الثانية عشر إلا ربع ليلا،
كان مستلقيا على فراشه، مسترسلا في التفكير العميق، بدا و كأن شيئا يضايقه و يشغل باله كل الوقت، و لم يمض من الوقت إلا دقائق حتى التقط هاتفه و قام بتشغيله فتوجه بعجالة كما هو بادٍ صوب “الرسائل”، و كتب:
-مرحبا، كيف حالكِ؟
و ضغط على زر الإرسال
-بخير و الحمد لله
كذلك ردت على رسالته فور استلامها.
-جيد. إذا … ؟
-إذا ماذا ؟
-أتمَعَّنْتِ فيما سبق و أخبرتك به؟
أرسل جملته هذه و قد برزت عليه علامات الخوف و التوتر، كان خائفا من أن يأتي سؤاله برد يجر أذيال الخيبة أثناء رحلته إليه،
- لم أتمعن، و لم أُرِد قبل ذلك أن أتمعن.
و ما إن انتهى من قراءَتها حتى سرت بجسده النحيف رعشة امتدت إلى أخمص قدميه، ضربات قلبه ازدادت بشكل مفاجئ و مخيف، و تزامنا مع ذلك، فقد ارتسمت في ذهنه ملامح القليل من الشراسة على وجهها، لقد أَلِف أن يتصور تعابير وجهها مع كل رسالة واردة يقرأها.
-بمعنى؟
-بمعنى أني لا أريد أن أرتبط بك بأي شكل من الأشكال اغرورقت عينا الفتى بأنهار من الدموع اوشكت أن تفيض على جنباتها، يداه ترتجفان حتى كاد أن يفلت هاتفه.
و بصعوبة بالغة و مدة قد تجاوزت الدقيقتين كتب - و إن أحببتك بصدق؟ تبا، تبا لكم جميعا، أكرهكم، أوليس من حقي أن أحظى ببعض الحب؟ ألست إنسانا كسائر البشر، أَخَطَئِي الوحيد أنني أحببتك؟ و ربطت سعادتي بحضرتك، ما ذنبي أنا؟ لكن كما تشتهين يا صغيرة، إلى اللقاء.
و كتب مباشرة بعد رسالته الأخيرة تلك - أقصد “وداعا”، أتمنى لكم حياة هنية،
كتب كل ذلك و الدموع تنهمر من عينيه، كان شعوره آنذاك مضطربا و غير مفهوم، كان مزيجا من الحزن و الغضب و السخرية إن صح التعبير. - و لما الشتم؟ زد على ذلك انك تقحم الآخرين في الموضوع.
كان ذلك ردها، لكنه لم يَزِد على أن قرأ الرسالة فقط ببرود و فتور شديدين، فأقفل هاتفه وألقاه على جنب ثم استدار بعد ذلك نحو الحائط ببطء شديد، و بذلك لم تتلقى منه أي رد، كان كل ذلك كافيا ليجعله يتألم أشد الألم، بقي ساكنا هادئا لم يبد أي حركة، غير أن هذا الهدوء قد صاحبه اضطراب داخلي مع عبرات لا زالت تتدفق من عينيه السوداوين.
قال يحدث نفسه:
” أيُعْقل هذا ؟، و أنا الذي أحببتها كل الحب…، أنا الذي أكن لها الحب الخالص منذ سنوات… كيف أمكنها أن … أن تفعل بي كل هذا، أليس للمتعجرفة قلب، ما أقساها … ما أقساهم جميعا، لكن لماذا بحق الجحيم، ألأنني قبيح كل القبح؟ هَهْ، يالي من أحمق معتوه، نكرة كنت و سأظل، او لربما … لربما هي مستحية مني فقط… لا لا، و لِمَا قد تستحي من حضرتي، ما اغباني … حب هَه (كذلك قال لنفسه و هو يبتسم ابتسامة تُطفي على ملامحه الحزينة بعضا من السخرية)”
ثم استأنف يقول (محدثا نفسه) : “لكنني أحبها، و أنا لا شيء بدونها، هي حياتي، لكن… لكن ما العمل الآن، لا أستطيع تحمل هذا الضجر لوحدي، لا مسعف لي غيرها… إذا … إذا سأعيش حياتي كئيبا… أو … سأ … لا، لن أفعلها، و لكن … وحيد !! “
كل ذلك مر بخاطره بسرعة كسرعة البرق، كان واضحا أن الألم بلغ منه كل مبلغ. مرت خمسٌ من الدقائق على حاله التي لم يتبدل فيها شيء غير الدموع التي انقطعت،
نهض من على سريره بصعوبة بالغة و كأن شيئا كان يشده إليه، ثم مشى متجها بخطى بطيئة نحو النافدة التي لا تبعد عن سريره إلا مترا واحدا ففتحها، و مكث يتأمل الشارع الخالي الذي يسوده الهدوء إلا من مواء بعض القطط و نباح الكلاب، و كان ضوء القمر يلتطم بوجهه النحيف فيظهر ملامح الحزن و الخوف و التردد التي تغطيه، ثم أردف يقول بصوت أجش لا يكاد يُسمع “ألَا فلينتهي كل هذا”. - حمزة… حمزة !!
هكذا كانت تناديه أمه التي كانت لا تشبهه على أي نحو و هي تصعد السلم متجهة نحو غرفته التي توجد في الطابق الثالث للمنزل، كان وجهها يحيل إلى أنها امرأة في الأربعين من عمرها، و حالما وصلت إلى الطابق الثالث، أسرعت إلى غرفته تفتحها و هي تناديه، لكنها لم تتلقى منه أي رد،
كان آخر ما سمعه بعد التطامه بأرضية الشارع هو صرخة مدوية لصوت أمه و هي تناديه من نافذة غرفته.