زير عبارات يجر المعاني إلى إغواء مخدعه
(1)
“عبثا نحاول فك لغز
هذه الريح
التي تعوي
التي تجري
في كل اتجاه
وحدها الفراغات
تفتح أحضانها
لتضم أطفال العاصفة”.
أفتح أذني، وأغلق عيني، ثم أشرع في تلقي انهمار نصوصه. ليس لأن قصيده لا يرى، إنما لأن نبرة صوته تجعلني أسمعه من مسافة رؤيتي. وذبذبات قراءتي تجعله يراني من مسافة سمعه. إذن، بيننا صوت ينظر، وأذن تقرأ. وما يتبقى ليس إلا
قصيدة تعوي في أدغال ذاته وذاتي.
“الأفق المترامي
لا ينفك ينظر إلينا
وها نحن لا نملك
سوى نظراتنا العميقة
التي تعرف
أن الأشياء ليست دائما
كما نعتقدها
وأن السراب الفاتن
ما هو سوى
خداع تمارسه
أشعة الشمس”.
(2)
“يا ليل
يا حارث الوجع
في حشاي…” !
هو صاحب قلة هائلة، لا وفرة بلا غدق. ليس لأن سلفه محمد الخمار الكنوني قال: “الكتابة الكثيرة شر كثير”. بل لأن حبره يجاهر: الكتابة “ليست دائما كما نعتقدها”. وبالتالي: هو يعاني في استلهام دخائله، في بناء تجربة نصه. ولا يطلق له سراحا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
ليتنافس سواه على بقع شاردة من ضوء. أما هو، فيكفيه أن يتغيا لُمَع الغيم. ومتى كان الشعر ينكتب في منأى عن رهيف العتمات، حيث يكمن برق الكلم ؟!
“عمود النور
في مدينتنا العتيقة
يقف متأملا
ينظر نحو الأرض
الأمر الذي يضايق
القمر في عليائه
فهل تأتي
نجمتي إذا ما خفت
حركة السابلة”.
أجل: في الرحيب العتيق للمعنى، هناك تحت شعاع المجازات، يرتق نور الدين شفوف قصيده. يطرز رواء عبارته، لا يعنيه أن يتعجل قطف ضوء شحيح من شجر البياض. هو الذي تساءل، ملء التياع الدلالة: “أكان صعبا عليك أن تزرع حلما جميلا في نومي المتعثر” ؟!
(3)
“الكلمات كالحوريات،
وكي تَراهُنَّ
عليك أن تلازم بحر اللغة
ردحا طويلا..”
يقول: “نمت واستيقظت، وكان الليل مازال في أوله، لم أجد غير نايات شجية من الشعر العظيم”.
لم أزر، بعد، شاشات كتاباته، ولا أدرك، إلا تخمينا، لا كيف، ولا متى، يذهب نحو أتون العبارة. بيد أن يدي، التي تتلقى، شبه متأكدة بأن يده، التي تبدع، تنتقي نبضها في فؤاد الكلام قبل أن تحيا على شفير التحبير.
يتبدى لي، إذا أنا ولجت دهشة عوالمه، مثل محو يكتب ثراء تدوينه، حتى لا يظل في عراء المقروء، وفي فيافي المتخيل المكلوم في فداحته. ولا أخاله يخاطبني، وينهرني: “إني قلق من نواياك غير البريئة”. إذ لا شيء يؤثث أفضية الكتابة غير نشوة إشهار التفرد في التعدد. و تكليم عنفوان الأسى المقيم في علو الروح، وفي منحدرات النص.
وتأملوا، معي / معه، كيف يرى، كيف يخاطب، القصيدة في لبوس امرأة، ويحاور امرأة في هيئة قصيدة.
“وقد أمكث زمنا
أرقب عينيها
فإن همست
هاجرت لشفتيها
أستقطر
منها عذب
الكلام”.
(4)
“يا فيضا من ورق
يدثرني
كلما هزتني حمى
الوحي” !
إِنّي نَزَلتُ، بعد فيوض التَرحالِ، ضيفا على لغته ذات الشبوب، فلقيت من غموض سيره ما به كنت واضحا. ولقي من وعثاء خطوي ما عبره كان مبهما. هناك، في تلك المفازة، كنت أنا من يكتب / يمحو، وكان هو من يتلقى / يدون.
وفي حالتيه معي، اشتبكت مع لغته، أفقيا وعموديا، دون أن يخاصمني اشتغاله على موسيقى الكلم. دون أن أضع مسافة ما بيني وبين نفسي. لأنه من الذكاء بحيث لم يتركني مقيما إلا في مهب تناقض انسكاب المفردة.
“لا شيء يمنح النشوة
غير كلمات تراقص بعضها
على سطور القصيدة
المجازات المسكرة
والصور التي تكسر
نمطية العوالم”.
وَجودُهُ في / مِنَ اللِسانِ، ونثاره في / عبر العين، كلاهما جعل من نور الدين خيي شاعرا لا تسكره إلا الكؤوس الضاجة بكل رنين ثمالة التعبير. لذا، لا تندهش إذا رأيت جملته تترنح من فرط صهباء الانزياح !
(5)
“بنكهة المجاز
بطعم الإستعارة
تستلقي العبارة
والخيال بحر
فيه تسبح الكلمات
كن صيادا
يمتهن الصبر
يصنع من أدوات الربط
طعما للسنارة..”.
غرابتي لا توحي بانتهاء مع هذا المشاكس، الذي يقدم فنجان شعر بدون سكر، ثم يجعلك تذوق حلاوة المعنى، فتظن، وقل تعتقد، بأن المذاق منك، أنت، يأتي. تلك لعبته، ذاك مكره. ولما يراك مشبعا بإغوائه، مثقلا بجريرته، يشهر في وجه اندهاشك قولته الجانحة، والمخاتلة: “أغبط ذاك الذي يضيع في خياله، ثم يعود ليضيِّع القارئ في عوالمه”.
“هذا البياض فخ
حقل ألغام
لتعبريه
تحتاجين أجنحة
ولتكتبين عليه
احذري نسف
الكلمات”.
بلى. إنه المخيال الذي لا يبتلع الأقراص المهدئة، حين يصاب بأرق الليالي. إذ في أرومة هذا الأرق يتشكل سفر النص نحو أقاص بها يكون سفرا، يكون شعرا.
(6)
“كنت، وسأبقى،
زير حروف
أجر أجملها الى مخدعي..” !
في “صمت الرحيل”، أبحرت دواته وسط لجج لعوب. أليس هو زير عبارات يجر المعاني إلى إغواء مخدعه، فتتعرى الكلمات، ذوات الغوايات، على سرير يراعه ؟!
ويبقى سؤال رابض بيني وبين سريرته / سريره، أدع إجابته له، لكي يتورط، أجمل، في فداحة البورتري، وحتى يلقننا ما شاء له هواه من دروس الغنج إزاء رقص اللغة:
كيف تجر النصوص
إلى غواية معناك،
وتجرنا نحن
إلى معنى غوايتك ؟!
نورالدين خيي شاعر يضع قلبه على حواف صوته. يتزيا بكل ما يعري صبواته. وعلى مرأى من صمت القصيدة، يتكلم دون هسيس. لذا، حين أقرأ نبراته أحسه يتلو صوتي. ولما أتقصى هديره يسلب مني جلبة مسمعي. ولا عجب، ما دام هو شاعر يتركني أمام قيظ نصه، ويقف خلف نسائم محبرته.