“حسْب القصيدة أن تولد كأنها القُبلة الأولى”فاطمة منصور/ لبنان

حاورها أحمد الشيخاوي

قالت أن قيمة الشعر ليست في غموضه أو وضوحه بل هي في جمالياته وإيحاءاته وقوة تأثيره.

هي مثل عصفورة عاشقة للحرية ، والتحليق أبعد ما يكون ، في سماء الإنسانية والإبداع ، حدثتنا بقلب نابض بالحب ، وذهن صاف ليس تلونه عدا هواجس الهوية والانتماء للقضايا الإنسانية والعربية الكبرى .

هكذا تكتب الشاعرة اللبنانية المرهفة فاطمة منصور ، وهكذا يُفترض أن نقرأها ، قامة تذود عن منظومة قيم : الحرية والمساواة والمحبة والتعايش إلخ …

 للاقتراب من عوالم فاطم الإنسانة والمبدعة ، على حد سواء ، أجرينا معها الحوار التالي ،و فيما يلي نصه …

الشاعرة اللبنانية فاطمة منصور

أطالع لك منذ زمن طويل ، وما يعجبني في تجربتك ، هو اعتمادك تقنية السهل الممتنع ، حتى أنك بتّ تجسدين نموذجا بينيا ، إذا شئنا ،في الإبداع الشعري بصيغته الحداثية ،  لغتك صافية وهي أيضا محققة لروح الشعرية ، كيف تنصحين من يستهويهم الغموض الشعري ، كما المتأثرين بما هو أقرب إلى التقريري والإنشائي ، والذي هو نثري أكثر منه شعري ، ممن يحسبون على الحداثة الشعرية ..؟ كيف يمكن تبوأ المنزلة البينية بين الحالتين أو التوجهين ..؟

بديهي أن يسعى،الشاعر إلى التفرد .. حلمه أن يحلق ليكون شعره مرآة لذاته،جديدا وإبداعيا ، ليستحق موقعا في زحمة الشعراء. هذا الهدف،كان حافزي منذ أطلقت همساتي الأولى ملونة بلون روحي وألوان مشاعري .

نعم ترددت كثيرا في البداية،لكن كنت أمتطي صهوة حلمي إلي حيث أجد ذاتي محل تقدير.

حققت أشواطا في هذا الطريق الشائك والحمد لله صرت حالة لطالما حلم بمثلها الشعراء.

أما كيف أكتب،فسؤال تصعب الإجابة عليه. ولا أخال شاعرا حقيقيا يعرف كيف يكتب.

هي رحلة شاقة، ننطلق إليها قسرا نتيجة ضغط حالة تلم بنا،

أو قل هكذا أنا ، نفسي. أعيش تلك الحالة بذهول محمولة بأجنحة أثيرية إلى ناصية عالية مطلة علي بساتين وجنائن تتماوج جمالا. ولا ادري كيف اقطف عناقيد الجمال فأراها،بلا وعي،قد انتظمت عقودا تزين جيد حسناء

نعم هكذا تولد قصيدتي. كل مرة استجيب لنداء الوحي فامضي بشغف عاشقة ستلتقي حبيبها لأول مرة

وهكذا تكون القصيدة كل مرة كل مرة شأن القبلة الأولي في رحلة الحب.

فالشعر قيمته ليست في غموضه أو وضوحه ، بل هي في جمالياته وإيحاءاته وقوة تأثيره.

أيا كان الشكل.فالقصيدة الحديثة قصيدة النثر فيها من الجماليات، وبساطة اللغة ،ما يرقى إلي أعلي مستويات الشعر،دون أن يعني ذلك غضا للنظر عن قيمة الشعر الكلاسيكي.

ونصيحتي للزملاء والزميلات، أن نرتاد عالم الشعر بسلاح الحب وعشق الجمال وبعد الرؤيا ، فنعيد لشعرنا العربي ألقه.

كانت بيروت عاصمة العرب الثقافية ، برأيك هل مازالت تحتفظ بهذه الميزة ، أم أن هناك من العوامل ما جعلها تتخلف عن مثل هذا الدور الطلائعي والريادي …؟

كانت بيروت بالفعل عاصمة العرب الثقافية.

كانت ملاذا للشعراء والكتاب والمبدعين العرب ،يقصدونها لينعموا فيها بربيع الحرية المغيبة في الأقطار الأخرى.

كانت بيروت العاصمة الثقافية منذ عصر النهضة،فصدرت إبداعات أبنائها إلى سائر البلاد العربية.

و إذا نظرنا إلى موقع بيروت الثقافي في القرن الماضي، نلاحظ ما حققته بيروت علي مستوى الثورة الثقافية، إن على مستوي الشعر أو الرواية أو المقالة،فكانت المجلات،مجلة شعر،و الآداب مثلا ،صفحات يخط عليها المثقفون العرب أروع آياتهم مشرعين أبواب التجديد في الأدب، و مطلقين عجلة التقدم في مختلف الميادين.

حسب بيروت أنها استقبلت فحول الشعراء العرب ،حملة لواء التجديد والإبداع، من السياب والبياتي ، وصولا إلى أدونيس ومحمود درويش.

إلا أننا اليوم،و للأسف، نشهد تراجعا ملحوظا في دورها الثقافي. فالأسباب كثيرة، منها ذاتية داخلية ومنها الموضوعي. فعلي المستوي الداخلي تراجعت مكانة بيروت نتيجة فوضي الحريات بالدرجة الأولي ، وغلبة الطابع التجاري عند أصحاب دور النشر. حيث في غياب النقد الأدبي باتت السوق عرضة للاستباحة ممن لا يستحقون أي تقدير.

أضف إلى ذلك ، كفّ العرب عن التعامل الثقافي مع بيروت لأسباب سياسية بالدرجة الأولى، وتراجع حركة التجديد عربيا.

موضوعيا لاشك أن التكنولوجيا الحديثة قد أحدثت انعطافة نوعية في العلاقة مع الكتاب أو الصحف والمجلات ما تسببب بإقفال معظم المؤسسات الإعلامية ،وجعل عمل دور النشر يقتصر على تسويق إنتاج غير ذي قيمة ، لا لشيء إلا لتغطية الحاجيات المادية.

أعتقد أن الشعر أخلف موعده مع قضايا العروبة الأكثر قداسة وحساسية ، بل والقضايا الإنسانية ، لصالح التفاهة التي أملتها حرية زائدة في التعبير ، أقصد ،حين أضحت كتابة الشعر لمن هب ودب ، بفضل هذه الهيمنة الرقمية الرهيبة ، ما هي الرسالة التي قد توجهها شاعرتنا فاطمة منصور ، بخصوص كهذه ظاهرة …؟

كان الشعر دائما نتاج تفاعل الشاعر مع بيئته. لذلك،ومنذ الجاهلية،اعتبر الشعر ديوان العرب ومرجعية الباحثين عن خفايا التاريخ العربي.

أما بخصوص قضايا الأمة اليوم وتراجع تفاعل الشعر معها ، فيمكن القول أن العلة ليست في الشعر، بل في الأمة نفسها ،التي فقدت هويتها واستقالت من مسؤولياتها تجاه تطور العالم وتفاقم مشاكله.

فقد سبق للشعر أن كان صوت الأمة، يوم نكبت بضياع فلسطين،أو يوم استيقظ فيها حسها القومي،فاستحوذت تلك المشاكل علي اهتمام الشعراء، كل الشعراء، ما أفقد الشعر فرصة التجدد، تحت ضغط القضايا القومية.

لا ننفي اليوم أثر الفوضى الثقافية في عالمنا العربي،وظهور موجات من الشعر و الشعراء ،غريبة عن قضايا الأمة.

حتى في هذه الناحية. المشكلة في الأمة. فالشاعر يغترف من معين مجتمعه وإن كان عليه أن يشرع الأبواب للتقدم، فأنى لشعرائنا اليوم ،أن يجدوا المعين الثري الذي يغنيهم ثقافيا ويزيدهم ارتباطا بأمتهم؟

إذا كانت الأمة معرضة عن واجباتها في العمل للارتقاء بالشعوب ، غير مبالية إلا بالسلطة ،مطيحة بالقيم ، متجاهلة قضيتها الأولى فلسطين.

إن لم نقل في موقع العداء لكل من ينادي بالمقاومة، دفاعا عن حق الشعوب التحرير.

فطبيعي ألا يرتقي الكثيرون من شعرائنا إلى مستوى التفاعل مع القضايا الإنسانية، ماداموا جاهلين لحقهم في التفاعل مع قضاياهم الوطنية.

وإن كان على الشعر أن يلعب دورا في يقظة الأمة، فالشعر ينشد الحرية ، وهيهات يجدها في أمة العبيد.

من أجمل النصوص التي طالعتها لأسماء فرضت حضورها مستغلة سائر التحولات التي شهدها ويشهدها التاريخ العربي ، تلكم النصوص التي تناهض الخطاب الظلامي الرجعي ، وتجابه بشراسة أفكار التطرف والإرهاب وشتى أضرب الأصولية ، ومع أنا في أمسّ الحاجة إلى التنويع في الشعريات العربية ، إلا أن ما خطّ لحدّ الآن في هذا الشأو جد قليل ، رأيك في هذه المسألة …؟

كم نحن بحاجة إلى حرية تتيح لنا كتابة ما يجول في وجداننا من مشاعر، وما يراودنا من أفكار تتعارض والثقافة السائدة في بلاد العرب. عنيت الثقافة الدينية بمظاهرها الإرهابية.

فلاشك أن بعض الشعراء الذين خرجوا من الشرق العربي وذاقوا طعم الحرية في مهاجرهم قد كتبوا ولا يزالون،قصائد ذات وزن شعري وفكري. فتلك القصائد القليلة،صوت شعراء كثيرين يتبرمون من القمع الفكري والإرهاب بأشكاله المختلفة. متعطشين لنسمات الحرية ليفرجوا عما في خزائنهم.

فالإرهاب يقتل الإبداع ويحول دون إطلاق أي صرخة احتجاج، بتكفير المعترضين كما في عصور الظلام.

كم مرة أحرق شاعر أو كاتب أو مفكر، بحجة الخروج على تعاليم الإسلام وسنة الرسول ،منذ ابن المقفع وابن رشد والحلاج.

وأولئك الذين ذاقوا الأمرين وألوان العذاب في السجون،

فعلا نحن بحاجة إلى شعريات متنوعة تغني أحلامنا لكن هيهات.’

هل فاطمة منصور راضية ومقتنعة برسالتها كشاعرة …؟

رغم ما حققته حتى الآن،من نجاحات وإسهامات في الحركة الشعرية،إلا أنني مسكونة بطموح ما ، يدفع بي إلى متابعة مسيرتي ، كأنني في بداية التجربة.

واعتقادي أنا، ألاّ اقتناع بحدود معينة يبلغها الشاعر ، ففي ذلك مقتلا لشاعريته،أقول لأنه يضطر للمراوحة في مكانه معتبرا نفسه قد بلغ القمة،فيما للقمة دور في دفع من بلغها ،  للتطلع إلى قمم جديدة،وهذا ديدني في الحياة.

هل استطاع شعر نون النسوة كسر النظرة المحافظة للمرأة عموما وكل ما يكرّس الصوت الذكوري الجائر ..؟

شعر نون النسوة ،في ظل ما حققته المرأة ،على صعيد انتزاع حقوقها في مجتمعاتنا العربية ،كان من الطبيعي ، أن تتجرأ المرأة الشاعرة ، لكسر القيود التي حالت على مدى الماضي ،دون البوح بمكنونات صدرها، تحت حجج دينية باطلة، يتسلح بها الرجل ،تعزيزا للسلطة الذكورية.

واقع أن تشهد الساحة العربية ظهور شاعرات تغنين بحقوق المرأة، فتحدين سلطة الرحل المزمنة، ماساهم في انتشار ما سمي بشعر نون النسوة.

أما بشأن تأثير هذا الشعر،فلاشك أن تأثيره لا يزال محدودا،

فالنيل من سلطة ذكورية متجذرة في المجتمع ليس بالأمر السهل. فمعركة نون النسوة مع الرجل، وإن قطعت شوطا إلا أنهما يزال أمامها أشواطا لابد من متابعتها بدأب وإصرار. ولي في هذه المناسبة ملاحظة ،حول شاعرات المرحلة بأنهن خاضعات لسلطة ثقافة الرجل المعاصر بدليل أنهن في معظمهن والكثيرات تلبسن أثواب الشعر،لا لشاعرية محترمة بل رغبة في الظهور،وهي عوامل غير مشجعة.

كلمة ختامية

أشكر من أعطاني الفرصة للإدلاء بمواقفي،متمنية أن أكون قد أديت الرسالة دون تبجح أو غرور. وإنني من موقعي أتمني أن تنهض ثقافتنا العربية من غفوتها لنستعيد مواقع شعرنا وتألقه.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“حوار مع الشاعر المصري عبد الناصر الجوهري”رانيا بخارى/السودان

ذا كان " الموروث  الذاتي " هو ما خلَّفه القدماء وتوارثته الأجيال، وإذا كانت اللغة ذات التكثيف هى العنصر المهم في تشكيل الأمة؛ إذَا لتحقق التماهي بين الهوية واللغة، و الشاعر الحقيقي هو من يمتلك ناصية اللغة وأنا أنحاز للدكتور" يحيى الرخاوي" فيما ذهب إليه أن اللغة هى إبداع الذات المتجدد كما أنها أيضا تجلِّي المعنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات