مهما كانت كلمات الشعراء ، وأغنيات العشاق ، وحكايات الحب ، فهي لا تصل أبدا إلى لحظة حب صادق يعيشها الإنسان ، مهما كانت روعة الكلمات وجمال الأغاني فإن المشاعر تبقى هي الأجمل والأعمق والأصدق .
إن الكلام الجميل مهما كان جميلا لا يتجاوز حدود الكلمة ، ولكن الحب يزلزل الوجدان ويعصف بالقلب ، ويحتوى كيان الإنسان كله ، إننا عندما نحب تتغير أشياء كثيرة في ملامحنا … تصبح الوجوه أكثر نضارة والعيون أكثر بريقا ، والحياة أكثر جمالا .
وعندما نحب تتغير دقات قلوبنا ،في لحظة اللقاء ، تصير أسرع ، وفي لحظة الانتظار يكون الخوف ، وفي لحظة الوادع تكون الحيرة ، وما بين الشوق والحنين تختلط المشاعر وتذوب الأشياء ، وعندما يتجاوز الحب حدود الكلمات ويصل إلى درجة من التوحد.
بحيث نشعر أننا جسدان في قلب واحد ،وقلبان في جسد واحد، وروحا واحدة تحلق في هذا الفضاء البعيد ، ساعتها ندرك أن سنوات العمر تداخلت في بعضها ، فلم تعد نفرق بين عمر وعمر ، وزمان وزمان . إننا نقول من غير أن نتكلم ونرى ما لا تراه العيون ونسمع ما لا يسمعه أحد من حولنا، من أجمل أحاديث الحب ، أحاديث الصمت ، أن يكون الصمت هو الكلمات التي نفهمها وندرك معانيها دون أن تخرج من أفواهنا كلمة واحدة .
في بعض الأحيان يقول العشاق بالعيون أحاديث طويلة تتجاوز حدود الزمان والأشياء.
وعندما نحب لا نحتاج أبدا لنشرح كل شيء ، لأننا نفهم دون أن نتكلم ،ومع الأيام نتعلم لغة الصمت .
وهي أجمل ما عرفه الإنسان في تاريخ العشق ، قد تختلف اللغات وتختلف الأوطان وتختلف الظروف ، ولكن لغة الصمت تجمع المحبين من كل لون وتاريخ وأرض.
إنها لغة عالمية تتجاوز حدود الكلمات والإحساس والملامح ، من أصعب اللحظات في حياة العشاق ، أن ينشطر النجم ، ويتحول إلى شظايا كل جزء منها يرتاح في مكان بعيد ،من الصعب أن نقطع فرع شجرة ونحن لانعرف أن دماءها تنزف وأن صراخها يملأ كل جزء في هذا الكون،أن نقطع جناح فراشة ونتركها وحيدة في ركن بعيد تحت ظلال زهرة مرتعشة في ليلة برد شتوية ،أن نحمل طفلا صغيرا من صدر أمه ونلقي به في أحد الشوارع .
هذا هوالانشطار في الحب ، أن تجد نفسك في زمان غير زمنك ، ومكان غير مكانك ، وتكتشف أن من كان بين يديك ، صار وهما بعيدا ، وأن من كان يشاركك الحلم والبسمة ، أصبح مجرد ليلة حزن طويلة ، لا تعرف لها نهاية ، وأن من كان الملجأ والملاذ ، أصبح سكونا عاصفا تجتاحه الرياح .
من أصعب الأشياء في الدنيا أن ينشطر حبيبان ، ينقسم القلب ويصبح قلبين يترنحان في جسد واحد.
تتساقط المشاعر مثل بقايا النار ،فلا يبقي من الحريق غير الرماد وبعض الدخان ، جملة جميلة ، سقطت بين اثنين ولم تكتمل ،كسطور باهتة ، تلاشى بريقها ، وصارت سراديب سوداء، يسكنها الصمت والوحشة ، وما بين الحب والتوحد والانشطار، تدور قصص العشاق .
الحب قدر جميل ،بل هو أجمل الأقدار في الحياة ، والتوحد لحظة جنون عاقل، أو حكاية عقل مجنون. إننا في الحب لا نحسب الأشياء ولا ندري إلى أي اتجاه نسير ، وفي أي أرض سنحط الرحال ، وإذا كان التوحد جميلا فإن الانشطار عذاب طويل ، إنه جرح لايهدأ ونزيف لا ينقطع وحزن أبدي مخيف.
هل هناك أصعب من أن تكتشف أن العيون فقدت بريقها ، وأن الوجوه فقد ملامحها ، وأن القلب انكسر على جرح عميق ، وأن من كان لك وحدك أصبح مشاعا لكل الناس.
والغريب في لحظات الانشطار أننا نفقد القدرة على أن نعيد التواصل لكل ما انقطع ، يصبح من الصعب أن تبدأ حديثا ، لأن الكلام انتهى ، يصبح من الصعب أن يمد يدا لأن المسافات صارت أبعد بكثير ، ويصبح من المستحيل ، أن نتسامح أو نغفر ، لأن اللحظات كانت أكبر من قدرتنا على الغفران ، ويكون الانشطار هو الحل الوحيد ، في أزمة صمت انشطرت أجزاء كثيرة من الكون فكانت البحار والمحطيات والجبال والسهول ولا أحد يعرف أسباب هذه الانشطارات.
وفي الحب أيضا لا نعرف كيف تكسرت الجسور وتهاوت المشاعر وغربت شمس الحب عن أيامنا ، ولكن ما نراه أمامنا أن الحياة تغيرت في كل شيء ما عاد البحر بحرا وما عاد السحاب سحابا وما عاد القلب يخفق كما كان ، إن البحر الذي كنا نسافر فيه ، كالنوارس أصبح ظلاما قاتما والسحاب الذي نحلق معه ،أصبح ليلا طويلا ، والقلب الذي كان يغني راح في صمت حزينا، وهنا تكون نهاية المشوار، نجلس على أطلال شيء جميل اسمه الذكرى، نسترجع الصور القديمة ونجمع ألبومات الرحلة وننتقل بين أيامنا في حيرة وتساؤل .
في هذه الصورة كنا هناك ، وفي هذا المكان كنا هنا ، وتوحدنا معا في هذه اللحظة ، وهنا أحببنا وهنا توحدنا وهنا ابتعدنا وكان الانشطار ، وإذا كان الحب لحظة بين الاثنين والتوحد إحساسا بين قلبين ،والانشطار بين حبيبين فإن الذكرى مكان لا يسكنه إلا شخص واحد ، وإنها عمر نعيشه مع أنفسنا بعد أن تتوارى كل الصور وتتحطم كل الجسور ولا يبقى لنا من الحب غير شيء واحد أن نستعيد أيامه الجميلة .
ما ذا يبقى من الجسد إذا فاضت روحه ؟ وأين تكون الروح إذا صارت بلا جسد ؟
هامش : أنظر كتاب ” الحلم الضائع ” لفاروق جويدة .