصها العصرية وكتبتها وأطرتها بتقنيات وفنون وأساليب القص الحديثة. وهذا التأثر الوفي والجميل يبدو جلياً واضحاً من خلال اللغة البسيطة التي صاغت بها الدكتورة نهلة الشقران مواضيع قصصها المستحضرة من روح وأنفاس فضاءات التراث الأردني الزاخر بالحكايات ذات المضامين الإنسانية وكذلك التقاطاتها للصور الحياتية المعاشة في حاضرنا اليومي.
ويقرأ الفنادي أساليب القص والقدرة الفائقة لدى الشقران في مجموعتها، وفي القصة العنوان «أنثى تشبهني» يؤكد الفنادي أننا أمام نص سردي مفتوح تنسجه خيوط راوية حالمة تغزل بمفردات لغتها الرشيقة فضاء بوح داخلي يكتظ بالأسماء المتفاوتة في مجالها وزمنها التاريخي مثل يعقوب، كافكا، مي زيادة، عنترة، عبلة، شهرزاد ودلالاتها المتباينة التي استطاعت القاصة توظيفها بشكل يثري ويعزز فكرة نصها، وينقل لنا جانباً من مطالعاتها ومعارفها وذخيرتها الثقافية والفكرية. كما ازدانت «أنثى تشبهني» بالأسئلة المباشرة (.. من قال إنه ودعني يوماً؟ من قال إنه سافر بصحبة شبابي وعاد محتجباً برداء وقاري؟!) وهذه بدورها تفتح الشهية للمزيد من الأسئلة الأخرى التي تدير محركات التفكير والتأمل في ثنايا النص والإبحار في أعماقه سواء وفق ما خطته مسارات القاصة أو عبر دروب أخرى غيرها. وهي بذلك تقدم نصاً ثرياً بالحوار الذاتي أو المونولوج الداخلي الذي تجوّل بنا بشكل انسيابي رقراق داخل فضاء قصصي أخاذ يلامس شغاف الروح ويطرق أجراس العقل ليضيف إليها الكثير من المتعة الأدبية و الاستنارة الفكرية التي ترتقي بمستويات القاريء وتترك بصماتها واضحة في وجدانه وفكره.
ويختم الفنادي بأن تقنية السرد عند الدكتورة نهلة الشقران تتأسس على عدة عناصر جمالية أجادت توظيفها تقنياً في إخراج وصياغة وسرد قصصها القصيرة فجاءت معبرة عن أفكار الذات المبدعة بكل بساطة ويسر وبلاغة، لتعكسَ أبعادها الإنسانية العامة والأنثوية المرهفة الخاصة، وقد زادتها غلبةُ التكثيف السردي عذوبة ووضوحاً ومتعةً من خلال تميزه بدقة المفردة اللغوية وبلاغة الصورة القصصية وتتابعها الحكائي، وتوازن النفس التعبيري المحافظ على مساحة ورسالة القصة وصونها من الارتماء في أوحال الترهل والإفراط اللغوي والتضخم النصي، مستخدمة لغة تأسست على المفردة الشاعرية البسيطة الواضحة المفعمة بالدفء والجاذبية، وكذلك من خلال استنطاق وتحريك شخصياتها الودودة داخل إطارها وفضائها القصصي المحدد، تارة باستخدام أسلوب الوصف الدقيق المعزز بالتفاصيل والخيال الخلاب الواسع، وتارة أخرى بالحوارات القصيرة المباشرة، وثالثة بالإبحار في أعماق المونولوج الداخلي والخطاب الذاتي للساردة أو السارد الذي تطلقه على ألسنة الشخصيات وتنقل به بعض أفكارها وأحاسيسها.
ثم يتناول الفنادي مجموعة جعفر العقيلي القصصية الأبرز والأميز «ضيوف ثقال الظل»، والتي يؤكد الفنادي أنها تشكل علامة فارقة في مسيرة القصة القصيرة الأردنية، مضيفا أن التجربة القصصية عند الأديب الأردني جعفر العقيلي تتأسس على سيرة إبداعية مكللة بالتميز والتفوق طوال أكثر من عقدين من الزمن تقريباً، نال خلالها العديد من الجوائز والتقديرات سواء داخل الفضاء الجامعي أثناء دراسته الاكاديمية وتخصصه في علم الكيمياء أو خارجه.
ويرى الفنادي أن القاص العقيلي يعتمد في أسلوبه السردي المميز بدرجة كبيرة وبشكل ملحوظ على السؤال البسيط والمركب والفلسفة الفكرية في صياغة بانوراما قصصية تتسرب إلى أعماق القاريء بشكل موغل وآسر، لا يمكنه صدها أو مقاومة عذوبتها اللغوية والبلاغية بل ينساق وراءها ويستسلم لها مبتهجاً بكل جوارحه وأحاسيسه.
ويتعالق الفنادي مع تجربة العقيلي حيث يقرأ في مجموعته القصصية (ضيوفٌ ثقال الظِلِّ)، وفي الجزء الخاص بهذه القصة التي اختارها عتبة المجموعة وواجهة عنوانها، يرى الفنادي أنها خلت من كل أنواع الأسئلة المباشرة والصريحة والحوارات والشخصيات، وظل السارد وحده يتنقل بنا في رحاب فكرة القاص وتطوراتها وتداعياتها عبر مشاهد زمنية ومكانية مختلفة، يحكي فيها عن عدد الأشخاص الذين تزدحم ذاكرته العقلية ودفاتره الورقية بهم، فصاروا عبئاً ثقيلاً عليه، مما استوجب ضرورة التخلص منهم بحرقهم وإعدامهم.
ورغم أن العقيلي يمتلك مخزونا يكتض بالأفكار المتنوعة، وذاكرته حبلى ومكتنزة بالأحداث والمواقف، ومخيلته خصبة غناء، ويملك أدواته الفنية التي تمكنه من تسخير كل ذلك للتعبير عنها وتشكيلها في قوالب سردية تنال نصيبها من القبول والاستحسان والإشادة. إلا أن أسلوبه هنا يتوافق مع رؤية «رولان بارت» لمفهوم السرد وأنواعه المختلفة حين أكد بأنها كثيرة ومتعددة لا حصر لها، لأن السرد – كما يراه- يمكن أن تعبر عنه (.. اللغة المنطوقة شفوية كانت أم مكتوبة، والصورة ثابتة كانت أم متحركة، والإيماء، وعلى هذا الأساس اختار القاص بأن يكون هو السارد الوحيد الذي يروي قصته مع أبطال آخرين يعتبرهم ضيوفاً ثقالاً، معترفاً بتذمره من مآل علاقته البغيضة معهم، وصعوبة اتخاذ موقفه الشخصي الحاسم بوضع حد لتلك العلاقة.
ويؤكد الفنادي أن العقيلي في هذا العمل القصصي استطاع أن يؤسس نصه من خلال عوالم متداخلة ومترابطة تحمل الكثير من الانتماء إلى جنس القصة بأسلوبها السردي المميز، يجمع فيه العديد من العناصر الفنية ويوظفها بشكل متجانس لصناعة نص قصصي ربط فيه العلاقة الجنسية بين الإنسان والحيوان وانعكاساتها النفسية والاجتماعية وإسقاطاتها الرمزية وعمل على إثرائها بالكثير من الشواهد والحوارات الممتعة.
وبعد استعراض الفنادي لمجمل قصص مجموعة (ضيوف ثقال الظل) يرى بأن الأديب جعفر العقيلي قد أجاد استيعاب هذه الجماليات وأتقن أدواته اللغوية والخيالية في إنجاز قصص تزخر بالعديد من الجماليات الفنية وهذا يتجلى إجمالاً في الإخراج الفني الذي يعتمده خطابه السردي.
ينتقل الفنادي إلى حديقة الشعر الأردني الغنية، فنجده يتوقف أمام عمل عاطف الفراية المدهش «أنثى الفواكه الغامضة»، وهو الشاعر الذي ظل وفيا لقصيدة التفعيلة في عمله الشعري، وعلى الرغم من تركته الشعرية المحدودة كَمَّا يبقى الفراية واحداً من أبرز الشعراء الذين قدموا صوتاً خاصّاً لا يتكرر. مؤكدا أن تجربة عاطف الفراية الشعرية نضجت مبكراً حيث تتجلّى فيها عناصر موضوعية واضحة تجسدها ثلاثية الحب والوطن والجمال، وتشكل القاسم المشترك الذي تتأسس عليه أغلب نصوصه الشعرية التي نسجها من وحي استنطاق الذكريات الدافئة، ولهفة الشوق للأرض والوطن والأحبة، ولذلك فإن نصوص شاعرنا الراحل لا تقوم على صور حسيّة افتراضية ينسجها خيال خلاب جامح ممتع، ولا تغرق في سبحاته وتجلياته الرحبة الحالمة أو القاتمة، بل تقتنص قيمتها من واقعية الحياة رغم ما تكتسيه من مرارة وقسوة، ومن ثم تطلق عنان العقل للتأمل والتدبر فيها وتحليلها ومحاولة الاقتراب منها والتعاطي معها بفكر رصين للشاعر الذي يكابد ويواجه صوره الحياتية بكل شجاعة وجرأة وتضحية، وكل هذا يجعلنا نؤكد بكل الثقة واليقين أن الشاعر الراحل عاطف الفرّاية يستخدم لغته وزمنه وفكره ليكتب قصيدته الخاصة التي تحمل بصمة ذاته المبدعة وبالتالي فهي ستظل عنواناً لقلبه وفكره وأشعاره على الدوام.
ثم يحتفي الفنادي بعملين لكاتبتين تنتميان إلى الجيل الجديد الذي بدأ الشعر بكتابة قصيدة النثر، وهو ما يثير التساؤلات حول مدى وعي هذا الجيل بالقصيدة الحداثية، وقدرته على التفريق بين قصيدة النثر والخاطرة أو حتى القصة المنتمية إلى تيار الحداثة، حيث يتناول الكاتب عمل سهى حدادين الأول «لروحك ألملمُ حروفي» وعمل غدير حدادين الثالث «سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق.
يختم الفنادي كتابه بتناول تجربة روائية واحدة هي “أنثى افتراضية” لفادي مواج الخضير، وهي تجربة مختلفة كما يُظهر عنوانها، تعمد إلى الفضاء الإلكتروني لتصنع مسرح أحداثها، لكنها تشكل نموذجاً روائياً أردنياً دالاً.