إنّ العلاقة بين الكتابة والقراءة، أو بين النصّ الأوّل والنصّ الثّاني هي علاقة جدليّة. فالكتابة تؤثّر في القراءة، حينما تستدرجها إلى أغوارها وعوالمها، لتختبر قدراتها، وتمتحن كفاءتها، في لعبة اكتشاف المعنى. والقراءة بدورها تؤثّر في الكتابة، حينما تغوص في أعماقها، وتستكشف خفاياها، فتعيد خلقها من جديد. فقد تساعد الكتابة القراءة، في إنتاج المعنى، والظفر بالدّلالة، والوقوف على المقاصد، فتخدم بذلك النصّ المكتوب، وتيّسر عمليّة تقبّله وترويجه. وقد تخذل الكتابة القراءة، وتُعسّر مهمّة تقبّلها، وتعيقها عن فتح مغالق النصّ، ومعرفة خفاياه، وتصرفها عنه. ولذلك نجد نصوصا قرئت وعرفت فخلّدت، وأخرى قرئت فتركت وهجرت وانقطع ذكرها، وثالثة أسيء فهمها في زمانها فظلمت، وأعيد لها الاعتبار في أزمنة لاحقة، كشأن المدوّنة السّيرذاتيّة للأديب السّوري حنّا مينه، التي عسّرت طريقة كتابتها، وظروف تأليفها ونشرها،وضبابيّة ميثاقها القرائيّ، عمليّة تقبّلها. فما هي مميّزات هذه المدوّنة السّيرذاتيّة؟ وما هي ظروف تأليفها ونشرها؟وكيف تقبّلها الباحثون والنقّاد؟ وما حقيقتها في نظر كاتبها؟
1 ـ خصوصيّة المدوّنة السّيرذاتيّة لحنّا مينه:
لم يكتب حنّا مينه سيرته الذاتيّة كتابة عاديّة مألوفة، في عنوان موحّد، و شكل كتابيّ مضبوط، و صيغة كتابيّة تجمع بين مختلف مراحل العمر. ولم يضع تجربة الحياة في جزء واحد أو في عدّة أجزاء. ولم يكتب هذه المدوّنة في مدّة زمنيّة محدّدة، وعادة ما تكون في مرحلة متأخّرة من العمر، ليضع تجربة حياته موضع تأمّل وتقييم. فيهيّئ بذلك المجال للنقّاد والباحثين والقرّاء، لاستقبال سيرته الذاتيّة، ودراستها في مجملها دراسة تفيها حقّها. بل نجده قد خالف هذه المسارات المعروفة المألوفة، في كتابة السّيرة الذاتيّة. إذ بدأ الجزء الأوّل من محكي طفولته “بقايا صور”1 سنة1975 وهو في الحادية والخمسين. وكتب الجزء الثّاني من محكيّ طفولته “المستنقع”2 سنة 1977. وأصدر الجزء الثّاني من سيرته الذّاتيّة القلميّة “هواجس في التّجربة الروائيّة”3 سنة 1982، ليستكمل الجزء الثّالث من محكيّ طفولته “القطاف”4 سنة 1986 والجزء الأوّل من سيرته الذّاتيّة القلميّة ” كيف حملت القلم”5 في نفس السّنة، أي سنة 1986 وهو في سنّ الثانية والستّين. وهذه الفترة التي استغرقها تأليف مدوّنته السّيرذاتيّة امتدّت على أكثر من عقد من الزّمن أي من 1975 إلى 1986. وقد تخلّلتها إصدارات روائيّة وقصصيّة وفكريّة، ونشاطات حزبيّة، ممّا يؤكّد أنّ مشروعه السّيرذاتيّ لم يكن يحظى عنده، بالاهتمام والتّركيز الكافيين، الذي يحظى به كتاب الحياة في العادة، من تدقيق وتجويد وتركيز وتذكّر، ومن تأمّل وانتقاء واعتصار لجوهر التّجربة. بل كان في نظره مجرّد مجال كتابيّ يستوي عنده مع كتابة الرّواية والقصّة والمقال.
تركّز اهتمام حنّا مينه في مدوّنته السّيرذاتيّة على مرحلة طفولته، مقارنة بالمراحل اللاّحقة من حياته. فنجده قد خصّ هذه المرحلة الممتدّة من سنته الثالثة إلى سنته الخامسة عشرة بثلاثيّة كاملة، عرض فيها طفولته المعذّبة، وتربيته الهشّة، وتغذيته الفقيرة، وصحّته المضطربة، ونموّه البطيء… وأماط فيها اللّثام عن توقّد ذهنه، ونباهة فكره، وتوهّج عاطفته. في حين، لم تحظ مراحل الشّباب والكهولة وبداية الشّيخوخة إلاّ بكتابين،كان قد ضمّنهما بعضا من تفاصيل سيرته في الحياة.
لقد كتب محكيّ طفولته في ثلاثة أجزاء. وهذه الأجزاء الثّلاثة تغطّي مجتمعة مرحلة طفولته، من سنّ ثلاث سنوات، إلى سنّ الخامسة عشر. لكنّها تتفاوت في التّبئير على تكوّن فرديّته. فلئن اهتمّ الجزء الأوّل بحياة الطفل من الثالثة إلى السّابعة، واهتمّ الجزء الثاّني بحياته من الثّامنة إلى الرّابعة عشر، فإنّ الجزء الثّالث لم يغطّ إلاّ ثلاثة أشهر، من حياة الطفل في اللاذقيّة وريفها. ثمّ إنّ إصدار هذه الأجزاء الثلاثة والموجّه رأسا إلى القرّاء والنقّاد والباحثين لم يكن تاريخ إصداره محدّدا بمدّة زمنيّة واحدة. بل كان إصدار الثلاثيّة المشكّلة لمحكيّ طفولته متباعدا نسبيّا في الزّمن. فلئن صدر الجزء الأوّل عن “دار الآداب” سنة 1975، وصدر الجزء الثّاني عن الدّار نفسها سنة 1977 فإنّ الجزء الثّالث الموسوم ب”القطاف” لم يصدر عن دار الآداب إلاّ سنة 1986. وهذا التّباعد الزّمني في التأليف والإصدار حال في رأينا دون قراءة الثلاثيّة في ترابطها، وعسّر مهمّة إدراجها ضمن جنسها الأدبيّ، الذي إليه تنتمي في منظومة أدب الذّات، باعتبارها أثرا واحدا وموحّدا في عناوين متنوّعة، يبئّر على حياة الطفل، وعلى ظروف التّنشئة والتّربية في محيطه العائليّ والمدرسيّ والاجتماعيّ.
لاشكّ إذن في أنّ كتابة الثلاثيّة هي كتابة جديدة متشابكة ومربكة، لأنّها كتابة يتداخل فيها الفرديّ بالجماعيّ، والذّاتي بالموضوعيّ، والمرجعيّ بالمتخيّل، ويتفاعل فيها محكيّ الطفولة، مع أشكال سرديّة كالسّير والتّراجم واليوميّات، وأدب الرّحلة والبورتريه. ولا شكّ أيضا في أنّ هذه الصّياغة الجديدة المتشابكة إضافة إلى تباعدها الزّمني في الصّدور، وخلوّها من المؤشّرات الأجناسيّة التي تؤكّد حقيقتها ستربك القارئ العاديّ والنّاقد ومؤرّخ الأدب على حدّ سواء، وتعسّر مهمّة القراءة الباحثة، التي تتصدّى لهذه المدوّنة السّيرذاتيّة.
ففي مؤلّفه “هواجس في التّجربة الرّوائيّة” شهادات، على عالمه الرّوائيّ الموزّع بين البحر والغابة وتوضيح لخصائص البطل الإيجابيّ في رواياته، وإشارات إلى دوره في تطوير الرّواية العربيّة، وتحوّلها من الرّومانسيّة الحالمة إلى الواقعيّة، التي أضحت تهتمّ بالإنسان والحريّة والمجتمع والوطن، لقوله:” وقد أسهمتُ ولو بشكل متواضع في نقل الرّواية العربيّة من الرومانسيّة إلى الواقعيّة الخلاّقة” 6وتأريخ لحدث غربته سنة 1958، وتلميح إلى سياقها العامّ، المتمثّل في الاندفاع الثوريّ والانحياز الأيديولوجيّ، وملابسات الوحدة السوريّة المصريّة، واحتدام الحرب الباردة، فيقول:” في عام 1958 أدركتني رياح هوج اقتلعتني من بيتي ووطني وألقتني في ديار الغربة” 8وتحديد لسببها المباشر:” سافرت في طلب العمل” 7وقد تضمّن هذا المؤلّف إشارات عديدة إلى معاناته في الغربة، كبوحه بما عاشه من حالات الفقر والجوع والتشرّد. فقد تجوّل في الشّوارع حتّى الصّباح. ونام تحت الجسور. وصار يحسد الكلب لأنّ له مأوى، وتخلّله تعليل لدواعي انقطاعه عن الكتابة، طيلة هذه المدّة. إذ لم يجد وقتا للرّاحة أو الكتابة، وتصوير لمعاناته في الحياة بعد شهرته الرّوائيّة، وكيف اضطرّته الظروف القاسية لكتابة المسلسلات الإذاعيّة بعد عودته من الغربة، وتأكيد لإيمانه بمستقبل الرّواية العربيّة. وما يعنينا من هذا المؤلّف الذي نراهن على أنّه سيرة ذاتية قلميّة هو تعبيره عن حياة صاحبه وحياة قلمه بعد 1969 مع بعض الومضات الارتجاعيّة المتعلّقة بظروف غربته، وما رافقها من معاناة بعد عودته إلى سوريا. فلا يمكن إذن أن نفصل حياة حنّا مينه الإنسان، عن حنّا مينه الرّوائيّ. فهما مترابطان ومتداخلان إلى حدّ التّمازج والانصهار.
وفي كتابه” كيف حملت القلم” تبئير على حياته من سنة 1939 حيث توقّفت ثلاثيّته، إلى زمن الكتابة والنّشر. وتكمن أهميّة هذا المؤلّف المرجعيّ الذاتيّ، في عرضه لحياة حنّا مينه بين 1939 و1958 عرضا منطقيّا وافيا. وهذه المرحلة الحيويّة من حياته تضيء نشأته الأدبيّة، وتهتمّ بحياته الشخصيّة وحياته القلميّة، في ترابطهما وتحوّلهما الشّامل والعميق. فقد جرّب قلمه في أشكال كتابيّة عديدة. وسعى إلى نشر محاولاته الأولى في الصّحف والمجلاّت، وهو يمتهن الحلاقة في اللّاذقيّة. فأغرته قدراته الكتابيّة، وفرص النّشر التي أتيحت له، بالانتقال من اللاذقيّة إلى بيروت ودمشق، للعمل في الصّحافة:” كنت في الخمسينات أعمل في الصّحافة” 9وأهّلته التّجربة الكتابيّة في مجال الصّحافة، لكتابة الرّواية، والتّعرف إلى الكتّاب والصّحافيين والنّاشرين، والمساهمة في تأسيس اتّحاد الكتّاب العرب، والانخراط الفاعل في الإنتاج الثّقافيّ.
لئن أفاد اسم الاستفهام (كيف) في العنوان معنى الاستخبار عن الطريقة، التي اتّبعها المتكلّم، ليصير كاتبا فإنّ نصّ العنوان تضمّن ما يدلّ، على أنّه سيرة ذاتيّة قلميّة، وعلى أنّها سيرة ذاتيّة قلميّة نضاليّة، لأنّ قيمة المتكلّم، الذي يحمل القلم في ذلك السّياق التّاريخيّ، الذي عرفته سوريا، هي من جنس قيمة حامل السّلاح الذي يناضل في سبيل قضيّة مصيريّة، بل هي مهمّة أخطر وأرفع.
إنّ تأليف هذا الأثر المرجعيّ الذّاتيّ، وإصداره سنة 1986 هو ثمرة وعي حنّا مينه، بأنّه كتب سيرة ذاتيّة جزئيّة. وهو خلاصة تأمّل في مسار حياته، الذي عبّرت عنه الثلاثيّة و”هواجس في التّجربة الرّوائيّة” وهو نتيجة تقييم لمسار حياة منقوصة. وقد أفضت هذه المراجعة إلى هذه الإضافة، التي تسدّ النّقص، وترتق الفتق، وتملأ الفراغ، وتربط الحلقات بعضها ببعض، لتكمل سيرة حياته، وتمنحها معناها الواضح.
لاشكّ في أنّ إصدار “كيف حملت القلم”، في هذا التّاريخ المتأخّر نسبيّا هو ملء لفراغ، في حياة حنّا مينه لا يعرفه القارئ، و سدّ لثلمة في مسار حنّا مينه الكاتب والإنسان، الّذي يجهله المتلقيّ. فلئن بأّرت الثلاثيّة على طفولته من سنّ ثلاث سنوات إلى سنّ الخامسة عشر، وأضاءت “هواجس في التّجربة الرّوائيّة” مرحلة كهولته، بما فيها هجرته وعودته إلى سوريا، فإنّ مرحلة الشّباب ظلّت معتمة، وحلقة مفقودة في سلسلة تاريخ تطوّر حياته. فلا يعرف القارئ كيف جاء إلى عالم الكتابة والأدب. وقد فصّل هذا الأثر القول في هذا الجانب تفصيلا، وأحاط به إحاطة شاملة.
المحيط النّشريّ الخارجيّ:
تتعاضد جملة من العوامل المتّصلة بالكتابة والنّشر، لتؤثّر في عمليّة القراءة وتربكها، وتوجّهها وجهة تصرفها عن الغرض المقصود. ومنها ما يتّصل بتصريحات الكاتب، في محاوراته الصحفيّة ومقالاته المتّصلة بكتبه ورواياته، وطريقته في الكتابة، ومفهومه للأدب، وتصوّراته للأجناس الأدبيّة، وبطريقة متابعته لإصداراته، قبل صياغتها النّهائية وخروجها إلى النّاس. ومنها ما يتعلّق بدور النّاشر في توضيح صلة النصّ بجنسه الأدبيّ، أو في تعميقه لنزعة التّمويه، والإيهام والتّعتيم الأجناسيّ.
وظّف الكاتب المحيط النّشريّ الخارجيّ، كالمقال الأدبيّ والحوار الصحفيّ، للإعلان عن مشاريعه الكتابيّة المستقبليّة، مستثمرا في ذلك كفاءته السرديّة وشهرته الرّوائيّة وانتظارات الجمهور، لتقبّل إصداراته الرّوائيّة:”أخطط الآن لإكمال سيرة عائلتي التي تأتي سيرتي الذاتيّة من خلالها. وسأكتب رواية هي تتمّة ل”المستنقع” ورواية هي تتمّة ل”الياطر” وجزءا ثانيا من هواجس في التّجربة الروائية”10 وهذه الإعلانات توثّق صلة الكاتب بقرّائه الذين خلقهم، وطرح قضاياهم، ومنحهم الرّؤية، وشوّقهم إلى متابعة أعماله:” وعلينا ككتّاب أن نربّي القرّاء،أن نشوّقهم إلى القراءة،أن نوصل أفكارنا إليهم” 11وهذه التّصريحات الواردة في محاوراته تتضمّن معلومات، تتعلّق بالجنس الأدبيّ للنصّ، وصلته بالآثار السّابقة.
تردّد الكاتب بين أجناس أدبيّة متعدّدة، وهو يحاول إدراج مؤلّفه، ضمن الجنس الأدبيّ الذي ينتمي إليه. وأسقط على الأثر الواحد هويّات أجناسيّة مختلفة ومتباينة. إذ نجده يعتبر الجزء الأوّل من ثلاثيّته “بقايا صور” رواية بدليل قوله:” ولقد قيل بعد روايتي “بقايا صور” أنّ لعمليّة التذكّر وقعا خاصّا في نفسي” 12واعتبره في مرّة ثانية ذكريات طفولته: “ذكرياتي في “بقايا صور” تبدأ منذ كنت ابن ثلاث سنوات” 13وعدّها في مناسبة ثالثة سيرة ذاتية لقوله:” إنّ المرء عندما يكتب عن تجربته ينبغي أن يكون صريحا كما هي الحال عندما يكتب سيرته الذاتيّة. ولقد كنت صريحا وأمينا في بقايا صور وفي المستنقع” 14ويعتبر هذا المؤلف نفسه عملا أدبيا روائيّا، وترجمة ذاتيّة وغير ذاتيّة في الوقت نفسه، بدليل قول الكاتب:” ولهذا عملت على جمع هذه الوقائع والصّور في عمل أدبيّ روائيّ هو ترجمة ذاتيّة وغير ذاتيّة في آن” 15
إنّ هذا التّقلقل النظريّ، بين أجناس أدبيّة متباينة نظريّا وإجرائيّا، يخفي في الحقيقة غياب وعيه النظريّ العميق بالأجناس الأدبيّة، وتركيزه الجوهريّ، على المضمون دون الشّكل والبناء الخارجيّ، لأنّ قيمة الكتابة الإبداعيّة الحقيقيّة في نظره، ليست في وضوحها الأجناسيّ، أو في شكلها الفنيّ. بل في واقعيّة محتواها وتقدميّته، ووضوح رؤيته الفكريّة والجماليّة، وارتباط ذات الكاتب بظروفه الموضوعيّة، ولاسيّما الجماعيّ في مختلف أبعاده.
2– ظروف التّأليف وأسرار النّشر:
عادة ما تختلف طقوس الكتابة من كاتب إلى آخر. ولحنّا مينه طقوسه الخاصّة التي تميّزه. فقد كتب “هواجس في التجربة الروائيّة” قبل “كيف حملت القلم” والمفروض من وجهة نظر القراءة الباحثة أن يتمّ العكس تماما. وتواريخ الإصدار تدلّنا على طقوس الكتابة المرجعيّة الذاتيّة عنده، وفوضى التّأليف التي تلازمه. فهو يكتب حياته بتلقائيّة دون تخطيط مسبق، أو استجابة لمؤثّرات خارجيّة، لأنّه ممتلئ بتجارب حياته، ومختنق بذكرياته إلى حدّ بعيد، ولا علاج لهذا الاختناق إلاّ بكتابته وسكبه على الورق، أملا في الشّفاء منه.
تميّزت ظروف تأليف حنّا مينه لمدوّنته السّيرذاتيّة، في الفترة الممتدّة بين 1974 و1986 بفورة إبداعيّة ونهم كتابيّ، وغزارة في الإنتاج الأدبيّ المتنوّع. فقد كتب في هذه الفترة أهمّ رواياته، ونعني بها “الشّمس في يوم غائم” و”الياطر” ومجموعته القصصيّة ” الأبنوسة البيضاء” ونصوص مدوّنته السّيرذاتيّة. وقد عبّر عن حالة الحمّى الإبداعيّة، التي اعترته بقوله:”إنّني كنت كالمحموم،أشتغل،أكتب”16 وتجسّمت هذه الفورة الإبداعيّة عنده، بالعمل في عدّة روايات دفعة واحدة:” وهكذا بدأت العمل في عدّة روايات دفعة واحدة” 17ومن طرائف طقوس الكتابة عنده، أنّه يشرع في كتابة رواية، ثمّ يتركها ليعمل في أخرى:”لقد بدأت عدّة روايات وكنت أبدأ رواية ثمّ أتركها لأعمل في أخرى” 18ويعلّل هذه الظاهرة الطريفة في الكتابة الإبداعيّة بما يشبه حالات القرم واللّهفة والفرح بالعودة إلى الكتابة، بعد انقطاعه عنها طيلة عشر سنوات، أي من1957 إلى 1967 إذ يقول:”أنا انقطعت بسبب التشرّد القسريّ عشر سنوات عن الكتابة ولمّا عدت إليها كنت كالجائع أمام المائدة ينتقل من طبق إلى آخر ثمّ يعود من جديد إلى طبقه الأوّل كأنّه لن يحصل على مائدة بعد ذلك أبدا” 19وقد تفسّر هذه الفورة الإبداعيّة والسّيولة الكتابيّة، برغبته في إثبات ذاته إبداعيّا وأدبيّا، بعد توقّفه عن الكتابة، لمدّة عشر سنوات قضّاها في التشرّد والبحث عن الرّغيف بين أوروبا والصّين، وبانفعاله بهذه التّجربة المرّة، وبشعوره بالظلم الطبقيّ والقهر الاجتماعيّ، واختناقه بمرارة تجارب الحياة اليوميّة، وبعمق مخزونه الإبداعيّ بدءا بذكريات الطفولة والشّباب، وانتهاء بتجارب الكهولة، وباختمار هذا المخزون الإبداعيّ، وبتحفّزه إلى أن يكون مادّة كتابيّة دالّة، لقوله:” اختزنت طاقة كبيرة لتجارب كثيرة شديدة التنوّع واستيقظت في أعماقي الهاجعة ذكريات بعيدة”20 ويضاف إلى ذلك ارتباط الكتابة عنده بالخوف من الموت، وبهاجس الانتحار، الذي ظلّ يراوده ويستبدّ به، بدليل قوله:” لقد راودتني تلك الأيّام فكرة الانتحار ومن عجب أنّ هذه الفكرة ظلّت تراودني طول حياتي” 21ولعلّ هذه الكتابات الغزيرة، والمشاريع الأدبيّة المتنوّعة والمتنامية هي عزاؤه الوحيد، للبقاء على قيد الحياة. بل لعلّها هي التي تمنح حياته معناها وتؤجّل فكرة الانتحار التي تلازمه.
وقد تعود هذه الفورة الإبداعيّة وغزارة الإنتاج وتنوّعه، إلى حصوله على وظيفة حكوميّة، في وزارة الثقافة السوريّة رغم محدوديّة تحصيله العلميّ. فأدّى ذلك إلى شعوره بالاطمئنان والاستقرار، بعد حالة الفاقة، التي لازمت حياته قبل ذلك. وانبرى يؤكّد للجميع أنّه جدير بهذه الوظيفة، وأنّ موهبته الأدبيّة وقدراته الإبداعيّة لا تحتاج إلى شهادات علميّة وجامعيّة. وقد توطّدت في هذه الفترة علاقته بالدّكتورة نجاح العطّار، التي طوّرت قدراته الأدبيّة والفكريّة، ودعّمت ثقته بنفسه، وعزّزت شهرته الرّوائيّة، وفتحت آفاقه على المعاني الوطنيّة المشتركة، وعلى قيمة النّضال الفكريّ، من أجل النّهوض والرقيّ. وقد أثمرت علاقتهما المتميّزة بحوثا جادّة، ومؤلّفات مشتركة.
لقد تنوّعت الأجناس الأدبيّة لمؤلّفاته، مثل الرّواية والمجموعة القصصيّة، والكتابة السيريّة والكتابة السّيرذاتيّة والدّراسة النقديّة، وتزامنت فترات تأليفها وتواريخ صدورها، في حين تباعدت تواريخ صدور الآثار المكوّنة لسيرته الذاتيّة في الزّمن. وهذا التّباعد الزّمنيّ، في تواريخ النّشر كفيل بإرباك القرّاء والنقّاد ومؤرّخي الأدب على حدّ سواء. ولعلّ هذا ما دفع بدر الدّين عرودكي إلى استفساره، عن ظاهرة التّعارض بين مشاريعه الكتابيّة المعلنة، وعمله على صياغة مشاريع كتابيّة مختلفة تماما، بقوله:”مرّة أخرى لمؤرّخي الأدب أن يفسّروا هذه الظاهرة في كتاباتك الرّوائيّة التي بدأت بالظهور مع “الياطر” أنت تعلن في نهاية هذه الرّواية عن جزء آخر متمّم.لكنّك تعكف على رواية أخرى مختلفة تماما فتكتب سيرة ذاتيّة في جزءين، لتعود إلى عالم البحر والبحّارة في ثلاثيّة تتابعها هذه المرّة على مدى ثلاث سنوات حتّى تنجزها. هل ثمّة ضرورة خارجيّة أملت عليك هذا الموقف من إكمال مشروع بدأته أم أنّ هناك أسبابا خاصّة بك؟” 22فكانت إجابته إفصاحا عن طقوسه في الكتابة، التي تجمع بين التلقائيّة والدّفق الإبداعيّ، وانقياد قلمه لثراء موهبته وخصوبة تجربته. وهذه الطريقة المتّبعة في الكتابة، التي تتّسم بغزارة الإنتاج وتنوّع الأجناس الأدبيّة، وبالاشتغال على مشاريع كتابيّة متباينة ومتنوّعة في الوقت نفسه، من شأنها أن تشتّت الذّهن وتضعف التّركيز، وتحيد بالكتابة عن مقاصدها الكبرى، وتربك النّاقد الذي يتصدّى لدراسة إصداراته ومتابعتها النقديّة .
بنى حنّا مينه علاقة وثيقة بدار الآداب. وآمن بمشروع مؤسّسها الدّكتور سهيّل إدريس، في خدمة الأدب العربيّ الجديد وتطويره، وجعله مطيّة للوعي، والنّهوض الحضاريّ الشّامل. كما آمنت دار الآداب بموهبة حنّا مينه الأدبيّة. وثمّنت ما يبدعه من روايات تمنح الرّؤية للنّاس، وترتقي بذوقهم ووعيهم معا. وهذا ما يفسّر العلاقة الوثيقة والمتواصلة بين المؤلّف والنّاشر. ولمّا كانت ثقته في دار الآداب كمؤسّسة نشريّة واعدة ثقة مطلقة، فقد انصرف إلى الكتابة والتّأليف وإبداع نصوصه، وفوّض سهيل إدريس تفويضا مطلقا في صناعة كتبه. فلا نجده يتابع إصداراته، ولا يتدخّل في المسائل الفنيّة والإخراجيّة، كشكل العنوان وألوان الغلاف وحجم الكتاب، وذلك راجع إلى ثقته المطلقة في كفاءة النّاشر، الذي يفرض سلطته على الشّكل الخارجيّ للكتاب:” منذ أربع سنوات و”دار الآداب” تصدر طبعات متعدّدة متلاحقة من كتبي وتدعوني إلى بيروت ضيافة وتكريما وشوقا وأنا لا أتصفّح طبعات كتبي مجرّد تصفّح ولا أقربها ولا أناقش في حجمها أو إخراجها” 23إنّ هذا التفويض المطلق، الذي منحه للنّاشر من شأنه أن يمنح سلطة مطلقة، لهذا الأخير كي يوجّه القراءة وجهة تلائم مصلحته التّجاريّة، لأنّ الكتاب في خاتمة المطاف هو سلعة تعرض في السّوق، لتستهلك. فحرص النّاشر على وضع المؤشّر الأجناسيّ (رواية) في أعلى الغلاف الخارجيّ، لكلّ من “بقايا صور” و”المستنقع” و” القطاف” لغاية إشهارها والتّرغيب في ترويجها، مستثمرا في ذلك شهرة الكاتب الرّوائيّة، ونفاد طبعات رواياته لقوله:”دار النّشر تستحثّني على العمل تقول كتبك مطلوبة جدّا” 24وفي سياق آخر، نجد “كيف حملت القلم” و”هواجس في التّجربة الرّوائيّة” خاليين تماما من أيّ مؤشّر أجناسيّ، فيعمّق هذا الجهد النّشريّ من التّعتيم على الجنس الأدبيّ للكتابين، ويقلّص من قدرة المتلقيّ على تجنيس هذه الآثار، ويحول دون ربط آثار هذه المدوّنة السّيرذاتيّة بعضها ببعض.
مواقف الدّارسين والنقّاد.
اهتمّ النقّاد والدّارسون، بالمؤلّفات المرجعيّة الذاتيّة لحنّا مينه. وتكوّنت حولها مدوّنة نقديّة، ما لبثت أن خذلتها ولم تخدمها. فلم نجد، في حدود معرفتنا طبعا، من النقّاد من حصر الآثار المكوّنة للمدوّنة السّيرذاتيّة لهذا الكاتب المتميّز، بعد أن استقرّت إبداعيّا، وتناولها بالتّحليل والنّقد، وعاملها معاملة المدوّنة السّيرذاتيّة، التي تغطي مراحل حياة المؤلّف بأكملها.
لقد خصّت نجاح العطار “بقايا صور” وهي الجزء الأوّل من ثلاثيّة حنّا مينه بتقديم مطوّل. ركّزت فيه على جدليّة الخوف والجرأة عند الشّخصيات الرّوائيّة للكاتب، بدليل قولها:” في بحثي هذا سأركّز على الخوف والجرأة لدى شخوص حنّا والجدليّة التي بينها” ب 25ولئن كانت مزايا التّقديم هي فتح مغالق النصّ، وتيسير عمليّة تقبّله، باعتباره واسطة بين الأثر والمتلقيّ، فإنّه يسهم إلى حدّ بعيد في توجيه القراءة وجهة أجناسيّة محدّدة. إذ اعتبرت هذا الأثر رواية:” تنفتح الرّواية على مشهد أب يُنقل على محمل” 26ثمّ رأت فيها رواية مختلفة عن رواياته السّابقة، لتضمّنها سيرته الذاتيّة. ووظفت التّعارض القائم بين الفصل الذي نشر من “بقايا صور” في مجلّة الموقف الأدبيّ بعنوان:” تاريخ حياة عائلة”، وإجراء السّرد بضمير المتكلّم المفرد، على أنّه حيلة فنيّة، لصرف الأنظار عن سيرته الذاتيّة:” ولقد يرغب الكاتب أن يخدعنا عن سيرته في هذه الرّواية” 27وانتهت إلى أنّها سيرة ذاتيّة مقنّعه، أو سيرة ذاتيّة روائيّة تعنى بمرحلة طفولته، مستدلّة على وجاهة ما ذهبت إليه بالأحداث السرديّة وبشخصيّة الطفل، الذي يسرد الوقائع بضمير المتكلّم المفرد:” وفي سياق الرّواية نفسها يقدّم الأحداث من خلال عيون طفل نظراته شبه محايدة تقوم مقام كلمات الرّاوي أو الشّخص الثّالث الذي يتكلّم بضمير الأنا” 28
اعتبر محمد الباردي أنّ ثلاثيّة حنّا مينه هي سيرته الذاتيّة، لقوله:”فقد كتب حنّا مينه سيرته الذاتيّة في ثلاثة أجزاء هي بقايا صور والمستنقع والقطاف تتطابق مع ثلاث مراحل من حياته هي مرحلة الطفولة الأولى ومرحلة الطفولة الثانية ومرحلة بداية الشّباب” 29وقد أهمل بذلك “كيف حملت القلم” و”هواجس في التّجربة الرّوائيّة”، وبعض مقالاته ومحاوراته وكتاباته السّرديّة، التي تضيء حياته. ولم يتفطن إلى أنّ المؤلّفات، التي تتوقّف عند بداية الشّباب ليست سيرة ذاتيّة. بل هي محكيّ طفولة يضيء حياة حنّا مينه الطفل.
عامل محمد الباردي ثلاثية حنّا مينه معاملة السّيرة الذاتيّة، ولذلك أدرجها في تأريخه للسّيرة الذاتية العربيّة ضمن نصوص مرحلة التّجاوز، التي لحقت مرحلة التأسّيس للسّيرة الذاتيّة، التي أرست معالمها “أيّام” طه حسين و”حياتي” لأحمد أمين و”سبعون” لميخائيل نعيمة… وثمّن نضجها الفنيّ، وتوفرها على الشّروط الأساسيّة في كتابة هذا الجنس الأدبيّ. وعدّها من ضمن النّصوص العربيّة النّاجحة، لأنّ كاتبها روائيّ بدليل قوله:” وسندرك أن أنجح هذه السّيرالذاتيّة هي تلك التي كتبها روائيّون” 30واستغرب كيف عاملها كثير من النقّاد معاملة الرّواية. ولم يعتبروها سيرة ذاتيّة. وتفطن إلى أنّ النقّاد بنوا مقارباتهم وتصوّراتهم، على تصوّرات الكاتب والنّاشر. فقد ساهما في تعميق الجدل حول جنسها الأدبيّ وضلّلا بذلك النقّاد والباحثين. وقد تجسّد ذلك في المؤشّر الأجناسيّ، على الصفحة الأولى من الغلاف الخارجيّ، للأجزاء الثّلاثة،تلك التي تقرّ بأنّها روايات، لقوله:” ولعلّ الكاتب أو ناشر الكتاب أو هما معا ساهما في إحداث هذا اللّبس عندما قدّما الكتاب بأجزائه الثّلاثة على أساس أنّه رواية واستبدلا الميثاق السّيرذاتيّ الصّريح بالميثاق الروائيّ” 31وفي هذا السّياق نفسه، اعتبر مراد كاسوحة الثّلاثيّة هي سيرته الذاتيّة، التي تتطابق مع السّيرة الخاصّة لحياة الكاتب. وأشاد بما فيها من صدق وأمانة وشفافيّة في توظيف ذكرياته، للتّعبير عن مسيرته وتوجّهاته الفكريّة بدليل قوله:”يبقى العمل الأهمّ في إبداع حنّا مينه الرّوائيّ هو ثلاثيّة السيرة الذاتيّة” بقايا صور، المستنقع،القطاف” بالرّغم من أنّها قد لا تنطبق تماما على السّيرة الذاتيّة للكاتب الذي عمد إلى تغيير الأسماء وإلى إدخال عنصر التّخييل الرّوائيّ أحيانا لكنّها تبقى مع ذلك متطابقة في خطوطها العامّة مع السّيرة الخاصّة لحياة الكاتب حيث نلمس فيها الصّدق والأمانة في التقاط الذّكريات الحيّة والمؤثّرة في مسيرة حياة الكاتب في طفولته وصباه وفيما بعد في توجّهاته الفكريّة32
اعتبرت يمنى العيد الثلاثيّة سيرة ذاتيّة روائيّة. واعتمدت جزئيا في تجنيسها، على مراجعات فيليب لوجون النقديّة لمفهومه الصّارم للسّيرة الذاتيّة في كتابه “أنا أيضا”، وكليّا على تعريف فاييرو للسّيرة الذاتيّة المتّسم بالمرونة والاتّساع، بدليل قولها:” ونحن إذا ما أضفنا إلى مراجعات لوجون النقديّة تعريف فاييرو الذي يقول إنّ السّيرة الذاتيّة عمل أدبيّ وإنّ هذا العمل قد يكون رواية أو قصيدة أو مقالة فلسفيّة يعرض فيه المؤلّف أفكاره ويصوّر أحاسيسه بشكل ضمنيّ أو صريح أمكننا أن نستنتج وجود نوع من التّداخل وربّما من الالتباس بين السّيرة الذاتيّة والرّواية التي تروي سيرة ذاتيّة أو تضمر سيرة مؤلّفها” 33 وتعلّل هذا التّجنيس الذي اعتمدته في الثلاثيّة بقيامه على وظيفتين: أمّا الأولى فهي إعادة الاعتبار إلى الذّات وتجاربها المتنوّعة. وأمّا الوظيفة الثّانية فهي إنتاج نمط روائيّ عربيّ أصيل لقولها:”كأنّ الثلاثيّة أمثولة لرواية عربيّة بطلها المؤلّف نفسه في حكاية ملحمة بؤسه” 34ونرى أنّ هذا التّصنيف الأجناسيّ، الذي أدرجت ضمنه الثلاثيّة حجب عنها المدوّنة السيرذاتية لحنّا مينه، في تناميها وتكامل عناصرها، وتنوّع بناها وترابط مكوّناتها، وحال دون ربط حلقاتها بعضها ببعض، ودون فهم المنطق الداخليّ الذي يضبطها والخيط الرّفيع الذي يشدّ هذه الأجزاء. وانتهت إلى فصل محكيّ الطفولة عن سيرته الذاتيّة القلميّة، حينما اعتبرت الثلاثيّة سيرة ذاتيّة روائيّة: واكتفت بتحسّس المدوّنة السّيرذاتيّة لحنّا مينه دون التفطن إلى تكامل أجزائها:” ويتابع حنّا مينه سيرته خارج الرّواية بالكلام على كيفيّة حمله القلم وعلى هواجسه في التّجربة الروائيّة أي بالتنظير لرواية صار داخلها” 35
تفطّن منصور قيسومة في كتابه” الأدب الحميم في النّثر العربيّ الحديث” إلى المؤلفات المكوّنة للمدوّنة السّيرذاتيّة لحنّا مينه، حينما رأى في الثلاثيّة و”هواجس في التّجربة الروائيّة” و”كيف حملت القلم” تعبيرا عن التّجربة الحميمة للكاتب. وميّز هذه الآثار عن غيرها من مؤلّفات الكاتب التّخييليّة، لاشتراكها في التّعبير، عن جانب من جوانب تجربة صاحبها في الحياة. غيرأنّه لم يوفّق في تجنيس هذه الآثار، وردّها إلى الجنس الأدبيّ الذي تندرج ضمنه. ولم يشذّ عن بقيّة الدّارسين، الّذين تناولوا المؤلّفات المرجعيّة الذاتيّة للكاتب فور صدورها، وفي تفرّقها، وبمعزل عمّا يربطها بغيرها. إذ رأى في الثلاثيّة تردّدا بين الرّواية والسّيرة الذاتيّة، أو بالأحرى روايات تنتمي إلى جنس السّيرة الذاتيّة، بدليل قوله:”وتنتمي بعض روايات حنا مينه إلى جنس السيرة الذاتية أو هي تجمع بين الرواية والسيرة الذاتية وأهمّ تلك ” الرّوايات” هي بقايا صور والمستنقع والقطاف. وهي تصوّر الفترة الزمنيّة الممتدّة من 1975 إلى فترة التّسعينات أو بالتّحديد إلى سنة 1989″ 36ويرى في كتاب حنّا مينه “كيف حملت القلم” نوعا من السيرة الذاتية يروي من خلاله قصّة الكتابة والإبداع لديه:” وبعضها الآخر يروي في نوع من السيرة الذاتية قصّة الكتابة والإبداع لديه ولقد صدرت سنة 1986 بعنوان “كيف حملت القلم” 37كما اعتبر كتابه” هواجس في التّجربة الروائيّة” مجموعة من المقالات المعبّرة عن آراء حنّا مينه في الكتابة الروائيّة:” ولحنّا مينه مجموعة مقالات أخرى بعضها يعبّر عن آرائه في الكتابة الروائية صدرت سنة 1982 بعنوان”هواجس حول التجربة الروائية” 38 (كذا) وما نلاحظه عموما، في قراءة منصور قيسومة للمدوّنة السيرذاتيّة لحنّا مينه، هو تقلقله في إدراج نصوص المدوّنة بين أجناس أدبية مختلفة، وعجزه عن ربط هذه الآثار بعضها ببعض، وفشله في إيجاد الخيط النّاظم، الّذي يمكّن من تبويبها ووصلها بمراحل حياة الكاتب المختلفة. ولعل هذا الإخفاق راجع في نظرنا إلى طرائق الكتابة، وتفاصيل النّشر من جهة. وإلى التسرّع والتّهافت المعرفيّ، والخلط النظريّ بين الأجناس الأدبيّة، وغياب الدقّة في دراسة هذه المدوّنة، وإيلائها ما تستحقّ من العناية والعمق، من جهة ثانية.
حقيقة المدوّنة السّيرذاتيّة عند حنّا مينه:
لا مرية في أنّ حنّا مينه، قد قصد من وراء تأليفه، لهذه المدوّنة المرجعيّة الذاتيّة، كتابة سيرته الذاتيّة، التي استغرقت كتابتها أكثر من عشريّة. وقد وزّعها على أجناس مرجعيّة ذاتيّة متنوّعة. منها محكيّ الطفولة في الثلاثيّة. ومنها السّيرة الذاتيّة القلميّة، التي نهض بها مؤلّفاه “كيف حملت القلم” و”هواجس في التّجربة الرّوائيّة”. تلاحقت هذه النّصوص وتعاضدت لتكوّن مدوّنة سيرذاتيّة مختلفة عن نمط السّيرة الذاتيّة الكلاسيكيّ السّائد والمألوف، الذي يكتب مرّة واحدة، ويحمل عنوانا واحدا، ويُنشر دفعة واحدة. وقد تعلّقت نصوص المدوّنة كلّها بالأنا المركزيّ، وبهويّته الفرديّة في تعالقها مع محيطها.
تعلّقت المدوّنة السّيرذاتيّة المتنامية والمتنوّعة، بعرض حياته الفرديّة الموزّعة على خط الزّمن. فلم يترك مرحلة من مراحل العمر معتمة. إذ ألفيناه قد وفّر كلّ المعلومات التي تتعلّق بهويّته الفرديّة، في نموّها وتطوّرها عبر مراحل العمر للقارئ المعنيّ بمتابعة مسار هذه الهويّة عبر الزّمن. وينسجم هذا الجهد الكتابيّ السيرذاتي الذي يروم التعرّف إلى الذات والتّعريف بها مع قول فيليب لوجون:” إنّ السيرة الذاتية هي قبل كلّ شيء محكيّ يتابع خلال الزّمن حكاية فرد”39 وقد مكّنه هذا الجهد الكتابيّ من بناء هويّته السّيرذاتيّة في وحدتها وترابط أبعادها. وتراءى لذاته كائنا من حبر وورق. ووقف أمام هويّته النصيّة وقفة المتأمّل المعتبر. وأضحت هويّته السيرذاتيّة التي أنتجها النصّ أهمّ من هويّته الحقيقيّة في واقع المجتمع. وهي التي ترسّخت في أذهان القرّاء. حتّى صارت المعبّر الحقيقيّ عن وجوده الأنطولوجيّ. غير أنّ عوامل عديدة قد تضافرت وتداخلت لتربك مجتمعة قراءة هذه المدوّنة قراءة علميّة رصينة وتدرجها ضمن نصوص السّيرة الذاتيّة العربيّة المعاصرة. ومن هذه العوامل ما يعود إلى طقوس الكتابة عند حنّا مينه،تلك الّتي تتّسم في مجملها بالتلقائيّة والنّهم الكتابيّ والفوضى،إضافة إلى ما حفّ بعمليّة الصّياغة والتّأليف من ظروف ذاتيّة وموضوعيّة جعلته يعبّر عن حياته الخاصّة بهذه الطريقة المتفرّدة. ومنها ما يعود إلى أسرار النّشر وما باحت به من تفاصيل تثبت كسل المؤلّف وقعوده واقتصار دوره في علاقته بالنّاشر على توفير المادّة الأدبيّة والفكريّة دون أن يتابع مسار كتابه أو يناقش كلّ ما من شأنه أن يعسّر تقبّله وما يضلّل القارئ ويوجّه ذهنه وجهة لا تنسجم مع مضامين الكتاب ومقاصده. فمن المعروف أنّ السّيرة الذاتيّة مشروع كتابيّ يتابعه صاحبه من طور الفكرة إلى طوره الأخير المتمثّل في صورته المنجزة في كتاب، لأنّه كتاب حياته وهو المسؤول عن كلّ تفاصيله وجزئياته بما فيها العنوان والمؤشّر الأجناسيّ وألوان الغلاف وشكله وعناوين الفصول. ولا يمكن التّعويل على النّاشر في القيام بذلك كلّه. وخلافا للمتداول والمعتاد فقد ألفينا حنّا مينه يثق ثقة مطلقة في المؤسّسة النشريّة، ويعوّل على كفاءة النّاشر ونجاعته في إيلاء مؤلّفاته ما تستحقّه من وسم أجناسيّ وعناية فنيّة تدرجها ضمن جنسها الأدبيّ وتساهم في حسن تقبّلها وفهمها وترويجها.
نتيجة لما سبق ذكره ذهبت مواقف النقّاد من مدوّنته السّيرذاتيّة مذاهب شتّى. فمنهم من اهتمّ بالجزء الأوّل من الثلاثيّة واعتبره رواية أو سيرة ذاتيّة مقنّعة مثل نجاح العطّار في مقدّمتها ل”بقايا صور” فلم تكلّف نفسها بعد ذلك مهمّة مراجعة أفكارها وتحيينها، وإعادة صياغتها وتعديل أحكامها، بعد صدور عناصر المدوّنة السّيرذاتيّة واستقرارها. ومنهم من اهتمّ بالثلاثيّة، فاعتبرها فريق رواية كيمنى العيد، التي بنت موقفها النقديّ من الثلاثيّة على موقف الكاتب، الذي عبّر عنه في المحيط النّشريّ الخارجيّ، وعلى موقف النّاشر من بعده، الذي عبّر عنه الوسم الأجناسيّ (رواية) بحجة أنّ أهل مكّة أدرى بشعابها. وهل يعرف النّاقد حقيقة النصّ أكثر من كاتبه وناشره؟وفاتها أنّ النّقد الحقيقيّ هو بحث وتحقيق وتدقيق. وعدّها فريق آخر سيرة ذاتية معبّرة عن حياة الكاتب، كمراد كاسوحة ومحمد الباردي. ومنهم من اهتمّ بكلّ مؤلفاته المرجعيّة الذاتيّة، وأدرجها ضمن الأدب الحميم، الذي يعبّر عن ذات المؤلف تعبيرا شاملا، دون جمع متفرّقها، وضبط خيطها النّاظم، وتوضيح هويّاتها النصيّة، وإبراز مقاصد مؤلفها من وراء وضعها.
إنّ الكتابة أنواع ودرجات40، وكذلك القراءة. وما يعنينا في هذا السّياق، هو الكتابة الحقيقيّة والقراءة الباحثة. فلئن كانت الكتابة الحقيقيّة فعلا حضاريّا حرّا و مسؤولا، مسؤوليّة مطلقة عن كلّ ما يرتبط بها ، وممارسة إبداعيّة واعية ومنظمة، تحترم القارئ ما دامت لا تتوجّه إلاّ إليه، فإنّ القراءة الباحثة هي مسؤوليّة معرفيّة جسيمة. وجسامة المسؤوليّة تكمن في التّقويم الموضوعيّ للنصّ، وتجديد خلقه، وتنظيم فوضاه، وإعادة كتابة الكتابة بحبّ وعمق وصدق.
لقد أسهمت عوامل متّصلة بفعل الكتابة، كالتلقائيّة والاسترسال الإبداعيّ، والفوضى بحجّة حريّة المبدع وضبابيّة المعاقدة القرائيّة، وتردّدها بين المعاقدة التخييليّة الرّوائيّة والمعاقدة السيرذاتيّة، وأخرى متّصلة بالنّشر كتكاسل الكاتب، وتقاعسه عن متابعة مسار صناعة كتابه، وكثقته المطلقة في كفاءة النّاشر وقدرته على التّمييز بين النّصوص، وعلى إدراجها ضمن أجناسها الممكنة التي إليها تنتمي، في إنتاج قراءات متعدّدة لنصّ واحد. أولاها قراءة آنية فوريّة مرتجلة تتصدّى للنصّ الأدبيّ لحظة صدوره. وهذا النّمط من القراءة شائع في أدبنا المعاصر. يتوجّه إلى الكاتب أكثر من توجّهه إلى القارئ. ويسعى إلى تمتين الرّوابط العلائقيّة، أكثر من خدمته للمعرفة الأدبيّة. وثانيتها قراءة تجزيئيّة، تجتزئ من مشروع الحياة بعض عناصره، وتهمل بعضه الآخر، وتعامل الجزء معاملة الكلّ. وثالثتها قراءة تعميميّة تُجمّع ولا تميّز، وتعمّم ولا تخصّص، وتعلق بسطح النصّ وظاهره، ولا تنفذ إلى باطنه، ولا تغوص على أعماقه. وهكذا أفرزت كتابة حنّا مينه لمدوّنته السيرذاتية قراءات متعدّدة. لكنّها متهافتة، خذلت النصّ، ولم تخدمه. ولا يمكن أن تدرج ضمن النّقد الأدبيّ البنّاء، الذي يراهن على النصّ ويتّخذه مطيّة لإنتاج المعرفة النّافعة. وهكذا كشفت لنا قراءة الباحثين والنقّاد للمدوّنة السيرذاتيّة لحنّا مينه أنّ العلاقة بين القراءة والكتابة وثيقة التّرابط، لكنّها شديدة التّركيب و التّعقيد، لأنّها تخفي أكثر ممّا تُظهر، وتطرح الأسئلة، أكثر ممّا تقدم الأجوبة.
الهوامش والإحالات:
- حنّا مينه: بقايا صور، دار الآداب،بيروت،ط1، 1975.
- حنّا مينه:المستنقع،دار الآداب،بيروت،ط1،1977.
- حنّا مينه:هواجس في التجربة الروائية،دار الآداب،بيروت،ط1، 1982.
- حنّا مينه: القطاف،دار الآداب،بيروت،ط1 ،1986.
- حنّا مينه:كيف حملت القلم،دار الآداب،بيروت،ط1 ،1986.
- هواجس في التجربة الروائية،الأثر نفسه،ص167.
- الأثر نفسه،ص168.
- الأثر نفسه،الصفحة نفسها.
- كيف حملت القلم،الأثر السابق،ص39.
10)الأثر نفسه،ص139 .
11)هواجس في التجربة الروائية،الأثر السابق،ص11 .
12)الأثر نفسه،ص12 .
13)الأثر نفسه،الصفحة نفسها.
14)الأثر السابق،ص26 .
15)الأثر السابق،ص12
16)كيف حملت القلم، الأثر السابق،ص140
17)الأثر السابق، ص 139
18)الأثر نفسه، الصفحة نفسها.
19) الأثر السابق،ص 138-139 .
20) الأثر نفسه، ص 139 .
21) القطاف، الأثر السابق، ص 106 .
22)كيف حملت القلم، الأثر السابق،ص138.
23) هواجس في التجربة الروائية، الأثر السابق، ص173.
24)الأثرالسابق،ص7.
25) نجاح العطار، مقدمة بقايا صور،ص 8.
26) نجاح العطار، مقدمة بقايا صور،ص 47.
27) الأثر نفسه، الصفحة نفسها.
28) الأثر نفسه، الصفحة نفسها.
29) محمد الباردي: عندما تتكلم الذات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005،ص 27 .
30) الأثر السابق،ص 26 .
31) الأثر نفسه، ص27 .
32) مراد كاسوحة: الرؤية الإيديولوجية و الموروث الديني في أدب حنّا مينه، دار الذاكرة، حمص-سورية،ط1،1991، ص ص 301-302 .
33) يمنى العيد: فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية و تميّز الخطاب، دار الآداب، بيروت، ط1، 1998، ص 75 .
34) الأثر السابق، ص 78 .
35) الأثر نفسه، الصفحة نفسها .
36) منصور قيسومة: الأدب الحميم في النثر العربي الحديث، الدار التونسية للكتاب،تونس،ط1،2012،ص 50-51 .
37) الأثر السابق، ص50 .
38) الأثر نفسه، الصفحة نفسها .
39) Philippe Lejeune, L’autobiographie en France, Armand Colin,1970,P33
40) رولان بارت: الكتابة في درجات الصفر، ترجمة محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري،ط1،2002 انظر( كتابة الرواية- الكاتبة و الثورة).
* روائي و باحث في السرديات- تونس