“رواية الحنين إلى الوطن ” مهند النابلسي/ الأردن

*انطفأت الشيوعية في اوروبا بعد مئتي عام بالضبط من اندلاع الثورة الفرنسية: التاريخ الأول أنجب  شخصية اوروبية عظيمة، أما الثاني فأخرج المهاجر من مسرح التاريخ الاوروبي، وبذلك انجز سينمائي اللاوعي الجمعي العظيم أحد اكثر أفلامه أصالة: فيلم أحلام الهجرة: آنذاك حدثت، لبضعة أيام، اول عودة لايرينا الى براغ..

*يقرع الجرس ويفتح له الباب اخوه الذي يكبره بخمس سنوات. يتصافحان وينظران الى بعضهما. انها نظرات ذات كثافة هائلة ويعرفان حق المعرفة المقصود منها: كل منهما يسجل على الآخر بسرعة وسرا، شعره وتجاعيده وأسنانه، وكل واحد يعرف ما يبحث عنه في الوجه المقابل له، وكل واحد يعرف ان الاخر يبحث عن الشيء ذاته في وجهه. يخجلان من ذلك، لن ما يبحثان عنه هو المسافة المحتملة التي تفصل الآخر عن الموت، أو بطريقة اخرى اكثر فظاظة، يبحث كل منهما في الاخر عن الموت الذي يتبدى…وهما يريدان أن ينهيا بأقصى سرعة هذا البحث السقيم ويتعجلان ان يجدا جملة تنسيهما هذه الثواني المشؤومة، او سؤال او مناجاة، أو ان امكن مزحة (كهدية من السماء)…لكن لم يحدث شيء من هذا لينقذهما: “تعال” يقول الأخ اخيرا، ويقود جوزيف الى القاعة وهو يحتضن كتفيه.

*بسرعة غير متوقعة، نسيت براغ اللغة الروسية التي اضطر سكانها خلال أربعين عاما ان يتعلموها في المدرسة الابتدائية، وهي متلهفة لكي يصفقوا لها على مسرح العالم، ثم تفاخرت أمام عابري السبيل بالتزين بالكتابات الانجليزية:…هكذا ، ذات يوم، عندما هبطت ايرينا في براغ، لم يرحب بها في المطار بعبارتهم المألوفة”سالوت” الفرنسية، بل ب “هالو”.

*فمن سيسعه ان يعيش ضعفي الثمانين عاما، أي مئة وستين عاما مثلا/ لن ينتمي الى نوعنا البشري ذاته: بل لن يعود شيء يشبه حياته، لا الحب، ولا الطموحات، ولا المشاعر، ولا الحنين، ولا شيء، ولو عاد مهاجر، بعد عشرين عاما عاشها في الغربية، الى وطنه الام وما زال امامه أيضا مئة عام من الحياة، لما شعر بانفعال العودة العظيمة، وعلى الأرجح لما كانت بالنسبة له هذه عودة، انما فقط واحدة من الجولات العديدة في مسيرة وجوده الطويلة!

*منذ ساعتين او ثلاث ساعات تمشي في هذه الحياء الخضراء. تصل الى حاجز يسور حديقة صغيرة في اعلى براغ: من هنا يبدو الحصن من الخلف، من الجانب السري، هذه هي براغ التي لا يخطر وجودها على بال “غوستاف” (مؤسسها)، وعلى الفور، تهرع نحوها الأسماء التي كانت، وهي فتاة شابة، أثيرة لديها: ماشا، شاعر الزمن الذي كانت فيه امتها  تخرج، مثل حورية/ من الضباب، نيرودا، مؤلف حكايا الشعب التشيكي البسيط، اغاني فوسموفيك وفيريتش، من سنوات الثلاثينات، التي كان والدها، الذي مات وهي طفلة، يحبها كثيرا، هرابال وسكفوريكي، روائيان من ايام مراهقتها، والمسارح الصغيرة وكباريهات الستينات، الفائقة الحرية المرحة ودعاباتها الوقحة، لقد كان هذا هو العطر السري لهذا البلد، بمثابة جوهره “اللامادي” الذي حملته معها الى فرنسا.

*يعود تفكيره الى زوجة أخيه: كانت تكره الشيوعيين لأنهم كانوا يرفضون حق الملكية المقدس. وبالنسبةلي، قال في سره، رفضت حقي المقدس في لوحتي. حيث يتخيل هذه اللوحة على جدار في منزله القرميدي، وفجاة، يدرك مندهشا ان تلك الضاحية العمالية، وذاك “دوران” التشيكي، وهذه للغرابة ستكون في منزله مزعجة ودخيلة، فكيف خطر له ان ياخذها معه؟! هناك حيث يعيش مع زوجته الميتة لا مكان لهذه اللوحة: …يرى كرسيين متقابلين، المصباح واناء الورود موضوعان على حافة النافذة ثم شجرة الصنوبر الرشيقة التي زرعتها زوجته امام المنزل، تبدو من بعيد كذراع تدله على منزلهما من بعيد.

*بمزاج منشرح كان الكلب ينبح وجوزيف يقول في سره: يترك الناس الشيوعية اليوم ليس لن تفكيرهم تغير، وتعرض لصدمة، انما لن الشيوعية لم تعد تتيح الفرصة لا ليظهر المرء نفسه بمظهر المستقل، ولا للطاعة ولا لعقاب الأشرار، ولا ليكون مفيدا، ولا ليتقدم مع الشباب، ولا ليشكل حوله اسرة كبيرة: فلم تعد فكرة الشيوعية تستجيب لأي حاجة…حيث أصبحت معطلة الى حد ان الجميع يتخلون عنها بسهولة، حتى دون ان ينتبهوا لذلك.

*تسكت وتمر صور في رأسها: فتاة من اسرة فقيرة عاشقة لفتى من اسرة ثرية، امراة شابة تريد أن تجد في الشيوعية معنى لحياتها، بعد عام 1968، امراة ناضجة تتزوج من منشق وفجاة تتعرف على عالم ارحب كثيرا من ذي قبل: ليس فقط شيوعيون متمردون على الحزب، انماأيضا قساوسة وسجناء سياسيون سابقون وبرجوازيون كبار فقدوا مكانتهم…ثم بعد عام 1989، تبدو كامها خارجة من حلم، تعود من جديد كما كانت: فتاة هرمة من اسرة فقيرة.

خوسيه إيميليو باتشيكو

*الحنين.. عالم يختفي أمام أعيننا:

أنا لا أُحِبُّ وَطني

مَجدُهُ المُجرَّدُ

يُفْلِتُ مِنّي،

ولكنّي (مع أنّ قولي هذا قد لا يُبشِّر بالخيرِ)

سَأُعطي كُلّ عُمري

مُقابلَ عَشرَةِ أَمْكِنةٍ مِنهُ،

أناس مُعيّنة، موانئ، غابات، صحاري، قلاع،

شظايا هذه المدينة، الكئيبة، العملاقة،

بعض شخصيّاته التاريخيّة،

جباله،

وكذلك ثلاثة من أنهره أو أربعة

(خوسيه إيميليو باتشيكو)

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات