ينطلق الشاعر المغربي مصطفى الشقوري ، في تجربته الزجلية ، من واقع هضم منظومة القيم ، والتغريب الروحي الرهيب الذي بات يكابده الكائن ، مطعونا في انتمائه وأحلامه المشروعة .
فهو يجسد قصائد البداوة بكل ما تحمله من خشونة في المفردة ، وقوة في المعنى ، مع أنه فارق منبته إلى العالم المتمدن ، منذ زمن بعيد ، بيد أنه لم يزل متشبّعا بما تلقنته طفولته من تعاليم ووصايا الترحال ، مع أوسع وأحوى دوال الاتصال بالأرض ، فيما تزخر به من عناصر تغدق على الإنسان ، وسائر ما يمثل له امتدادا وتكملة .
فهو في مجمل نصوصه يصوغ مثل هذه التصالحات مع الأرض ، ويذود عنها بكل ما أوتي من حكمة ورجاحة عقل وقوة صوت .
بديهي أن تطبع منجزه الخشونة المنطوية على عمق المغزى ونارية الدلالة ، بحيث نجد تمرده مختلفا ونوعيا ، تنرسم له خلفية القول الزجلي ، لدى الشقوري، وهي تدين إلى أقصى الحدود ، راهن اغتيال الفضيلة ، والتطبيع مع آفاق النفاق المجتمعي المتفق عليه .
يقول في إحدى المناسبات :
[الأولى من الغرايبتقلال الغنم من زرايب
والثانية من الغرايب
تلقا الطير من بلادو هارب
والثالثة من الغرايب
تلقا شباب مايحشمو من الشايب
والرابعة من الغرايب
تكثر الفتنة والماصيب ].
تغلي نصوص مصطفى الشقوري ، على نار تبدل المفاهيم ، ذلك التبدل العكسي والسلبي ، وإننا لنستشف كهذا خطاب ، في زجلياته ، جليا و بدون أقنعة حتى ، ومن هنا فهو يفتح العديد من صفحات للبياض في نصوص صافية ومدافعة عن المنظومة القيمية التي تم إجهاضها لصالح أعراف ممجدة للمادية وجائرة على الروح .
فلا المروءة كما تفهم اليوم ، هي مروءة أمس ، ولا الرجولة مثلما تصورها قصائد هذا الشاب المبدع ، الذي نذر حبره لمقامرات رفع الحجب عن واقع نتن ، يكفي أن نقول ، أنه جعل أعزة الجيل أذل ، وعربد في المفاهيم ، على نحو هستيري ، كان من الطبيعي أن يقاومه الزجل ويناضل ضده ،بهذه القسوة والشراسة .
ويقول أيضا :
[اش مزال باقي زعمةكل نهار فيلم روتيني
يعرضو أجسامهم بلا حشمة
شيطانات في صفة الإنساني
واحد العجوز إسمها نعيمة
عنوان الحلقة ها أنا شوفوني
وحمادي كيف الأعمى
عاجز على الكلام ويح لرعواني
خليوني نبكي على الحرمة
وإلا بكيت لا تسكتوني
وشي رجال حتى هوما
جنونهم بغات تقتلني
اليوتوب عتابروه خدمة
ويسعاو بجيم وأبوني
وين عزة النفس وين الهمة
بغيت نفهم غافهموني
لحقنا زمان من أجل اللقمة
نبيعو الحيا والرجلة ثاني ].
يضرب شاعرنا المثل للمقدام الضهراوي ، نسبة إلى منطقة ” الضهرة ” ، الذي صنع منه زمن الشح والجغرافيا المتوحشة ، حالة استثنائية من حيث الوعي العميق باللعبة السارية ، ومن النضج بمكان ، كي يستأنف صاحبها مع هذه الدرجة الكبيرة من العصامية ، درب الإبداع ، مسربلا نصوصه بكامل هذا البذخ في تصوير واقع قتل القيم .
أتابع تجربته منذ زمن ، وفي كل مرة أكتشف عمقها أكثر فأكثر ، واراه منتصرا لمنبته في سياق وجودي نابض بالأحاسيس الإنسانية الفياضة ، وأكثر تصالحا مع ذاته ، وكل ما ينبثق عنها ، برغم أرديتها الثورية و الانقلابية .
شعرية تجري على لسان قرين ضهراوي ، ما ينفك يعاود بروزه ،نافضا سجلاته من تاريخ الجناية ، وشح جهة العمق ، فتولد مثل هذه السياقات المنشدة إلى ذاكرة المروءة غير المزيفة والمفاهيم الصحيحة المسكونة بنبض ووجيب القيم .
فأريج كلمته ، إنما يعبر حاملا لتراث أبدي وكامل ، وقد سجلته صفحات ربوع اسمها ” الضهرة ” ، وها نحن نستعيد تمثلاتها بقطعان ماشيتها ، وقوافل إبلها ، وطقوس بداوتها وترحالها ، على مرّ السنين ، وتعاقب الأجيال وتناوبات القطر والشح ،وهلم جرا من متناقضات وأضداد ، استطاع الشقوري الاشتغال على معانيها ، وإنتاجها في توليفات زجلية آسرة ومحاكية للمعلقات.
مثلما نطالع له ، قوله :
[شابة تفتن وصغيرة فلعمرزين زينة وكل شي عندها بعبار
المريولة محنة ومبكرة مع لفجر
صابرة وتدمر على وليدات صغار
ماشي حق لمحنة هكذا تدمر
من كان سبب حشومة عليه وعار
سولتها وفي أمرها متحير
واش بك ياكحلة لشفار
غي عينيها عبرولي على قلبها عامر
حشومة هاد الزين هكذا ينهار
جاوبتني بكلام يبكي الحجر
هذا مكتابي وحكمت الأقدار
لا من يحس بك ولا من يعدر
ولارحمة بقات في قلوب البشار].
بذلك فهو في أوج شبابه ، يحتوي طفولته البعيدة بجميع ما تشربته من حياة البداوة والترحال ، وهو من القدرة والبلاغة ، كي يبتكر في عناوين ومضامين تلكم الماضوية ، فيبعثها وقد ضخ في شراينها ، من معاناة العصر وأزمته .
ولا غرو أن تأتي قصائده رافلة بالخشونة والمستوحش المقبول ، مادام يبصم الانتماء الإنساني الكبير ، وينخرط في هوية مشتركة .
إنها إعادة الإنتاج وفق شاكلة موغلة في التباهي بالمنبت ،ومتوهجة بتيمات التصالح مع الذات والكون .
لذلك فإنها ، الحبيبة بدورها تأخذ صور وتجليات المنبت ، الضهرة بكل سلطتها على العقل والقلب على حد سواء.
خلاصة القول أننا إزاء صوت قوي في إخلاصه للنمط العامي الذي يغذيه معجم الفصحى الخالص ، تبعا لأسلوبية جاذبة ومترعة بتلاوين الانتصار لمنظومة القيم ، والمراهنة على كتابة بعث مفاهيمها بكل وضوح وشفافية ،نكاية في راهن الزيف والأقنعة والنفاق والمجتمعي المتفق عليه .